أنفاسكنت ارقب مجيئها كل يوم,انتظر إطلالة بهائها الساحر وأنا رابض في زوايا التيه الدامسة.هدني التعب وأضناني شوقها الحارق.تمثل أمامي في كل أحلامي باعتبارها ملاكا قادما من عمق السماء.تداعب فروة راسي غارزة أصابعها الناعمة,الممدودة بشكل أسيل.ملامح وجهي المتلاشية تحت ظل الذكريات العابرة فوق سقف الحلم,تتفصد عرقا يتلالا على مسام جلدي المصفوع بلهيب الشوق.ولكن لما تقبلني بشفتيها المكتنزتين,تبرح جسدي كل ضروب الألم لأنتشي تحت ضغط رحيقها العسلي,ثم تمضي سرابا يتعرج في التواءات وتقاطع أزقة الضياع,بين تهويمات الواقع المدلهمة.كيف يمكن لقصة حبي هاته التي تماهت مع أوصال الجسد المتداعي,الآيل للسقوط في كل لحظة,أن تصير لغوا أنفس به عن ضيق صدري وحرج خيالي؟
قررت بعد عناء ملاحقتها انه يجب ان أوقفها عند حدود استطاعتي لالتمس منها أعذارا عساها تستحيي من دلالها الزائد.وتفسح لي مجالاتها كي اندس بين تلابيب غنجها واكشف سرها الدفين ليصير حلمي هدا ناموسا أطبقه في حياتي قبل مماتي.

القصف يشتد ، الصواريخ والقنابل تتساقط كالمطر ، والانفجارات تدوي في كل مكان ،المدينة تحترق...
ثم هدا الوضع ، وصاح القائد الاكبر في مكبر الصوت: انت محاصر برا وبحرا وجوا ومن تحت الارض ايضا ، فلتخرج الينا انت واهلك والمقربون حفاة عراة ، والا دمرنا المدينة..
اصفرت الوجوه واصطكت الركب وقال سيادته لمستشاريه العشرة : افتوني في امري ...
احنى السادة المستشارون رؤوسهم
انتظر سيادته لحظة ثم صاح:قلت افتوني في امري..
فقال الاول :نبيع كل شيء يا مولاي
-امن راي اخر؟
فقال الثاني : السرداب السري يا مولاي.
ثم نظر سيادته الى كبير المستشارين وخاطبه:وانت ما رايك؟
هز كبير المستشارين راسه وقال :الاستسلام او الموت يا مولاي.

أنفاسفي هذا الليل البري ، البارد ، والهادئ ، والمخيف ، والممطر بهدوء، كنت أسمعه يأتي خفيفاً من بعيد ، كأنه صوت طائر محبوس ، أو صوت لكائن آخر لا أعرفه ، لكنه صوت أنيس ، يشبه الموسيقى أحياناً، وأحياناً يشبه الرنين البعيد .
أسمعه الآن ، وأنا أرتجف برداً ، بعد أن ترجلت من سيارتي التي هوت في منحدر صغير وسط براري المدينة القريبة ، حين كنت أبحث عن مخيم غامض الملامح.
أغلقت أبواب السيارة بعد أن أضأت نورها القصير ثم مضيت ، تجاه ضوء بعيد وشاحب ، يظهر أحياناً ويغيب فجأة ، ظللت أسير وسط الظلام ، على أرض مظلمة ، ورطبة لازالت تستقبل مطرها الخفيف ،وحولي ذلك الصوت الذي يأتي من كل الجهات موسيقياً وعذباً، يرن في أذني الآن بقوة ، صوت أليف ومميز وسط هذا الضياع الغريب ، حتى أنني لا أعرف اتجاه المدينة ، رغم الأضواء البعيدة والباهتة التي أراها تنبعث أحيانا من كل اتجاه ، و تختفي فجأة وكأنها شهب دخلت في لعبة مسرحية مع ( خوفي ) الذي لم يبلغ منتهاه ، لكنه لازال ممتعا ومُنتظراً أو متحفزاً أو مندهشاً.

أنفاس1)
الآن وقد عبرت إلى هناك, أستطيع أن أجزم دون مواربة, بالحقيقة التالية:
إن كلبا يعبر الطريق لا يفعل ذلك أبدا بشكل عفوي, فلا شئ عفوي في الحياة, وما يبدو عاديا حد الإبتذال ليس مفصولا بالضرورة عن الوقائع العظيمة للتاريخ..
كل كلب يعبر الطريق إنما يفعل ذلك بغرض الإيذاء.
2)
كان المطر قد توقف..
وتوقفت ماسحتا الزجاج الأمامي عن الرقص..فتبدت الطريق أمامي شبيهة بعاهرة مصابة بالسفيليس ودائمة التحفز لإرسال شتيمة مقذعة لأول قادم.
الطريق لا تمضغ اللبان..

أنفاسو صِرْتُ غَريباً بِيْنَ أَهْلِي وَ مَعْشَرِي    وَ مَنْ كَان ذَا فِكْر كَفِكْرِي يُغَرَّبُ1
 كم أشبه دون كيشوت , فأنا بسيط البنيان , و أحيانا أشعر أن أفكاري ساذجة , و أذكر أن بنية نبهتني لأمر الشبه , فكانت دائما تناديني بدون كيشوت , وعندما كنت أسألها لمَ ؟ , ترد ضاحكتا :
ـ تمتلكِ لحية كلحيته .
و أزعم أن أمر الشبه لم يكن مقتصرا على اللحية فحسب , أظن أن تلكِ البُنية رأتني أُكْثِرُ من قراءة الجرائد , فاعتقدت أنّي مهوس بقراءة الصحف كهوس دون كيشوت بقراءة كتب المغامرات .
عموما , مرت بي الأعوام , و تعرضت لعدة تجارب حياتية , جعلتني أعتقد اعتقادا ـ لا يخالجني فيه شك ـ أن دون كيشوت هذا شبيهي , فقصتنا واحدة , كلانا أصابتنا لعنة الملل , فأردنا أن نصنع شيء في حياتنا , هو قراء روايات مغامرات الفرسان , و أنا قرأت كتب الفلسفة و الشعر و قصص الحب , هو تأثر بما قراءه حتَّى عد نفسه فارسا , و أنا تأثرت بما قرأته حتى خلت نفسي شاعرا , و عاشقا , بل , و فيلسوفا أيضا .

أنفاسالست ياسمين حردانة منذ عدة أيام. وهذه ليست أول مرة تحرد فيها مدام ياسمين. لكن هذه المرة ليست مثل كل المرات.. وطول ما هي حردانة وهو يحدق إلى نصف التلفزيون.
يجلس نبيل الآن وحيدا في البيت نادما على ساعة الشيطان، أو هو يوم الشيطان.. بعد أن رجع إليه عقله، وصار كل همّه عودة زوجته والأولاد، صحيح أن الموضوع كبر وتطوّر، لكن نبيل لا يرى أنه بحاجة إلى تعقيد ولا ما يحزنون، رغم أن الجرح ما زال طازجا والحكاية لم تجف. ولكن كيف سيعيدها بعد كل الذي حصل؟ وفعلا ما حصل كان كبيرا.. وإنهاء مشكلة أصعب من بدئها في غالب الأحيان. في عقله الآن يكبر سؤال، ويغيب جواب.. وفي فمه يتجمد كلام. ولكن لو رجعت لا يوجد في البيت غازا، فالاسطوانة فرغت من أيام.
أصل الموضوع أنه ذات مساء عتمته خفيفة فيها طراوة، جلس نبيل على الكنبة أمام التلفزيون في أمان الله، وأسند ظهره الذي يسري في فقراته تعب وتنميل راح يحز مفاصله في فتور، وقد بدأ نبيل يهيئ نفسه ليشاهد تمثيلية رومانسية مفعمة بالحب وفيها غرام، فمدد رجليه على طاولة بلاستيكية صغيرة، فاختفى كعب إحدى قدميه في ثقب من ثقوبها الكثيرة المنشورة على سطحها الخشن..

أنفاس" لا تقُل للأبد/ حبّني اليوم/ أو حبّني فجرَ غد/ حبّني دون حد".
الشاعرة العراقية :  لميعة عباس عمارة
"أخذتُ من وقته الثمين نصف ساعة، هي حصيلة لقاء يوم بأكمله أقضيه
في انتظار..!"
استدار بصمت، وهو يعبث بأوراقه وأبحاثه على النت..
خلعتُ ثوب الوقار، ألقيت سترة الاتزان، ذبلت عيوني، تلاعبت بحبال صوتي،
اقتربت منه بغنج الصبايا.. حجبت عنه القراءة لأثير انتباهه:
- هلا تحدثنا قليلا؟؟
وتطوف في خيالي صورة ذلك الـ...
"كلما هممت  بأن أستقل سيارتي لقضاء مآربي،  قفز كالجنيّ أمامي.. يلازم خطواتي،  يحفظ برنامجي اليومي، يتتبع أوقات مغادرتي للبيت، أجد  سيارته الفارهة تعترض سبيلي، كأنما يستعرض جاهه ونفوذه، على مضض أتحمل  هذه اللحظات،  أتجاهله دون أن أنبس بكلمة، وأغالب رغبة دفينة في أن أبصق على وجهه الكريه."

أنفاسكان محفوظ لا يكترث بدروسه.. ربما لم يكن بليدا.. بل كان مسكونا بتقليد الكبار كعجوز مخضته الحوادث.. وبصرته التجارب.. رغم انه غلام لم يراهق.. وجهه ناشف مخدود.. يصيخ السمع في مجالس الرجال.. ويرقب حركاتهم بحس دقيق متسقط، والده لم يمتهن اي عمل من الاعمال المعروفة.. انه رجل أمي.. لكنه ليس فلاحا ولا عاملا ولا راعيا ولا موظفا.. يتأنق في ملبسه.. ومما يزيد في بهائه عندما يبتسم.. لمعان الذهب في احدى اسنانه.. رغم ان انطفاء احدى عينيه يزيل ذلك البهاء عن مخيلة الرائين اليه.. ولعل ما يدعو الى القرف منه ـ في نظر البعض ـ سحنته المربدة ووجهه المتجهم وخيلاؤه المهارش، في تلك القرية التي راج فيها لغط واخز واستشرى همس مترع باللمز.. عن مشاهدة الناس لوالد محفوظ وهو يزيل الغبار عن كتف ـ البيك احد كبار الملاك ـ الذي كان يزور القرية للاشراف على مزرعته.. فيما كان يتبعه والد محفوظ كظله بذلة وخشوع أثارت حفيظة أهل القرية وسخريتهم..
عدنا.. انا ومحفوظ من المدرسة.. نغذ السير في طريق غير ممهدة الى قريتنا الجاثمة قرب الجبل كفرطوسة خنزير.. كانت حباحب المطر.. تغسل وجوهنا المقترة.. قال محفوظ وهو يمحص النظر في التراب البليل: (نحن يجب ان نعمل لا ان ندرس).. لم اجبه.. رمض وجهي.. اندلق الدمع من عيني كرد فعل شرطي على حبيبات المطر الصافعة القريرة.. داخلني شعور بالمهابة له.. وكأنني امام شيخ جليل ينطق بالحكمة.. احجم لساني عن الدوران.. لكنني همست في قرارة نفسي: (وماذا يمكننا ان نعمل ونحن لم نسلخ العشر من العمر؟).. وقف كالجندي.. فاغر الفم كالابله.. وقبل ان يروم مكانه.. قال بحزم وثقة عالية كآمر: (انا قررت ان اترك المدرسة نهائيا)..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة