أنفاسوقفنا في طابور طويل، كل منا ينتظر دوره. بعضنا يضرب زميله بالصفيحة التي يضعها على رأسه، وبعضنا الآخر يقع متعمداً على ظهر رفيقته التي تنتصب أمامه كلوح مسجى.
كنت أقف وحدي، بعيداً عن كل أقراني، أتأمل العابرين والعابرات، تحاصرني دهشة الوجوه المحطمة، الملابس الرثة، المهترئة. أحدق بعيونهم تارة، وبالسماء تارة أخرى، لا ألوي على شيء، سوى العودة باكراً إلى خيمتنا، لا ككل مرة فيضربني أبي (علقة ساخنة).
أمام (طلمبة) الماء وقفت، ملأت صفيحتي ثم خرجت من هول الزحمة. وفجأة، ودون سابق إشعار رأيت رنا، تتقدم وكل رمال المخيم تتعلق بين قدميها، الماء يبلل ملابسها المتسخة. تنظر نحوي وتضحك، ثم تجري فأجري خلفها كمجنون أدرك فريسته اللذيذة أخيراً، وحين تصل باب بيتهم، أكون قد أنزلت عن رأسي تلك الصفيحة الصدئة التي أرهقني حملها، أعطيها لأمها، فتدعو لي بالخير، ثم تدعوني لشرب كوب من الحليب. أرفض خجلاً وأنا مطأطئٌ رأسي، ثم أعود حاملاً صفيحتهم بانتظار دوري مرة أخرى، ومرة أخرى يضربني أبي حين أغادر الطابور قبل أن أصل الماء المتخثر في أرضنا.
ذات ليلة، خرج أبي عن طوره، وضربني بكل قسوة، لعن (سلسفيل) رنا ابنة الجيران التي عرفتها، كان يعتبرني أحمق، أخدم الآخرين على حساب بيتنا المهدم في المخيم، ثم لا تهدأ ثورته إلا بعد أن يشتم أمي بجلافة، فيقول:

أنفاسجلس على كرسيه الجلدي المعتاد  ، في ركن بعيد عن شاشة التلفاز المسطحة و المعلقة بين فكي جدار سميك ، تشد إلى ألوانها و حركات صورها ، أبصار الكثير من الرجال المختلفة أعمارهم ، ينتظرون في خضم تفاعل أدخنة السجائر الرخيصة ، بدء مقابلة في كرة القدم ..ربما قد تكون مباراة للفريق الوطني .. لم أكن أدري و لا أهتم بتاتا ، بهذه اللعبة إلا من باب استحضار سحر قواعد اللعب  التي يخضع لها عشاق هذه اللعبة المسماة "شعبية" ، لأنها بالفعل صممت لتخاطب الفئة الواسعة من الشعب ، التي كان من المفترض أن تنفض عنها الغبار الكثيف العالق بأبصارهم ، و تكسر قيد خوفهم المٌتقًن  من ركوب سفينة نوح ..
شرع في كتابة ما يلي :
( هم ليسوا نحن . لا علاقة تذكر بينهم و بيننا ، سوى علاقة التضليل ، و التفنن في إبداع المزيد من وسائل التزييف و القمع و الإقصاء ، بشتى أنواعه و روائحه ، في عهد جميل ، بالصراخ الحالم ، الذي كان صمتا في الأمس القريب ، و الذي كثيرا ما تغنوا فيه بالكلمات الرنانة ، و أعلنوا على العديد من منصاتهم  المتحركة ، في خطبهم الرسمية ، عن ولادة جديدة و نوعية ، لزمن مختلف بحداثته المصنوعة من قصب السكر ..
 هم قلة ..، لكنهم أقوياء بصمتنا ، المغسول بسائل أسود يخفي أكثر مما يبوح ..، . أما  نحن فكثر كحبات الحصى المحاصرة ، داخل زنزانة غياب مد الموج الهائل ، لا يهمنا أن نرى غير أخطائنا . . و هي بالضرورة أخطاء الآخرين من قبلنا ، تعودنا تسميتهم بالآباء و الأجداد .. و السلف المبتور العين ..أعيانا الركض الخاسر وراءهم .. و الآن لا اتباع بعد اليوم ، سواء كانوا سلفا أو خلفا ..

أنفاسوعاد من سفره، لم تكن تتوقع أن يرجع بهذه السرعة، هو يسافر متى يشاء، ويعود متى يشاء، وفرحت رغم كل شيء، ثم رفرفت في البيت كفراشة. أخذ دوشا ،ثم تغدى ونام، وتساءلت: ما المانع لو قدم لي الهدية قبل أن ينام؟
في المساء استيقظ، شرب قهوته، دخن سيجارته في البلكونة، وعندما كان يهم بالخروج، قال لها: لا تنسي أن تردي أشيائي إلى الدولاب،أسرعت إلى الحقيبة، لا شىء في الحقيبة.. عند منتصف الليل عاد يتمايل، ارتمى عليها قائلا: تعالي، أريدك الآن، تعالي..حاولت أن تنسل منه، فترنح ودفع كرسيا بقوة، فصاح الرضيع باكيا،.نطت كغزالة نافرة نحوه، هزته وبدأت تهدهده وتغني له: نم ياحبيبي..نم يا..قاطعها وهو يستلقي على السرير: تعالي، قلت ضعيه وتعالي..

أنفاسنمت وأنا أتمنى لو أنهض فأجد نفسي في عالم آخر ، لا يوجد فيه أي صوت إلا الأصوات التي أودعها الله في مخلوقاته عند خلقها ، حفيف الأشجار، وتغريد الأطيار، وصفير الرياح تحمل الأتربة وتنثر الغبار ، وصوت البراح يتجول في الأسواق بصوته ذي البحة ، يبشر بالمواليد وينعى انطفاء الأعمار ، يرد عليه مغني السوق يروي قصة الإنسان أيام كان إنسانا ،يسكب روحه خالصة في مقطوعات، تتعانق فيها الأجيال تسمى أشعار تتراقص مواويلا تبكيها  الأوتار.
  ونمت،  يا حافظ يا ستار ؛  نمت وأنا أدعو: اللهم استرنا من الخافيات و المخفيات ،ومن المنافقين والمنافقات،  و من البارزين من تحت الأرض والبارزات، ومن النازلين من السماء والنازلات ، واسترنا من القياد وأتباع القياد و عبدة السادة والأسياد ، وممن شابههم من أبناء الحرام وأراذل العباد.
  نمت وما نمت ، وإذا بالباب يدفع ، ويدخل منه القايد ببرنوسه الأحمر على حصانه الأشقر ؛ تتبعه محلته ذليلة مهرولة،  أخذت تصطف وتلتف حولي حتى أحاطت بي من جميع الجهات وأغلقت الحلقة،وقدمت لي القايد بصوت واحد متجانس متناسق: أيها الأبله هذا الزعيم ،الشهم الكريم ،سيد بالأمس سيد اليوم ، بهذا شهدت الأمة وأقر القوم ، وأنت تتعوذ منه دوما قبل أن تخلد للنوم ، وتتناسى أن تلهج باسمه .
قال الزعيم: ماذا ترى؟

أنفاسشتاء يتكتم اسراره ، مغمس برائحة المطر والطين ، ومزاريب توشوش للارض الموات مخلفة اخاديدها وحفرها للصيف المعضود بسواعد تشق التراب في محاولة لتحرير اللقمه ، من ذل استعباد يهددها . قطرات المطر تدغدغ زجاج النافذة المكسور ثم تنساب بهمس عازفة سمفونية الشتاء تدفئ ارتجاف ضحكاتنا تهددها الليالي بوحشة ، اصابع الليل تنساب في الاركان والزوايا ، بلا استئذان بينما تنساب اشعة الفانوس الشاحبة على وجوهنا العتيقه ، البالية الملامح ..
وجه امي بالذات ، يثير في سؤالا قد يبدو للوهلة الاولى غريبا او ابلها ، حين كنت انظرها تعارك زمنها ، تحسم امر الحياة معها ، لها ولصالحها ، بقوة  لعل ملامحها ، قوتها وتحديها ، كانت جميعا لامرأة اكديه ، او سومرية ، ورثتها والدتي عنها ، كما ورثت بؤسها ، ولعل ملامحي انا نفسي بكل نحسي كانت مثل ملامح امي ، ارثا بائسا عن سومري ، او اكدي ، متعثر ، ارتاد كل حانات الفقر كما ارتدها ..
لازالت ذاكرتي تحيي في وجود تلك الوجوه القرمزيه ، بشعورها الشقر المصففه ، وعطورهم العبقه بحده ممزوجة بقهر يترصدنا ، وهم يسندون تماثيل اخرجوها ، الى حائط المدينة القديمه ،  يدارونها بخرق قماشٍ وفرشٍ غريبه ، ينفضون عنها التراب ووجودها فيه ، بينما نحن نتمادى متحلقين حولهم ، بعفويتنا ، وازعاجاتنا .... لازال مرفق احدهم منطبع الاثر في جبهتي ، بينما انا احاول بعبث طفولتي مهتما ، ان اعرف ماهية هذه التي يدارونها ، وسر اهتمامهم بها….

أنفاسالأستاذ عبد القادر الدردوري، محام معروف و يملك مكتب محاماة كبير يطل على أهم شـــــوارع المدينة، له من الكاتبات سبعة و من الكتاب ستة و من المحامين المساعدين ستة كذلك، لا يـــتوانى أن يقول بزهو أنه أبقى على مكتبه مفتـوحا لأغراض اجتماعية تصب في عدم حرمان فريق العـــــمل الذي يشتغل معه من موارد قوته اليومي، خاصة و أن مكتبه يدفع أجورا سخية و محترمة، هي مــــــوضوع الساعة لمجموعة من مكاتب المحاماة الأخرى ... فهــو حسب قوله يملك من المال الكثير و له مشاريع ناجحة تعفيه من انـتظار عائدات الأتـــــــعاب و النـسب المئوية التي يستفيد منها جراء توليــــــــه لقضايا ونزاعات بعـــــــض الشركات...بالرغم من كونه لا يبرح مكتبه منذ دخوله على الساعة التاسعة صباحا إلى حدود الساعة السابعة مســـــــاء دون احتساب ساعة تناول وجبة الغذاء، سواء بــــمنزله أو بأحد المطاعم الفاخرة... فهو يجد متعة كبـــــــرى في الجلوس لمكتبه لساعات طـــــويلة، لكتابة المقالات و المذكرات و استدعاء كاتباته و كتابه و محاميه المساعدين، لأغراض شتى تـــــتراوح بين إصدار الأوامــــر و التعليمات قد تصل أحيانا من مجرد تأنيب إلى درجة السب و الشتم ، متى رأى أنه من الضروري التعامل بهذه الصيغة ردعا و تحسـيسا  للمؤنب أو المشتوم بمغبة تماديه في الــخطأ، و أن عليه تجنب ذلك في المرات المقبلة... يتعامل بذكاء مع كل مستخدم لديه على حدا، تمــاشيا مع التكوين النفسي لكل منهم استنادا لخبرته الطويلة في التعـامل مع المستخدمين المتعاقبين على مكتبه لمدة تجاوزت الثلاثين سنة...

أنفاس... انتفض الحاضرون ، لغط هنا ... لغط هناك ، صرخ الزعيم ، وهو تيس حكيم ... وإنه وإن كان شابا فتيا ... وليس أكبر القوم سنا... فإنه أطولهم لحية ... ولحية التيس مقامه ورفعته ... كرامته وعزته ، هي مقياس شخصيته ... لحيته هويته... صرخ الزعيم ـ مرة أخرى ـ عم صمت أبيض ناصع ، حملق الجمع الغفير في وجه الزعيم عامة وفي لحيته خاصة ... صاح كبيرهم الذي علمهم مفاتيح السجع : أنصتوا واستمعوا ... كانت استجابتهم تامة .
    ضرب الزعيم الأرض بسيفه الخشبي مقلدا قس بن ساعدة : يا معشر التيوس الكرام ... قبل أن أتلو على مسامعكم محاضرتي حول الوضعية العالمية الراهنة ... حول أسعار البترول ... حول علاقتنا بالقبائل المجاورة ، القريبة والبعيدة ... قبل ذلك كله أذكر بأنني ـ كما تعلمون ـ مبدع مبدع ...
    وإن الإبداع في وطننا لا يعلى عليه ... فلتمت الصناعة والفلاحة والتجارة ... والعملات الصعبة ... إذا أصاب الإبداع مكروه ... وبما أننا ـ مجتمع التيوس ـ نحب ربط القول بالفعل ، فإنني أعتز بأنني أول من يطبق قوانين بلدنا ... واستهل خطابه البليغ بمعلقة عمرو بن كلثوم ليستنهض بها الهمم ... ثم قال : ملاحظة منهجية لابد منها :

أنفاسقال الحطاب لصغيره وهما يخوضان في حشائش الغابة الكثيفة التي تتوسد جبال الأطلس :
- سنجمع تلك الأعواد هناك يا بني
وأشار إلى قمة الجبل
قال الصغير وهو يستند إلى صخرة وقد نال منه التعب:
- لماذا لا نقطع هذه الشجيرات هنا بدل الصعود لجمع ذاك الحطب اليابس هناك في الأعلى؟
- هذه شجيرات ينبغي أن تكبر أما هناك فثمة أشجار ميتة يا بني
وبدا أن التعب كان أكثر إقناعا للصغير من منطق الأب فرجاه ثانية وتوسل إليه ولما يئس تماما قال:
- وماذا كان الله سيخسر لو جعل هذه الشجيرات الصغيرة هناك في القمة وتلك الميتة هنا؟
أشفق الحطاب على ابنه وقال :
- حسنا استرح هنا وسأصعد أنا وحدي لأجلب ذاك الحطب هناك.
صعد الحطاب الجبل بمشقة كبيرة فيما كان الصغير يراقب أباه بدا له رجلا عنيدا، لاحظ الصغير أن أباه كلما صعد الجبل إلا وتضاءل حجمه كان يصغر ويصغر وتضيع تفاصيله ثم صار نقطة سوداء تضاءلت في صعودها حتى اختفت .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة