أنفاسفوق منضدتي الخشبية الصغيرة ، حاولت , لملمت أوراقي المبعثرة ،   لم أكن اعرف أني كتبت ذلك كله وسط  شعور بهذيان بهيجٍ ، هكذا يكون الإنسان عندما يتخلى عن ذاكرة الآلهة ،  نبياً منعتقا من جحيم الخيال  ، ويصبح نافراً بلا لجامٍ , يصبحُ غيرَ مأمون الجانب وكأنه مهرة مجنونة !
 في ذلك الذوق المفروش بالعوسج ،  في ظهيرة يوم  عراقي مليء  بالخوف والترقب  ، وحيث الدخان يدخل إلى القلب ليخدر الحياة فينا , كان صوتها يصلني  ،  فيدفع أفكاري  كأبخرة  تتصاعد لتتبدَّد .
 ماعدت قادرة على الإحتمال في هذه الأجواء المشحونة  ، فبيوتنا التي بُنيتْ منذ عهد بعيد  تتماهى فيما بينها وتتلاصق ، حتى يصبح الهمس مشتركاً  والألم واحداً ، فلقد كنا نسكن في تلك المنازل المُنَضَّدة على التلال المطلة كالأثداء على ضفاف النهر ...
بيوتٍ شهدت دون إرادةٍ منها او بإرادةٍ ! صنوفَ الحكايات المخبأة والسعيدة الحزينة ،  ولازالت تضمنا او نضمها  لا ندري  ...
بيوت شرقية صغيرة ، أسجيتها العالية تهرأت بمرور الزمن  ، وأصبحت تنبئ بخجلٍ ،  أنَّ هناك أسواراً بيننا  بما تبقى فيها من حجارة ، لكن ما بيني وبين جارتي وابنتها ليس سوى علب الصفيح الصدئة عملنا معاً على ملئها بالطين ، وغرزنا فيها بعض النباتات المشتركة التي كنا نتناولها بحميميةٍ مع أقراص الخبز الطازجة   ، كلما أوقدت تنورها الطيني  ، وأوقدت معه حكاياتٍ شجية وكثيراً ما  تُدعو للإستزادة  لغرابتها  ، لكنها لا تلبث أن تبترها فتتركني فريسةً لتذمري او لإشفاقي !

أنفاسراح ينظر بلا مبالاة نحو شاشة التلفاز حيث كانت تلك الممثلة المغمورة تقول جملتها الوحيدة فى هذا العمل الفنى ، اعترف بداخله بأنها جميلة ، الجملة لا الممثلة ، غير ان الكارثة تتكرر : الشخص غير المناسب فى المكان غير المناسب .
غير انه لا يهتم بذلك كثيراً ، لكنه كعادته يبحر فى التفكير حتى يشمل بتفكيره الكون كله دون ان يتحرك من موضعه او يبذل مجهودا ليأتى بشربة ماء هو فى أمس الحاجة اليها . حَوّل نظره عن شاشة التلفاز وراح يشخص ببصره فى السماء المظلمة والتى كانت تبدو كفستان عروس زينته النجوم اللامعة ، وجد نفسه يتأمل بشدة فى هذه النجوم ، وخُيل له أن هذه النجوم هى عبارة عن ثقوب عديدة مثل الثقوب التى تملأ ثياب الشحاذين ، وان تلك الثقوب تكشف عن اليسير من الضوء المبهر الذي يكمن من خلفها .
عاد ليحمل عينيه ثانية داخل الغرفة وبالتحديد نحو أرضية الغرفة حيث كانت السجادة المزركشة ، سرح فى تلك التشكيلات الفنية التى حاكها صانع السجاد ، مثلثات ومربعات ومستطيلات ، راح يتخيل أن هذه الأشكال تُحاك من جديد لتصنع أشكال أخرى متنوعة تداخلت فيها جميع الأُطر، حتى شعر أنه على وشك أن يفقد وعيه فنهض فجأة . شعر بالظمأ فذهب ليأتي بشربة ماء ، وما كان ليفعلها لولا أنه نهض ، فهو اذا جلس خارت كل قواه بشكل غير مسبوق لايصدقه هو نفسه .

أنفاسقبل أن ينسج  الفجر الشتوي خيوطه ، أطل من نافذة  الغرفة   الوحيدة ، التي تلم  أجساد إخوته الصغار ، في بيتهم  الذي يتسامق مع البيوت الأخرى ،  فتُلغى  المسافات  ،  وتغدو متداخلة ،   فسطح الجيران هو فناء بيتهم الصغير ، إذ ينتصب تنور أمه الطيني وهي تتأهب لتسجره  في ذلك الغبش  المطير .
خجلٌ بحجم الأرض يكتنفه ، ويمنعه  من اختصار المسافات ، إلى المسجد ، واختراق السلم الحجري القصير ، الذي ينزل  به إلى بيت العم  بمدخله الطويل ، والذي صُبَّت أرضيته على الجانبين بمصاطب حجرية مفروشة طوال الوقت ، تفضي إلى حجرة غطّتْ جدرانُها برفوف  تضم  عشرات الكتب والمصاحف ، وفي الزاوية  ،  قبر  دارس  ، أُهيلت  جوانبه بأيدي نساء المدينة المعتقدات بأنَّ حفنة رمل من قبر هذا السيد  ستعتقهن  من هموم الدنيا ومشاكلها  ، يمتلئ المكان بطيب أعواد البخور المتقدة  طوال الوقت ، تطلق رائحتها في أرجاء المكان  
ولكن كيف ؟ وغالباً ما تكون  تلك الأوقات موعداً لحركة العم الدائبة  ، وهو يلف أذيال ملابسه البيضاء على ذراعيه  ، يحمل إبريقه النحاسي  الكبير ،  فيصبح جسده الذي طوت ظهره السنون  ، هالة كبيرة تذرع الفناء جيئة وذهاباً ، متأهباً لصلاة الفجر .
  تلفع بمعطفه القديم  ،  تتلقفه دروب زلقة  لا يتبين فيها خطواته ،   تعرج به عبر أرض جبلية إلى سوق المدينة الخالي في مثل تلك الساعة من الليل ، تؤنسه أصواتُ  ميازيبِ منازل غارقة في غموضها  ، يغطيه نثيث المطر  ، وذلك الصمت الموشى بالخوف ، لتنحرف  به  إلى  زقاقٍ  أكثر رهبة من كل أزقة المدينة ، ومجاهلها الكثيرة  .

أنفاساستفقت من النوم على نهيق حمار يشق صمت الفجر،ويزعج الكائنات وهي تستقبل يومها الجديد، لبست ملابسي وخرجت استجلي حقيقة الأمر وإذا بالجحش قط اقتلع وتد رباطه و انطلق يعبث بمزروعات  الجيران يأكل ما استطاع أكله وبكسير ما استطاع تكسيره بفضل الحبل المربوط برجله والوتد المسحوب خلفه ، ولأنه جحش غر  ؛ راح يكر ويفر ، يقبل ويدبر،في حالة من الفرح والمرح كأنه في يوم عرسه، أو كأنه يصارع الغيلان على جبهات متعددة في الأرض والجو وقد استشعر قرب انتهاء المعركة لصالحه،كان يجري ثم يميل برأسه إلى الأمام ويضرب الهواء بخلفيتيه ويرفعهما حتى يعتقد الرائي انه سيقوم بحركة جمبازية في حالة من النزق عجيب.
ورحت أقترب منه شيئا فشيئا، ابغي مخاتلته والإمساك به و إعادته إلى مربطه  ، ولكنه كان في ريعان شبابه ، وفي عز قواه العقلية، فكان يدرك ما أبغي ، فيعاكسني بمراوغة ، ثم ويدبر يحييني بخلفيتيه وعندما يبتعد يلتفت إلى ويهز رأسه إلى أعلى وأسفل وكأنه يقول لي هيا نلعب ..
وبينما أنا أفكر في حيلة انهي بها المعركة لصالحي  ، وإذا بسيارة القايد الميلود تقف بجانبي فتعوذت بالله من شر هذا اليوم وتوجست خيفة ، أعوذ بالله.

أنفاسرمت الشمس أشعتها الحارقة ، عم سكون تام أرجاء القرية ....يحق لك أيتها الطبيعة أن تفخري بجبروتك ، يحق لك أن تشعري بكامل الرضا ...ألست من أعجز هذا البشري المتباهي بذكائه ، لينسل خانعا ويخر راكعا ، مفضلا الانكماش والاحتماء من مزاح أشعة شمسك الوهاجة مع جلده المتهالك ؟
-   كن رجلا يا ولدي .... عبارة أطلقها الأب العجوز وهو يودع ابنه ، بعد أن أنهى تعليمه بالقرية ، عبارة بليغة موجزة  أجمل فيها الأب كل مكنوناته ، ربما لأنه لم يكن مستعدا بما فيه الكفاية لساعة الفراق هاته.
-    سأحاول يا أبي ، يرد الفتى وهو يجمع حقيبته ويملأ جيوب قميصه بثميرات لوز وجوز، دستها الأم بين ثيابه في غفلة من إخوته الصغار .
-    لا تعد خائبا ...ليس أقل من الشهادة الكبيرة .
-    أجل يا أبي ...يكررها وهو يسابق الحافلة الوحيدة التي تصل القرية بالعالم الخارجي .
لاحقه الأب بعينيه الذابلتين ، حتى توارى عن الأنظار ، رمق السماء بنظرة توسل ، ثم ثمتم ببعض الكلمات التي لا يعرف كنهها سواه ، كان يعلم بأن ابنه الذي تربى منذ طفولته على قيم الرجولة والاعتماد على النفس ، يمكنه أن يصير شيئا ما .

أنفاسجلست على مصطبة اسمنتية انتظر قدومها ...
قيل لي :ستاتي عند السادسة؛ وربما تتأخر الى السابعة ..وقيل لي ايضا : اذا تاخرت اكثر ’ فما عليك
الا الانصراف او اللجوء الى وسيلة اخرى ان كنت مضطرا للسفر..
فسر كهل طويل القامة عريض الوجه ’ قائلا بلكنة امازيغية : الحافلة يا بني لا تنطلق من البلدة انها تمر منها وهي في طريقها الى المدينة ’ وان كانت مملوءة فلن تدخل الى هنا ..
شكرت للرجل شرحه ’ ونظرت الى ساعتي ’ اكيد انها تشمت بي ..
هي ذي بلدتك ومسقط راسك ؟ من يصدق ثلاثة ايام وانت تلف الدروب ’ تسال هنا وهناك .. اين خالك حمدان ؟ اين عمتك ميمونة ؟ واين هو الحاج ؟ والاكواخ ؟ والحقول ؟ اسماء ’ مجرد اسماء ..انمحى عالم وانبنى اخر’ كانك تحلم ...
شهر غشت والحرارة لا تطاق ’وكل ما اتمناه : مغادرة البلدة اللحظة وباسرع ما يمكن .. اعدت النظر الى ساعتي ’كان عقاربها لم تعد تتحرك فعلا ’ واتكات الى الخلف مغمضا عيني ’ فاثار انتباهي جرس سقاء يرن في عياء ’ وانشغلت بالاستماع الى رناته الرتيبة الحزينة ’ لكن الرنين ايقظ احساسي بالعطش’ فجف حلقي وضاقت انفاسي ..اين هو هذا السقاء؟ اين هو؟قلت : لن يكن الا وراء هذه الحيطان .

أنفاسباب بيتك أبيض ، مثلك يكره الأبواب الزرق .تلك ماكرة ، مراوغة وتتآمر على السماء .  باب بيتك مقوّس ،  للشمس  نصفه والآخر للقمر ؟ أراك تنحني وأنت تلجه وما كنت قطّ محتاجا إلى كلّ ذاك الانحناء . لست سامقا ومع ذلك خلتك مرّة تجمع النجوم . كنت ليلتها أرقبك عن بعد وعيني زرقاء اليمامة وأذني مصغية إلى دبيبك ، خلتني نملة سليمان أحدس خطوك  وأسمع نبض حذائك يذرع الأرض . من أين تراك أتيت بهذه الليمونة اليافعة التي غرست على يمين المقبل عليك ؟ أنت لا تطيق اللّون الأصفر فكيف استطاعت هذه  إغواءك حتى دلّلتها على هذا النحو فاخضرّت بكلّ هذه الفتنة وأرسلت عبقا أنا أشمّه كلما أغمضت عينيّ أو جاءني النادل بعصيره المثلّج . ولماذا أغلقت كلّ الشبابيك وأرسلت الستائر ،كنت على الأقل تترك بعضها مفتوحا نصف فتحة حتى إذا عبرت مرّة أكون ظفرت بصوتك ينفلت من بين القضبان أو أمسكت بربع ضحكة ترسلها رغم حزنك المكابر . هذا الصباح غائم وثمن الزيت ارتفع وأشغال الأنفاق متواصلة والماء ينقطع بين الحين والحين ونحن لا نفتأ نملأ الأواني وبعضنا يستعير من بعض ونخشى مع انقطاع الماء أن ينقطع الكهرباء ولست أدري لماذا لا ينقطع الماء والهواء إلا في هذه الأحياء ولما ذا لا تنتهي الأشغال أبدا ولماذا  تزداد المدينة قذارة ولماذا قرّروا فجأة أن تتوقف أشغال المنتزه الوهميّ ، كنت على الأقل أذهب لأعابث الأيل أو أحاور الببغاء أو أدسّ في منقار البجع قطعة من الكاكي المالح  أو أرقب الفيل الحزين وهو يغضّ الطرف عن مغازلة الفيلة أو أشتري من عند البياع بالونة زرقاء أو رمادية كقميصك أو أجلس عند البحيرة تلك التي كنت تقرأ لي على مائها المغبّش أشعار كيتس .

أنفاسهي أسرة قليلة العدد تسكن في بيت صغير ذي فناء ضيق. أمام البيت تقف شجرة زيتون مسنة وكبيرة الحجم، تتشعب أغصانها صانعة عريشه تمتد ظلالها إلى باب البيت. تقف الشجرة بثقة وخشوع، حتى تظن أنها توشك أن تخر ساجدة في أي وقت إلى معبود كنعاني طواه الزمن.. مغروزة جذورها في أرض فضاء متوسطة المساحة.. وراء الفضاء يمتد سلك الحدود الشائك، الحدود مع إسرائيل.. خلف السلك من الناحية الأخرى تقف دبابة إسرائيلية متحفزة لنثر الموت وبث الذعر كالعادة.. تقف الدبابة شامخة بلا خوف، وبلا خجل.. تنتصب باعتزاز كأنها تقمصت ملك الموت عزرائيل وتنكرت به، دون أن تلبس طاقية الإخفاء.. وبعز تقف في قلب العرب.. لا تهاب طول اللسان ولا تخشى الجعجعة، إلى درجة أنها لا تكترث بالكلام الكبير الطنان الملتهب.
الأب في الخامسة والعشرين، جسده بالكاد ابيض وقامته مسرفة في الطول، وعلى بطنه كومة من الدهن تصنع له كرشا عظيما له مهابة وأبهة طيبة.. الزوجة في الثالثة والعشرين، سمراء، متوسطة القامة، لها جسد متوسط السمنة جميل ومسحوب بتناسق كأنه صب في قالب صنع خصيصا من اجلها، وطري مثل الملبن، جمالها متعطش للحياة بعيدا عن الموت والرعب.. الحياة التي تبحث عنها في كل يوم وفي كل ساعة بلا كلل، وهي دائما على أمل، ضئيل هو ولكنه أمل..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة