أنفاسجمّع الحاج أيوب شجاعته وشحذها كلها في ساقيه حين راح بشبشبه يحف  درجات السلم، ببطء ، وتسلل في وهن صاعدا إلى الطابق العلوي من البيت.. يسبقه لهاثه المتقطع وهو يتكئ بإحدى يديه على عصا، وبشقيقتها اعتمد على جدار خشن غير مدهون.. و إلى جواره في صحبته كانت إحدى حفيداته التي لصغرها لا تستطيع مساعدته على المشي.
توقف الحاج أيوب للحظات يلتقط  فيها نفسه الذي تهدج، فراح يتنفس هواء ثقيلا فيه برودة معطنة لها لسعة الثلج في الأنف، وشم بلا رغبة منه رائحة الدم والموت، رائحة عبقت المكان بشدة، وبشدة كانت تنبث من بين الركام وبقوة تفوح. ثم تسمر الحاج أيوب قرب جثث ابنه وزوجته وأحفاده الصغار، الذين مزقت أجسادهم وقطعتها عصر أمس قذيفة طائرة صهيونية، اخترقت الحائط بعنف وحولتهم إلى أشلاء تطايرت، وتناثرت في البيت ورصعت فتافيتها الجدران، وبعض الفتات تناثر في الشارع عبر النوافذ التي كانت مقفولة بإحكام كبير، فكسرها الانفجار لقوته وطيّرها إلى بعيد.. ومكث الحاج أيوب ساعة أو أكثر وهو يجمع بيدين راجفتين الأشلاء شلوا بعد شلو، وشقفة وراء شقفة، وكانت تساعده زوجته التي ما زالت عيناها إلى الآن تبقبقان بالدموع. ولم يستطع مع زوجته رغم الجهد المضني الذي بذلاه في تنظيف البلاط  من الدماء، لانقطاع الماء منذ الساعة الأولى لبدء الحرب.. فبقي الدم على البلاط وتحت حطام الأثاث حتى جف بعد وقت وتجمد، كأنما تحول إلى رمز ثمين كي تدخره الذاكرة مع ما تحفظه من دماء قديمة، وتجلله القلوب.. أو ربما لينقلب إلى غصة تشتد وطأة لعناتها وتتعاظم مع الزمن في النفوس.

أنفاساللّيمون متجعّد في الصّناديق الخشبيّة المتداعية٠
الخوخ ازداد احمرارا ثمّ تعفّن يزحف بداخله دود لا مرئيّ ٠
الباب الصفيح ذو المصراعين مفتوح نصف فتحة تعابثه ريح خبيثة فيئزّ متمارضا ....
أنت هنا ياعم !
 لا أحد يردّ ،لكنّ رائحة آدميّة عطنة تنبعث من الظّلمة الملفوفة في الغبار . وقع أقدام بالدّاخل وقرقعة، وصراخ طفل أضاع بوصلة الطّفولة .
 أنحني لأجسّ الخوخ ،تغوص سبّابتي وإبهامي في إهابه العفن، فانفض يدي كما لو كنت المس جثة متفسّخة .
 مساء الخير ... لا أحد يرد ّوالميزان على المصطبة يتأرجح بفعل النّسمات المنسربة من الكوى العلويةّ ولا أحد يزن بالقسطاس .
يتمطّى طيف في الفراغ ، يتقدّم متثاقلا ، يأتي متعمّما بنصف وجه، وسيجارة توشك على الانطفاء يمتصّها فم دون أن ينفتح ...

أنفاسسريعاً تغادر المكان، تتعجل الخطى كبرق خاطف، تتهاوى مع كل خطوة تخطوها خارج سربك وأصوات القذائف تئن بين يديك. تتلمس الجدران، الأمكنة والعتمة تأخذ في طريقها نحوك، كل ما حولك ظلام دامس، لا ترى شيئاً سوى الضباب. تتلمس جدران المخيم بينما تنشطر قدماك في لجة من خوف، تهذي، تواسي جراحك، تتمتم بآيات من القرآن علك تصل إلى بيتك بسلام. وبين فينة وأخرى تراوغك الكلمات، تحاور نفسك كمجنون يهذي، "ليتنا نموت جميعاً في آن واحد"، "ليتنا نغرق مع أعدائنا في تسونامي جديد" تستعيذ بالله من شيطانك، تطفر دمعات عزيزة من عينيك، تواسي نفسك، "ألا تكتفي بالبكاء؟!" وتصمت، تمر أمامك ناظريك لوحات ولوحات لأطفال قضوا بعيداً عن آبائهم، عنك، تستعيذ من عقدة الحياة، تحث الخطى وصورة طفليك ماثلة بين ضلوعك، يجلسون القرفصاء، يرتعدون خوفاً من أصوات مجهولة، قذائف غير معلومة اللون أو الرائحة، يموتون، يخرج الزبد من أشداقهم، وجهوهم، يتدثرون التراب وأنت عاجز عن فعل شيء.

أنفاس1
بصقت فتات الخبز، ألقت كيس الطحين، صاحت مختالة:
- أنا غزة .. أنا العزة. تسترني الأرض،
 تحرسني السماء،
 كفي لا تتسول النقد، أمدّه لكسر القيدِ.
 أصوم الدهر، لا أفتح فمي من جوع
 الظلم كافر، والسجّان  جائر
 أحمل قلبي أنادي : يا أهل النخوة، للحرية أنا أجوع ....!

أنفاسخرج من باب البيت كالمتسلل، وانطلق مسرعا في مشيه كهارب عقد العزم على ألا ينظر إلى الخلف مهما حصل، وراح يطوي الدروب. خطوة تدفع خطوة.. والنعل الأسود الصيفي في قدميه يصير مع كل خطوة أثقل. الدروب رغم قصرها تبدو أطول،درب يقود إلى درب. وعيناه لا تمتدان أبعد من مدى خطوة. وبين لحظة ولحظة، كان يغمغم ردا على تحايا هامسة اعتاد عليها منذ سنوات، يشايعها بحركة من رأسه فتمنحه فرصة لتبرير ارتباك مشيته التي لا تستقيم إلا على مشارف الشارع الكبير.
     أخيرا لفظته الدروب إلى الشارع، وانغمس في سيول الراجلين..أجساد من كل شكل ونوع تتحرك في كل اتجاه. أصوات هنا وهناك، باعة ولاعنون.. دعوات وبذاءات.. وزعيق السيارات يعلو فوق الأصوات. كان الوقت ظهيرة، وشمس غشت القائظة تلسع الجباه الدسمة. كل الرؤوس مستنفرة أو شاردة، كأنها تحمل أحلاما تحن إلى منفى. والأجواء مناسبة للانخراط في المجموع.. لكل سجنه وأوهامه، لكل وجهته. هكذا خمن وفكر، فانطلق بتلقائية. رفع رأسه واستقامت مشيته، واستعاد أناقته التي تاهت في الدروب. لكنه ظل يواري كتابا في يده اليسرى.. يمشي بحذر.. يراوغ الحشود بخفة ورشاقة. لم ينس يوم داس بحذائه قدم سيدة في السوق، فأشبعته السباب وأوسعت كتابه اللعنات. ود حينذاك لو يبتلع كتابه الذي ضاعف له الإهانة. ومنذ ذلك الحين صار حريصا على طمسه قدر الإمكان كي لا يلعن مرتين.

انفاسالسيجارة , السيجارة هي أوَّل شاهدٍ على مشاكساتي في هذه الدنيا وأوَّل شاهدٍ على خيباتي من هذه الدنيا ! ومصدرٌ مهمٌّ من مصادر إفلاسي شبه الدائم , أدخِّنُها وتدخِّنني منذ أكثر من ثلاثين عاماً , منذ أن كنتُ في السادسة عشر حيث كُنّا نحن التلاميذ نقفز من سياج المدرسة ونشترك في تدخين سيجارةٍ ونحن نرتجف خوفاً ! بعد أن يكون أحدنا قد اشتراها من دكّانٍ بالمفرد ولا أتذكَّر أني تركتُها يوماً او أفكِّر بتركِها , صحيحٌ أني تركتُها لمدة يومين وكان ذلك قبل عشرين عاماً او يزيد , والسبب إلتهابٌ في الرئة سرعانَ ما زال , وكذلك أستثني فترات السجن المتقطِّعة في العراق لأنَّ ترك التدخين فيها لم يكن اختياراً , وللسيجارة عندي طقسٌ خاصٌّ فبرغم أني ألجأ اليها في السرَّاء والضرّاء إلاّ أنني وانا من عشّاق القهوة ومدمني الشاي وأتناول الخمر لا أستطيع تناول القهوة او الشاي او الخمر إلاَّ بعد تأكُّدي من توفُّر السيجارة , المسألة لا علاقة لها بالإدمان او التعودُّ بقدر ما هي أُلفةٌ تحوَّلتْ الى صداقةٍ فَحُبٍّ ثُمَّ اذا بها تتحوَّل الى اتِّحادٍ صوفيٍّ !

أنفاسمن مذكرات طفل حزين:
كانت جدتي تنبهني في حنق كلما غادرنا القرية باتجاه الجبل بعدم التحديق في نوافذ بيت نبت فجأة وسط حقول الكروم، بدعوى أن به ساحرة ، سلبت ألباب الثقاة وحولتهم الى فراشات تتلذذ باحتراقها كلما جن الليل .
لكن جدي أجابني مبتسما لما سألته بعد إلحاح كبير بكون السر يكمن في عنب كرومها الضاجة بالحياة ، وسحر لهيب البيت المليء بالعصافير المغردة ،التي تنسيه قرف حكايات جدتي ، وقبح فزعات القرية الرهيبة.
تخريف :
وهو جالس أمام صينية شاي بديعة ، أحجم عن صب ولو كأس واحدة ، دون الحديث عن قضيته البالغة الأهمية التي استدعى ضيفه من أجلها . فكان يضع شخصه الكريم في صلب الأحداث  يشذب ببراعة بستاني كثيرا من الحكايات يحورها يمطط بعضها حتى تصير مرصعة ببهيج القول وأحسنه ، فجأة نظر في عيني جدتي الصامتة وثارت ثائرته ، وكأنها تدخلت لتعديل مسار فكرته الطائشة ، ثم نظر إلي وأنا مطرق رأسي في سهو فنهرني بشدة على استهتاري وقلة أدبي ، وأخيرا التفت إلى ضيفه الكريم مستأنفا حديثه ببرودة أعصاب متصنعة ، ناسجا كالعنكبوت خيوطه حول موضوع آخر ..

أنفاسلحظة أن هـَوَى الهوى           
رُغم فجيعتها بخيانتهِ لها مع عشيقتهِ على تـَختِها المُقدّس، بَددت كل تضرّعاتها المشبوبة ولم تتمكن من ثـنـْي عزمه الصارم على القطيعة الأبدية. وفي لحظة قنوط هستيرية، قذفت بجسدها المخذول دون تردد من شرفة الطابـــق الثامن. وجاء القدر متحيناً الفرصة للانقضاض في تلك اللحظة المدونة منذ الأزل في سِفر افتراقهما ليتزامن سقوطها مع اللحظة التي كان الزوج يـُبارح فيها المبنى، فهَوَت عليه مع جبال هواجسها المميتة، لتذرف بعدها على جسده المسجى عَبرات الوداع. 
لحظة تمرد
أحبت عنزتها التي تحاور معها جلّ وقتها الميّت بصبرٍ مزمن في ذلك القصر الريفي النائي في غياب زوجها ذي الطباع العاصفة وحضور حماتها المستبدة. هزأ بِها زوجها المغرور وهي تـُدثر المعزى بأغطية صوفية وقال لها: بات الشك يُساورني في قربى العنزة إليكِ !

مفضلات الشهر من القصص القصيرة