أنفاسحمل الفنان التشكيلي الشاب لوحته ، بعد أن لفـَّها بعناية في ورق ملوَّن وصقيل..وتوجه بها إلى مقر اللجنة المنظمة والمشرفة على المسابقة..وانتابه شعور هو مزيج من الرهبة والثقة بالنفس..كان يعلم أن لعبة المسابقات لا تحكمها قوانين مضبوطة ولا تخضع لمعايير دقيقة ..وأن اللجنة بأعضائها الذين تتفاوت مستوياتهم وتختلف أهواؤهم ومشاربهم ، لا يمكنها أن تـُجمع على تعيين العمل الفائـز إلا بعد مداولات وتنازلات من بعض أطرافها لحساب الأكثر نفوذا وتأثيرا ، والذي هو في الغالب رئيسها..
سلمهم اللوحة الملفوفة والتي اشترطوا خلوها من أي توقيع أو علامة قد تدل على صاحبها ، طبقا لقواعد المسابقة..طلبوا اسمه ورقم هاتفه والعنوان الذي اختاره للوحته..ثم انصرف إلى حال سبيله بعد أن ألقى نظرة أخيرة على إبداعه الملفوف وكأنه يشيعه إلى مثواه الأخير..

أنفاس قبالة المرآة ,بصق على الوجه الآخر دامع العينين مستجيرا :” ملعونة تلك (الداية ) التي أخرجتك من رحم أرنبة شهوانية .. سحبتك من رأسك الفارغ , قدميك المهتزتين , يديك المرتعشتين..؟”
جمع قبضته , ولكــمـــهُ ..
خيوط دماءٍ تسيل , نجوم , دوار .
دخـل في غيبوبة النسيان ..
تناثرت شظايا المرآة , تبعثر الوجه .. أصبح وجوها ….!!
الوجه الأول :
جُموحٌ , تمردٌ , إندفاع يسكن ذلك الجسد النحيل الباحث عن شهوة إنتقام أعمى , يجلس على كرسي القلق , ينام على فراش الأرق , يجمعُ , يطرحُ , يضربُ أخماسا في أسداسٍ , يرسم دروب الأذى , يحفر في كل يومٍ فخا وكمينا , يصطادُ ضحيتهُ … ويبتسمْ.

أنفاسعلى الطرف الآخر، كان يجلس قبالة ذاك الوادي ومنظر غروب الشمس يلامس غروب كل شعور بداخله...
أخذ نفساً عميقاً من لفافة تبغه العشرين، ونظر في الأفق البعيد قبل أن ينفث دوائره باتجاه منظر الغروب، ونارجيلة أمامه، يلجأ إليها كلما ملّ من لفافات التبغ...
تعساً أخذ يحدّث نفسه:
كنتُ أهواكِ ألف مرة، وكنتِ كلما اقتربتُ لأهواكِ تجلديني ألف مرة...
لماذا مكتوب على بعض الرجال أن ينصاعوا لأنوثة زوجاتهم، وهنّ لا تعني رجولة أزواجهنّ لديهنّ شيء؟؟!!
عشرون سنة مرت معكِ، وأنتِ أنتِ لم يتغير شيء فيكِ
رجولتي التي رضخت بكاملها لكِ، لم تراعها يوماً ولم تفها حقها...

أنفاسهكذا تمضي الأيام
لست ادري بالدافع الذي يشدني لاجلس امام النهر متأملاً اندفاع الماء اللانهائي . كانت تمر علي عشرات الوجوه، تجذبني للحظات وانساها، لأعود أتأمل حركة الماء. وكثيرًا ما يعتريني شعور الوحدة القاتل، ولكني بقيت ملتزمًا لعادتي غير المفهومة.. احيانًا اقتنع باني الضائع الوحيد في هذا العالم؟.. او على الاقل في هذا المكان. وتبعًا لذلك استنتج بثقة اني التائه الوحيد امام هذا النهر.. وانه لا قيمة للزمن في حياة التائهين.
جميل ان يرى الانسان الوجوه عبر انعكاساتها في اعماق الماء. بعضها يبدو اكثر طولاً وبعضها اكثر عرضًا، ولكنها امور تمر بسرعة بحيث اني لا اتذكرها. احيانًا يخيل الي ان الجلوس أمام النهر هو حل شجاع لمشاكل الضياع .. المشكلة اني لا اشعر داخليًا بشيء.

أنفاسإلى القاص، الأستاذ  أحمد بوزفور
حذرته زوجته كالمعتاد، وهي تقرأ ليلة من ألف ليلة وليلة، بعدم النوم مباشرة، سيما وأنه تناول وجبة عشاء ثقيلة، لأن شخيره يرج الغرفة، يصم الآذان، وأضحى مصدر إزعاج كبير بالنسبة للجيران الذين ما فتئوا يطرقون الحائط المجاور لغرفة نومهم كل ليلة وليلة …
لم ينبش بأي كلمة، بل اكتفى بالاحتماء خلف نظارتيه الطبيتين السميكتين، من نظراتها الحادة، فأحس بتضاؤله وهو يندس بهدوء كبير تحت الفراش، موهما إياها بأنه يتابع على التلفاز  ،برنامجا وثائقيا حول الفراشات الليلية.. تسللت إلى خلده ذكريات الطفولة، وهو في البادية  ،كيف كان في غرفته البئيسة يتلذذ بمشاهدتها وهي تحوم وتبتعد، تقترب، ثم تحترق بضوء الشمعة، كان دوما يتساءل عن سر تلك اللذة في الاحتراق : الشمعة مع نفسها ، ربما غبنا لمفارقتها الشهد إلى الأبد، والفراشة مع اللهيب المترقص ، المليء بالنور ، والنار ،والدخان وكأنه قانون حتمي، فرضته لعنة الحب مثلا، أو الرقص، أو الجذبة، أو الموت … تساءل لماذا يتجمد الرقص في منحوتات الصخور ، والخشب ، والأقنعة .. وقد ارتسمت الدهشة على وجهه المتعرق ، كالسكون من ماء وطين.. مستأنفا تساؤلاته حول سر الروح  ،التي تنأى عن الالتحام بالجسد إلى الأبد، وكأنها مرآة للعبور إلى حيث تنمحي مسافة ما … شعر بدفء لذيذ يلف جسده، وبارتخاء غريب، فاستسلم ونام..

أنفاسهي تحدق في المعطف البني ،
وهو يحدق في صاحبته الشقراء ،
هي تتملى في أزاره الجميلة،
وهو في صدر صاحبته الناتئ.
ارتشفت المرأة من فنجان قهوتها ، ففرحت الزوجة لرؤية كم المعطف الآسر ، بينما كان هو يمج شفتي الأخرى مع قطعة سكر .
رن هاتف الحسناء ، فانتصبت في رشاقة واستدارت ، فأمسكت هي بيد زوجها في فرح طقولي ، وقد راقتها كثيرا فصالته، في حين أغمض هو عينيه فارا بلحظته  نحو الأعماق ، مستحضرا صورة دميته الفاتنة ، يتمنى لو أماطته عنها ، لتتخلص من ملاحقة نظرات زوجته اللعينة.

أنفاسانتفض المحراث الخشبي ، نفض الغبار وعش العنكبوت عنه ، وخرج ...
ووجدها كعهده بها تحت الشمس ممددة ، طرية ، طيعة تحلم بشيء
يخترقها على مهل ،ينغرس في اعماقها ، يرج احشاءها رجا ...
نظرت اليه فتورد خداها وارتخت جفونها وشعرت بالجفاف في حلقها ...
وانتصب ...
فتمايلت الاشجار وتعانقت ..
وغنت العصافير اغاني الحب ورفرفت بالمئات ، بالالاف فوقهما
تشكل غطاء يسترهما ...
اما الشمس فقد اختفت وراء غيمة على شكل قلب ...

أنفاسفارغة هي من كل مايشغلها..لا تعرف كيف اتسع الفراغ داخلها إلى هذا الحد..تحاول أن تتجول في أنحائها لتخرج بفكرة أو صورة باهتة لذكرى فلا تجد..هل توقف عقلها؟؟لم تعهده هكذا من قبل  وهو الذى لايكف عن النبض..نعم النبض.. لايكف عن العمل ولا يمل من مد يديه فى أحشاء الماضي و إلى عيون الحاضر و بين صفحات المستقبل البيضاء..يرتحل من هنا إلى هناك في طرفة عين ثم يعود أدراجه محملاً بما تمليه عليه حالته المزاجية..ولهذا فقد أعفى القلب من مهامه ويقوم بضخ المداد إلى أجزائها المرئية واللا مرئية.. اليوم  هو مختلف..شلل ما يسيطر عليه فيستسلم له دون مقاومة تذكر..محاولات محتضرة لتشغيل محركه الذى لم يتعود السكون حتى فى قلب الحلم أسلمت الروح دون أن توصي..
قررت الخروج من الفراغ مع سبق الإصرار..أسلمت أصابعها للوحة المفاتيح دون أن تشترط أو تملي عليها ماتقول..اندفعت الأصابع تشي لشاشة حاسوبها بكل مايدور فى الرأس المواجه لها دون تفكير..فاجأتها صورة حبيبها ..توقفت قليلاً تسترجع ماتفعله به..لماذا تعذبه وهي تحبه؟؟؟ماذنبه هو في تقلبها الذى لاينتهي..اليوم خيرها بين المكث معه وبين الحرف ..حاولت استرضاءه  وهي متعلقة بأذيال حرفها فلم تفلح...أغلق بابه دونها وتركها غارقة فى تيهها.. بينما فر منها الذى أغضبت حبيبها من أجله مخلفاً إياها تسبح فى أمواج الخرس...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة