أنفاس تهيأوا جيدا..اسبوعان من المطالعة الدؤوب لما يُحتمل من أسئلة..و استنفار لكل الأخيلة الممكنة حول لجنة الامتحان..أجسام مترهلة..نظرات حادة مصوبة خلف زجاج سميك..أسئلة يُخيل للمترشح أنها تنبع من حقد دفين لتصب في قوالب اتهام ! ..ملامح جليدية لا يذيبها دفء الرضى و لاجمر الغضب !
تجمعوا أمام البوابة الخارجية حلقا حلقا..دردشات و تعارف و تظاهر بالصلابة ..إخفاء لتوتر كاسح . فُتحت البوابة.. رحب المسؤول بالمترشحين متمنيا للجميع حظا سعيدا !
اشرأبت الأعناق بفضول لتفحص قاعة الامتحان..بدا على الوجوه استغراب ممزوج بسخرية..طاولات و أوراق بيضاء ..و كهل متعب ..بسحنة ريفية..و بذلة تعبت من توالي الفصول !
و لجوا القاعة بصمت ..أظهروا أدبا جما وهم يلقون تحية الصباح..أجاب الكهل بتثاقل و مضض , ثم شرع في تلاوة النص المراد تحليله , وتفكيكه , ثم صياغته وفق المتغيرات الجديدة.
انكبوا على الأوراق بتلهف ..ساد القاعة صمت مشوب بصرير أقلام واثقة من النصر !

أنفاس_الله يخليك رقم الحافلة التي توصل إلى الجامعة؟؟
_خذ رقم ستة
  صعد الحافلة مع جموع   الطلبة التي كانت مصطفة تنتظر قدومها، ورجع إلى الوراء ينزع نفسه وسط الزحام واضعا يده في جيبه حتى لا يكون فريسة سهلة  لنشال يصطاد في الماء العكر، أما اليد الأخرى فكان يمسك فيها بعصبية على الملف الذي يحمل الشهادة التي طالما حلم بها، والتي أمضى في سبيلها اثنتا عشرة سنة من الدراسة دون رسوب حتى استطاع أن يحصل عليها عن جدارة واستحقاق ، لم ينتظرها لوحده وإنما كانت كل الأسرة تترقبها وتبني أمالها وأحلامها على شهادة الباكلوريا التي سيحصل عليها "عبد السلام "   هي الآن بين يديه ، وليس بينه وبين دخول الجامعة إلا وصول الحافلة...
كان يطل برأسه من النافذة مشدوها إلى هذه المدينة الجديدة التي لم يزرها من قبل وإن كان سمع عنها كثيرا "الله يعطي لأصحاب فاس الجنة ويعطينا احنا فاس" كانت هذه العبارة وحدها كافية ليرسم في ذهنه صورة خيالية لهذه المدينة الجميلة، التي خلدت حولها هذه العبارة. وأحس بنشوة غريبة تعتريه وهو يتخيل نفسه طالبا في جامعة فاس العاصمة العلمية التي يتمناها الناس كما يتمنى المرء الجنة!!

أنفاسجلده ، بارد ، كالجمر ،، كماموث يدور ، يدور داخل غرفة رديئة إكتراها حديثا في نزل رديء ،،، غرفة يتوسطها سرير خشبي قديم ، يتيم ، بالركن طاولة قفر ، و أمامها كرسي ثلاثة من أرجله متشابهة و سبحان الله الرابعة معدنية ،، نشاز ،،، رسم لوجه مكسر معلق على جدار دهنه متلاش ،،،، يدور ،، يدور كماموث ، ينتبه إلى حقيبته الموضوعة على طرف السرير ، يفتحها ، لا شيء ، سوى بعض أدباشه ،، لكنه يفتقد الآن كتبه و أوراقه التى تركها عند التى إلتهمت نصف عمره ،، و كابد نصف عمره أن يتقبلها كما هي، مراعاة للتقاليد ووووووووووو ، و لكنها كانت كتلة من العقد و كومة من أشياء أخرى ،،لذا بمجرد أن إستقرت في رأسه فكرة أننا لا نعيش مرتين ، حمل جثته و هرب بجلده منها ،،، و لكنه مشتاق لمكتبه و كتبه و كراريسه ،، إنه الآن ملغوم بكلام كثير ،، لابد له من ورق ،،القلم فر معه في جيبه ،إنه يريد أن ينفجر داخل ورقة ،،، يبحث في البيت عن جذاذة يكتب عليها ، حتى علبة سجائره فرغت فألقاها في الشارع ،،لابد له من سيجارة و ورقة .

أنفاسأرجعت لها خاتم خطوبتنا..امتقعت,وعصفت سحنتها الواجمة دهشة..أمسكته بأيدي راجفة..هوى أرضا..فدوي صداه في شقوق الأيام العاشقة..قلت لها:
اعذريني حبيبتي سأمضي...
إلى أين؟ سألت
أجبت: إلى حتفي..
يممت وجهي شطر مشنقتي..التي نصبتها منذ أن أحببتها..تعلقت بعنقي..قبلته بجنون..أسبلت جفنيها توسلا..سددت نظراتي نحو عينيها..قلت لها: يجب أن انتهي..
قالت:وحبنا؟
حبنا قصة حب يجب أن تنتهي..
أيادينا كانت في وثاق حاد..متشابكة كميثاق وعد أزلي..تلاشت أصابعنا في غمرة صهد الرغبة في الموت..أما صفحة الذكريات فقد تمزقت من حرقتنا..فصارت دخانا...

أنفاس "نادني من آخر الدنيا اُلبي، كل دربٍ لك يُفضي فهو دربي
ياحبيبي أنت تحيا لتنادي، يا حبيبي أنا أحيا لألبي
".
(فدوى طوقان)
كطوق نجاة أتاني صوته الواضح عبر الهاتف ينقذني من بحر الحزن الهادر، يغسل قلبي  من غبار الهموم ..
"يسحرني صوتها ، و رنة الموسيقى من  مخارج الألفاظ  تصيبني بعدوى الحيوية، لأعزف لحن أمل اللقاء المرتقب..
لم أعرف امرأة تشبهها، تضج أنوثة مجبولة بروح الحياة والمرح، يسكن داخلها تعب سنين مستتر، مجبولة بالطيبة، الأخلاق، والتضحية..!".
لم أصادف رجلا مثله،  يفيض دفئا وحنانا من الأعماق، يرتدي وجها واحدا، دون قناع
"سنوات طويلة، أستمد القوة من ضعفها، الأحلام من صبرها، الحب من عطائها.."
أعوام شرّع أمامي  آفاق المعرفة، منحني الإيمان بغدٍ ليس نصفه مر، وتحمل صعوبة أن يفهم الإنسان نفسه ويتكيف معها..

أنفاس سأموت....
هكذا، في شارع ما من بلدتنا الضيقة، وبينما أسير في طريق ترابي يعج بأكوام من القمامة ستصدمني تلك العربة التي أكرهها، أكرهها حتى الموت وأموت، شاحنة مترعة بحمل ثقيل، تجثو فوق قلبي، صدري، ثم تقلع أحشائي إلى الخارج، دون أن يلتفت السائق لي، أو حتى الذين يجلسون إلى جواره. لن أفكر لحظتها بلون تلك العربة، كما افعل دائماً حين أتفادي السيارات الرعناء والطرق الملتوية، فسائقو السيارات اليوم منشغلون عن أمثالي برفيقاتهم اللواتي ينثرن عطورهن وملامحهن داخل جدران تلك الغرفة المتحركة ذات اللون الأحمر ، سيولِغون في أفواههن كل لعابهم دون أدنى شعور بأن هناك من يراقبهم عن كثب.
إنني الآن في المشهد الأخير من عمري، وكما ترون فإنني أحتضر، أموت، لا حول لي ولا قوة، ستبقى جثتي هامدة في مكانها، لا تحرك ساكناً، سيحضر الجميع بما فيهم أبي، لن يعرفوني بسبب التشوهات التي حاكتني، لكن أحدهم سيبلغ والدي بأنه أنا، نعم أنا وليده الوحيد، فملامحي "الفقروية" ستدلهم على شخصي الكريم، لحظتها سيبكي، بكاءً مراً شديداً، لم يذق له طعم يوماً، سيغشى عليه، يترنح كذبيح طعنته ألف سكين، ثم سيحملونني إلى بيتي الذي سأحن إليه كما حننت دوماً عند خروجي في مهمات قتالية بحثاً عن طعام.

أنفاس بدأت الأوتار الأخيرة تعزف بقوة تعلن قرب المغادرة ..فالنوبة الموسيقية أشرفت على النهاية.. لم يعد يحول بيني و بينها شيء و لا عائق ..لا عتبة انتظار و لا رمش أمل و لا غمضة عين.. بات كل شيء مرسوما واضحا ..كل دفاتري بها حبر فيه هزيمة و انكسار ..لكن مصباحا ..أو ضوءا خافتا يظهر من بعيد.. أهو سراب أعتقد فقط بوجوده و أنا الظمأى لوردة حب؟ ..وأنا التي تحتاج عناقا يجعل عضلاتي تصطك فرحا و رقصا ؟ أهو الحلم الجميل الذي طالما انتظرته و عبرت عنه أحلامي الجميلة و ألبسته أبهى الحلل و زينته بأغلى الأحجار .. ؟أهو سند جاء ليعتقني من نار حيرتي و ظلمي لنفسي؟ أجاء لكي يفك أغلالي و يحطم الخوف بداخلي ..؟أهو بالفعل يحمل لي كل تلك المشاعر الجميلة...ما الذي تعنيه إنسانة  متعثرة خالية الوفاض من السعادة  مثلي ؟حاولت أن تسعد مرات و مرات غيرها.. لكنها فشلت فرجمت.. و تعثرت فتبعثرت.. ألجمت فأغلقت عليها الأبواب ..ووقفت ضدها كل الأصوات تشتم و تلعن إيمانها بالنبض بالصدق بالوفاء ..

أنفاسلف سيجارته الأخيرة بأصابعه المصفرة عند الأطراف، بعناية ثم وضعها بين شفتيه. أخذ نفسا عميقا بعد أن أشعلها تاركا الهواء الدافئ يتغلغل في صدره المتعب.
كان واقفا تحت شجرة اللوز العملاقة، يتأمل حقله الذي يمتد نزولا أمامه إلى أسفل الوادي حيث جف النهر منذ شهور عدة. لقد أوشك على إتمام عمله: حرثَ الأرض ووضع السماد، لم تتبق سوى عملية الزرع وسينتظر بعدها هطول المطر. لم تبد فوق الجبل المقابل تباشير رياح الغربي. غير بعيد، كانت زوجته تلم الحطب بدون كلل بينما يحرس صغيرهما الغنم.
تذكر أوامر الطبيب، لا سجائر بعد اليوم، لا تعب.. وعلاج سريع ومكلف لاستئصال المرض.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة