أنفاسهذا الحرفٌ سفينة تبحرٌ بي إلى المزيد من جزر ملح المدينة .. أقيمُ داخل زنزانة شوق .. يكتبني مدنا تنفث صمتا مقيتا .. أرى جسرا يشرده يبسٌ الوقت .. رجالا و نساء  و أطفالا تحت سقف مطرٍ أشتهيه .. يصارعهم السؤالٌ عن لون المحال ..  أرى كرسيا من حجر ينقش اسم ولده الجنين .. بين أزقة تحترق وردا في الجبين .. لكَ الجلالة أيّها الحرفٌ المغسول الوجه بماء البحر و الريحان ... و على رصيف المدينة  يمدّ الضجرُ ذراعه المقوس إلى الأشجار المارة أمامه .. يطلب منهم قراءة مدن المنشور الوهّاجة .. فيردّون أنهم لا يٌحسنون العوْمَ في مياه مستنقع لعين .. و كالطفل البحري أسألٌ حارس المدينة عن رائحة هذه الخريطة الممتدة عبر رمال من جحيمٍ ..  مَن يكون هذا السائل الأزرق في ليلنا البهيم ..؟؟
هو من فئة الكراسي المبتورة العين .. و هذه الجسور الوارفة الظل تصول صبورة في الدم .. و الحصون الشاهقة في العيون المعطلة .. ترسم أجمل الشروخ  في وطن .. بالمزيد من خطب المواسم يؤسس حرمة الزنازن  .. و أعمدة صهاريج الثلج ..  يوشّحها  بأوسمة من قصب ..
 هي أفواه واسعة .. إلينا صدّرها زمن القحط .. حين انقلبت الأمكنةُ على وحشة الزمان .. فساد الظلام .. و تلاه ظلم البشر ..

أنفاسمن العالم البعيد  كانت تهب عليه الذكريات باردة جافة كعيون ليل متربصة   بوجدانه.
كان خوفه من اللاشيء خوفا غريزيا ، وكانت الحيرة بين لا شيئين تكبر معه مثل توأم سيامي يشترك قلبا واحدا.
كان حبه مشتتا تماما كما هي أيامه، كل خطوة من حياته لم تكن إلا ليلا مظلما وعيونا لا تنظر إلا سوادا، وقطرتين من المطر، وقليلا من فتاة خبز قديم...
كان ليله عنجهي البرد، وكان سريره   صلبا ، يكاد يفتك بعظامه الخائرة  المترهلة.
-  أوه ! أينك  يا مهد طفولتي ؟!
لم يكن يتأوه على المهد لوحده ، فقد كان متضجرا شوقا إلى  أيام الصبا ، حيت البياض كان  يحتل نفسه احتلالا جميلا... حيث النور كان يأتيه من كل أغوار السماء ، وعقله  يعربد في الصفاء... يطير في براءة حلوة إلى دراجة المرارة، ونقية إلى درجة العفن...

أنفاسلازالت الكلمات تطفح في ذاكرته، رافضة الهروب من عقالها، لأنها كلمات نقشها بقلمه البريء، لأنها معدن عواطفه و أحاسيسه المرهفة. حاول النسيان، انزوى في ركن بغرفته ،عمل على أن يكون الضوء خافتا خفوت نبض فؤاده،ألقى بنظره نحو الجدران البادية مثل لحظة غروب خدشتها غيمات هاربة من كبد السماء. لوحة تحضن آية الكرسي على اليمين، وصورة لفريق كرة القدم المفضل لديه على اليسار. شغل المذياع في " المانتيفون " المعطل، انساب صوت فيروز :
اعطني الناي وغن ....فالغنا سر الخلود.....
 أحس بالأغنية الصدفة منصفة لحاله، متناغمة مع أحلامه الوردية. أغمض عينيه، تذكر ضفيرتها تسابق خياله الجموح، تطلق العنان لعشق أمسى لديه صوفيا. تصور ابن عربي ينحت تمثالا للعشق في فتوحاته المكية و امرأ القيس واضعا حبل مشنقة في رقبته التي ارتسمت في خياله ممتلئة....و جميل ممتطيا جوداه  ، منطلقا نحو خيمة بثينة  .

أنفاسمضى الى عمله ذات صباح مبكرا كعادته
كانت الأيام لديه متشباههة.. نفس الوجوه ونفس الأحداث كأنه ميقات معلوم
كان ينتظر طوفانا ً يجتاح خموله ونمطية الأشياء
شيئا ً يجعل الوجوه العابسة كأنها حزم أقمار
شيئا ً يحيل التقاليد البالية أجمل ابتكار.. ويحيل الجداول الزمنية المجهزة مسبقا ً الى أحلى المفاجأت
تتشابه الأشياء فى بلادى كأنها نقوش على أحجار صماء
كان يريد أن يتمرد على تقاليد القبيلة.. كان يشتهى العشق
كان يشتهى الجنون والعزف على أوتار من نار

أنفاسأصابعها تلا مس ُ بعطف ٍ وشوق ٍ أضلع َالبوابة ِالخشبية ....خطوة ٌ واحدة ٌفقط....
دفعت ِ البوابة َالخشبية َوتسللت ْكطفلة ٍصغيرة ٍعلى رؤؤس ِأصابعها ....لم يكن ِ الخوف ُالذي جعلها تفعل ُ هذا بلْ هناك شيء ٌ أقوى وأمتع
كانت ْ تخشى أن تترك َ مهمتها للهواء ِ.... للغبارِ....للرمل ِ لتقرفص َوتقطف َ كالعادة بضع زهرات ٍ برية ٍملونة ٍنمت ْهنا بين قطع ِالبلاط ِ الموزعة بعناية ٍ ودقة ٍعلى طول ِمدخل ِ البيت ِ أو ربما ذهبت ْواستسلمت ْ لخريرِ تلك السّاقية الجميلة التي وقعت ْفيها مرات ٍعدة ْوهي تطارد ُضفدعا ً أخضر مشاكساً يراقبها بعينيه ِ الكبيرتين كملعب ِ القرية ....هكذا كانت تقول.... تبرر سقوطها لأمها الحزينة المغتاظة (هو اللي بدأ )
كان َكل ّشيء يوشوش ُ حواسها يقول لها:أهلاً بك ِ...تعالي إلينا
لم تضعف ْ أمام َتوسلات ِ كل ّ ذرة ٍ في جسدها وعقلها وقلبها لتترك َ مهمتها وتلاحق َ طفولتها
هي فرصة ٌ ربما لن تتكرر أبداً

أنفاسكان مستغرقا في عالمه المغلق على ذاته..يستلهم تجربته ويستوحي تأثيراتها العميقة على نفسه..يلفه الهدوء وتغشاه السكينة..ثم سرعان ما يضطرب في حركات لاإرادية وتصدر عنه أصوات كالهمهمة حينا وكالهذيان حينا آخر..كان كأنه في حالة مخاض استعصى فيها الطلق وامتزج فيها الألم باللذة..ألم انفصال كائن جديد عن ذاته ، ولذة إعطاء الحياة لهذا الكائن الجديد..أصبحت هذه الحالة مألوفة لديه ، فاستأنس بها واستأنست به..أصبحت تلازمه كلما خلا إلى نفسه وشرع في كتابة قصيدة شعرية جديدة..لم يعد يذكر كم من الوقت مر عليه وهو على هذه الحال..ولا يريد أن يذكر.. فكل همه الآن هم اكتمال شروط الوضع وحلول لحظة قطع الحبل السري بينه وبين مولوده الجديد ، ليخلد إلى الراحة بعض الوقت قبل أن تعاوده الحالة من جديد..
كان منقطعا إلى عالمه السحري هذا عندما سمع طرقا على الباب..بدأ الطرق خافتا وهادئا ، ثم أخذ يعلو ويشتد مع مرور الوقت..أحس وكأن ماء مثلجا قد صُبَّ عليه من رأسه حتى قدميه..خمَّن أن يكون الطارق صاحب البيت جاء كالعادة يطالبه بالمتأخر من مستحقات الكراء..ظل يماطله لعدة شهور، ويَعِده بقصيدة مدح عصماء ترفع قدره بين المُلاك المنافسين له ، وتحقق له نوعا من الدعاية ليتهافت على دُوره الراغبون في الكراء..وهو يضمر له في قرارة نفسه قصيدة هجاء مذقع تفضح جشعَه وتكالبَه على جمع المال وقلة صبره على ذوي العسرة من أمثاله..

أنفاسأخذه التفكير طويلا وهو في حالة استرخاء على السرير الخشبي، لم يحدد قراره النهائي بعد، هل سيترك مسقط ويبتعد عن عمله الشاق؟ هل سيترك ابنة خاله التي تعلق بها قلبه؟.
تذكر أول يوم جاء فيه للعمل في الشركة الكبرى لتصليح السيارات برفقة صديقه " سالم"، أبهرته مسقط بما تحتويه من مناظر وشوارع، أعجبه تناسق المباني والبيوت البيضاء، كانت مسقط تحتفل بالعيد الوطني التاسع والثلاثين ...مسقط عالم جديد في مسارات حياته، لم يستطع الاندماج فيه والتكيف مع مزيج البشر القادمين من عدة ولايات ومناطق، وهو القادم من القرية، يجد نفسه مندهشا أمام كم المتناقضات العجيبة في هذه المدينة، كل شي فيها يلهث وراء المجهول.
 لم يشعر بالأيام فقد مرت سريعا، قضى وقته بين العمل صباحا في أحضان السيارات وفي المساء أشغله التردد على بيت خاله، يجالس الخال وابنته وهو الذي لم يحادث أي بنت قط، فاجأته في إحدى الليالي إنها لا تحب القرية والنخيل والبيوت القديمة والناس البسطاء، فلا تتصور يوما العيش في القرية وترك أجواء مسقط والمجمعات التجارية وصالونات التجميل، عندئذ أدرك مساحة الهوة بينه وبينها، وحجم الغربة في وجدانه بسبب هذا المكان، وزادت تصرفات ابن خاله المنحرفة شعوره بالضيق، يراه دوما في حالة رثة وملابس عجيبة وروائح كريهة، يصل البيت متأخرا، يتقزز منه عندما يرى حالة الشجار والصراخ بينه وبين أبيه.

أنفاسكنت – أنا – إلى حدود يوم الأربعاء الماضي مواطنا عاديا جدا : موظفا في الرابعة والثلاثين من عمري ، أقضي جل نهاري وراء مكتب قديم ، منكبا على ترتيب الملفات والوثائق ، وكنت منعزلا ومنطويا على نفسي ، أتفادى ما أمكنني معاكسة الآخرين في الحديث وفي الرأي وفي كل شيء ... فهزالة جسمي غالبا ما كانت تغري بي المختلفين معي فلا يترددون عن التعنتر علي وضربي بسادية غريبة ... وأعترف أنني عدت مرات إلى المنزل في حالة يرثى لها كما يقولون ، يحمل جسمي في أكثر من موضع كدمات وجروحا ، فتسارع أمي إلى مساعدة زوجتي لتنظيف الجروح ووضع الدواء الأحمر والمراهم عليها ، في جو من اللعنات والدعاء على ضاربي ، وعاصفة من التعنيف لي ولومي على التدخل فيما لا يعنيني وما لا طاقة لي به ... هكذا كان دأب حياتي إلى حدود صباح الخميس الفائت . كنت أنتظر الحافلة للتوجه إلى العمل ، ولما بدأ هطول المطر، اتخذت لنفسي مكانا على المقعد الطويل المظلل بصفائح الألمنيوم اتقاء للمطر ، جاءت "عائشة الكحلة"وأمرتني بأن أخلي لها مكاني لتجلس فيه هي بعجيزتها العظيمة ، فهي امرأة ومن اللباقة أن أتنازل لها عن مكاني أنا الرجل الشاب ، ولأنه كان هناك شبان آخرون جالسين، ومنهم من يملك مظلة لاتقاء المطر، فقد رفضت أن أتنازل لها عن مكاني !

مفضلات الشهر من القصص القصيرة