أنفاسانعطف (حسن الكيراني) بكل ثقله إلى اليمين .. دلف الحانة غير متهيب ولا متردد ...أزاح الستار المتشابك بكلتي يديه .. مسح فضاء  الحانة  بنظرة  سريعة ... المكان يعج دخانا ولغطا .. الدخان يتكاثف .. .بتصاعد... يشكل دائرة حلزونية ..  دون أن  يجد منفذا  للتلاشي  والتبخر..  بعض السكارى  يتحشرجون  ويختنقون ... دون مبالاة .....
لولا الرغبة الدفينة لولى مدبرا غير معقب ..
 ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل..  نقر نصف البيت الشعري في باطنه ...
رمق في أقصى ركن الحانة ، طاعنا في السن... يكاد يكون من الغابرين...
أثارت انتباهه ارتعاشة  يديه ، وتعرقهما البارز.. كما شدت ناظريه تجاعيده الأخدودية ، الأشبه بالحفريات المسطرة في الصخر الجلمود ..
رشف الطاعن في السن رشفة أحدثت قرقعة في الحلقوم .. ثم مز شفتيه  ، كأنما يتلذذ طعم الموت...

أنفاسقرابين
أذكر جيدا قصة حبي الأول: كيف تخليت عن نفسي للحلول في الحبيبة، وكيف قدمت نفسي قربانا للحبيبة، وكيف صارت الحبيبة مع توالي الأيام ترى القربان واجبا يوميا عليَّ تقديمُه.
أتذكر جيدا قصة حبي الأول لأن فشلها عجل بدخولي عالم الدين الذي انتشلني من الانتحار والإدمان والاكتئاب والانهيار الشامل.
في الدين نضجت وتغيرت عاداتي وزوايا نظري للأمور. فعوض أن أقدم نفسي قربانا لغيري، صرت أقدم الحيوانات والطيور قرابينَ بديلةً وأنتظر المغفرة والهداية والعفو والصفح.
لكن النضج الأكبر الذي ينشده كل إنسان يعرف من جهة أولى مصلحته ويعي من جهة أخرى كيفية سير الأمور حدث لي حين انخرطت في سلك السياسة.

أنفاس( أ )
أبو النمرس مدينة باردة .
لا ينفك مرعي يردد هذه المقولة لنفسه كلما زادت إرتجافته .
أبو النمرس بالنسبة له مجرد مكان يصله الأتوبيس بالعاصمة . قصدها في الربيع الماضي . كانت رياح الخامسين تواصل هبوبها ، وكان هو مهدودًا فغفا . عند المحطة الأخيرة . أيقظه المحصل :
إصح .. إصح يا أخ وصلنا آخر الخط .
نظر - عبر زجاج الأتوبيس - إلى المكان الجديد . رأى طفلاً يحملق فيه . الطفل من خارج الأتوبيس . يرى الأنف الضاغط على الزجاج مجدوعًا فيضحك . يغادر مرعي الأتوبيس إلى أرض لم يطأها من قبل . يسير على غير هدى بينما رياح الخماسين تلفحه ، وفي أذنه صوت المحصل يذكره بالوصول إلى نهاية الخط .

أنفاسقالت ميري لزوجها إدوارد بعد أن أتمـّت تنظيف القطعة التي بين يديها:
- نقـّبنا في الكثير من مواقع العراق الأثرية فلم أجد أغرب من هذه السكـّين.
ناولتها اليه وهي تمسّد النصل بحذر شديد . فأجاب وهو يتفحص باهتمام بالغ مقبضها الذهبي :
- هي متقنة الصنع وبيد حاذقة، وتبدو لي ليست من صناعة محلية، وأرى رقماَ قد نقش عليها هو 443 هـ*.لكن يا للعجب، كيف لم يصدأ نصلها؟! هي سكيّن غامضة ومليئة بالأسرار!!..
- إنه لأمر غريب حقاً ..هل كانوا في تلك الحقبة يستعملون مواداً تمنع صدأ المعادن ؟! ..سأرى أمرها لاحقاً..
واندهشت ميري من أن صور السكين هي الوحيدة التي لم تظهر عندما أظهرت الفيلم الفوتوغرافي..

ِأنفاسإلَى غَزَّةَ الحُرَّة الْجَرِيحَة،
َلسْنَا طُيُورَ بطْرِيقٍ مُثْقَلٍ بِالفرَاءِ
ولكننا فصائل أخْرَى من طيور أخرى
 تنتظر اكتمال ريشها
 لِتُحَلّقَ إلى جانبك.

قال الأول:
- عندما تنتبه إلى  كونك  لم تعد بحاجة إلى حزام لسروالك، فاعلم آنئذ بأن البدانة قد أصابتك وأن السمنة قد بدأتك من الوسط، فانظر حينئذ ما أنت فاعل...
وقال الثاني:
- عندما تنحني لِرَبْطِ خيوط حذائك فتواجه صعوبة جديدة في الوصول إلى أقدامك، فتلك علامة حاثة عهدك بالبدانة. لقد  صرت عندئذ "بدينا"  وَحَلَّ على المقربين من أقاربك تلقيبَك "بطينا"...

أنفاسرن الجرس رنينا مفزعا، حينما ضغط عليه  "محسن"ْ  بكل قواه.. ففتح الباب حتى رن مزلاجه ..  حملق بعينيه في الكائن الفاتح .. شعاع سماوي هابط من أعلى .. فتاة يكاد ينطق الحسن  في سائر كيانها .. رن شيء ما في  صدره... قالت بنبرة بها رنة حادة : ما هذا الرنين المزعج ؟  ألا تحترم الناس ؟؟  صوته  خرج مِن فيه كرنين إناء صدئ حينما رد ...قال وهو لا يعي  ما يقول .. إذ الكلمات خرجت مبعثرة ، مقلوبة ، مبهمة .. أثارت حفيظة  الكائن السماوي الواقف...قال برنين خافت  : أخخو..ك.. فففي .. قاسم.. موجود....موعععد .. الدددار ... صفقتِ الباب في وجهه .. تراجع من هول الصدمة..
رن شيء ما في خاطره المنكسر :  يا رب  السموات .. لماذا خانتني الجرأة  في مثل هذا الموقف!! تبا لهذه التأتأة ... !! تبا لها ..!! ألا تنبجس الملعونة  إلا في مثل هذه اللحظات !! سحقا لها سحقا  ...!! هو خطيب مفوه في بعض المواقف ..
والآن ماباله .... !!
رن صوت الفتاة  بالداخل ..وهي تغالب دمعا يكاد ينزلق  :  الكلب .. الملعون .. من تظن نفسك ؟؟ اتفوا عليك وعلى أمثالك....

أنفاسكأنّ السماء أطبقت على الأرض فتعانقتا ، وما عادت الدنيا تتنفس إلا صدى قبلاتهما  الذي يجهل الذبول  ،ولكن هي ... كان الطريق بالنسبة لها شيئاً آخر ،إنها  دائمة البحث عما يشغلها  ، غائبة في عالمها  الملائكي ، هكذا باتت ومنذ ذلك المساء الذي غاب فيه عنها  .
إنغرزت قدماها في الأرض الرخوة تحتها ، إذ  تناهى إليها من  بعيد لغط ، وأصوات متداخلة  ، وضَوء عربة انحرفت عن الشارع العام ، ثم عادت  من جديد إلى الشارع  ، ذهلت ، فحبكت ملابسها جيداً حول جيدها  الوجل ،  وقرفصت للحظات  يقيدها  شعور غريب  ربما  ، لكنها  أفاقت  وهي تتمتم  : أنا بخير حقا أنا بخير،  ثم ركضت باتجاه المكان  بكل قوتها ، كان ممدداً ووجهه إلى الأرض ، دعت الله بكل ما فيها من رجاء أن يكون حياً ، أحاطته بذراعيها  ، وبعد جهد أجلسته على الأرض  ، وأسندته إلى حضنها ،  تفحصت جسده الشاب  ، وملابسه الممزقة ، لم يكن هناك ما يشي بخطر ما ، لكنها عندما  أدخلت كفها تحت قميصه ، على موضع القلب بالذات  ،  خفق قلبها بعنف ،  كالعادة شيء  حار دبِق يتقاطر وئيداً من هناك
- يا الله إنه ينزف  ،

أنفاسضبطْتها..تلك المتكبرة التى تستكثر حتى الرد على أسئلتي المنهكة..اعتقدت لفترة طويلة أنها مصابة بالخرس أو الصمم..كنت أنظر إلى عينيها أتلمس إجابة...تفاعلاً..لكن هيهات.. لمحتها في بعض اللحظات ترمينى بنظرات خفية أقتنصها لأؤكد لي أنها تراني وتشعر بي..لكنى ما ألبث أشكك فيها وألقيها فى مهملات الظنون...اليوم رأيتها منتحية بأوراقها جانباً تكتب..تمنيت أن أطل على أوراقها وأن أنفذ إلى حروفها لأعرف فيم تفكر..لكني خفت الاقتراب ..كأن شيئاً خفياً يمنعني عن الدخول إلى عالمها..راقبتها حتى انتهت..طوت الأوراق وذهبت تدور فى حلقاتها المفرغة التي تنفصل فيها عن كل شيء إلا روتينها اليومي...أحياناً أشعر أنها تترك عقلها تحت وسادتها قبل أن تستسلم لجرار حياتها وتتركه يحملها من مكان إلى مكان..وأحياناً أخرى أراها فقدت القدرة على أى مقاومة لميكانيكية عمرها..فقط لو تترك لي فرصة أناقشها..أحاورها..ربما استطعت أن أساعدها..لكن ترفعها المقصود أو غير المقصود يبنى بيننا حواجز غير مرئية لا أستطيع عبورها...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة