أفاق من النوم،فرك عينيه،أحس بثقل رأسه على جسده، تثاءب،لفحته رائحة النبيذ الرخيص التي لا تزال قابعة في الغرفة،حاول ان يتبين عقارب الساعة بجواره،لم ير شيئا،ظلام كثيف يكتنف ارجاء الغرفة،غير ان خيطا رقيقا من الضوء ينبعث من كوة صغيرة بالباب اشعره ان النهار قد انتصف ،اتكأ على حافة السرير محاولا الوقوف لكنه احس بدوار وبالم مباغث في رأسه، كاد يسقط لولا اتكاؤه على الجدار،فكر : "خمرة البارحة لا تزال تفعل فعلها"سار بخطوات متثاقلة نحو الباب ،فتحه فغمر ضوء الشمس كل ارجاء الغرفة،همهم "يوم جديد وبؤس جديد" انحنى امام حنفية الماء فتح الصنبور فاندلق الماء البارد بين يديه، احس برعشة تسري في كل جسده حين شرع في غسل وجهه،جذب فوطة ذات لون باهت كانت معلقة ،جفف وجهه ، رفع بصره نحو مرآة ذات اطار صدئ كانت متصلبة على الجدار،حذق في وجهه مليا،فعكست المرآة وجها شاحبا كسته التجاعيد ،وعينين غائرتين واسنانا سكنتها السوسة وسودتها السجائر الرخيصة،لاحظ شعيرات بيضاء في شاربه، قطب جبينه،وهمهم مخاطبا نفسه" شخت يا عباس،اوشكت نهايتك وانت بعد لم تحقق اي شيء في هذه الحياة ،الى متى ستظل هذه الحياة تقسو عليك" .
تذكر نصيحة احد الاصدقاء الذي قال له "لماذا لا ترحل الى بلاد النصارى؟هناك شغل كثير ، وفرص النجاح هناك كثيرة..." لكنه لم يشأ المغامرة ،انه لا يجهل مصير عشرات الشباب الذين حاولوا عبور المضيق في اتجاه الضفة الاخرى،فاصبحوا وجبة لذيذة للحيتان واسماك القرش، طرد هذه الفكرة من ذهنه بسرعة...مشى متثاقلا نحو المطبخ...لفحته رائحة كريهة منبعتة من زاوية تكومت بها قمامات وازبال ... بقايا طعام بائت ،علب سردين كثيرة واكياس فارغة تكوم عليها الذباب،بصق في تقزز،حبس انفاسه ،ثم تراجع الى الوراء، جال ببصره في كل الارجاء،لا شيء يؤكل...تقدمت القطة نحوه وشرعت تتمسح به منتظرة ان يربت على ظهرها برفق كما كان يفعل دائما،غير انه ركلها بقوة حتى كاد يبقر بطنها...ركضت هاربة وهي تصدر مواء حادا...
خرج ان صفق الباب من ورائه بقوة وهو يلعن ويشتم...في الخارج تنفس بعمق هواء نقيا وسار في اتجاه المقهى.كانت المقهى مكتظة على عادتها ،والفضاء يعبق برائحة الدخان...تحاشى النظرات وهو يبحث عن كرسي،احس بيد تجذبه من الخلف،التفت :"آه سي عزوز" "ما بك ؟تبدو متعبا"، "لم انم البارحة جيدا،ولم افطر بعد..." قالها بكثير من الامتعاض...جذبه عزوز نحو الداخل وهو يقول: «اعرف انك تفضل الاماكن الخالية والمنعزلة عن انظار الفضوليين واسماعهم... «.تهالك عباس على احد الكراسي : «انني لم اعد اطيق الحديث مع احد،ضجرت من كل شيء ،من الناس ،من الحياة،ولولا صداقتنا القديمة لما جلست اليك... «.قال عزوز محاولا تلطيف الجو وتهدئة عباس: «اعرف ذلك ،لذلك لم اتردد لدعوتك للافطار معي ... «اخرج عزوز علبة السجائر من جيبه،سحب سجارة ومدها لعباس في لطف،زرعها بين شفتيه واشعلها،ثم جذب نفسا عميقا وشرع يتابع خيط الدخان وهو يتبدد في فضاء المقهى ،ثم شرد بذهنه غير ان ضحكات الجالسين اخرجته من شروده وجعلته بتذكر مرارة العيش،وقسوة الحياة،منذ مدة لم يضحك ،حسد الرواد على ضحكاتهم وقهقهاتهم العالية وتمنى لو شاركهم احاديثهم الممزوجة بالضحك،انتبه الى صوت عزوز يأمره ان يصب الشاي،لم يدرك متى احضر النادل وجبة الفطور،رفع ابريق الشاي بيد مرتعشة دون ان ينظر الى صديقه وشرع في ملء الكؤوس... «لماذا تتجنب النظر الي ؟هل نسيت سنوات العشرة الطويلة؟ «قالها عزوز بحزن. «لم انس ،ولكن انا حزين ومهموم، وحيد في هذا العالم... «رد عباس في يأس واردف : «اعرف اني لست اول من يطرد من العمل...وليت الامر توقف عند الطرد من العمل...هل تعرف ان زوجتي ارغمتني على تطليقها بدعوى عدم القدرة على الانفاق،لقد انتزعت مني ابني الوحيد بعد ان اوهمته بانني مجنون...هل تصدق هذا؟انا مجنون!!قالها وهوى على الطاولة بقبضته محدثا دويا مسموعا ،التفت بعض الجالسين الى مصدر الصوت ،تهامسوا في ما بينهم ثم تابعوا العابهم واحاديثهم دون مبالاة...رفع رأسه وقد جحظت عيناه واتقدتا كجمرتين...صمت قليلا كما لو انه يسترجع انفاسه المتلاحقة، وتابع كلامه في مرارة: «بالامس انتظرته عند خروجه من المدرسة،اشتريت الحلوى ،توقعت ان يركض نحوي ليضمني الى صدره كعادته معي كلما رآني...دق الجرس ،تردد صداه في كل كياني،خفق قلبي للحظة العناق،تطلعت الى جموع الاطفال ابحث عن طفل ببدلته الزرقاء ومحفظته الثقيلة..بدا بقامته القصيرة وجسمه النحيف يتخطى الباب الحديدي للمدرسة،تقدمت نحوه وانا امد ذراعي لمعانقته..توقف عندما لمحني،تراجع الى الوراء،ركض نحو جموع التلاميذ ثم اختفي اثره في الزحام... «.في تلك اللحظة لا حظ عزوز ان صوت عباس قد بات مخنوقا،وان عينيه قد اغرورقتا ...حاول ان يتابع كلامه لكنه لم يقدر,تبخرت الكلمات في حلقه..فجأة انتفض واقفا ثم صاح باعلى صوته وهو يلوح بقبضته في الهواء،كما لو انه يخطب في حشد من الناس: «ساقتلها..انا مجنون..ساقتلها..لن ادعها تهنأ بحياتها بعد ان حطمت حياتي... «ظل يردد تلك العبارات وهو يركض الى ان اختفى عن الانظار...
خرج ان صفق الباب من ورائه بقوة وهو يلعن ويشتم...في الخارج تنفس بعمق هواء نقيا وسار في اتجاه المقهى.كانت المقهى مكتظة على عادتها ،والفضاء يعبق برائحة الدخان...تحاشى النظرات وهو يبحث عن كرسي،احس بيد تجذبه من الخلف،التفت :"آه سي عزوز" "ما بك ؟تبدو متعبا"، "لم انم البارحة جيدا،ولم افطر بعد..." قالها بكثير من الامتعاض...جذبه عزوز نحو الداخل وهو يقول: «اعرف انك تفضل الاماكن الخالية والمنعزلة عن انظار الفضوليين واسماعهم... «.تهالك عباس على احد الكراسي : «انني لم اعد اطيق الحديث مع احد،ضجرت من كل شيء ،من الناس ،من الحياة،ولولا صداقتنا القديمة لما جلست اليك... «.قال عزوز محاولا تلطيف الجو وتهدئة عباس: «اعرف ذلك ،لذلك لم اتردد لدعوتك للافطار معي ... «اخرج عزوز علبة السجائر من جيبه،سحب سجارة ومدها لعباس في لطف،زرعها بين شفتيه واشعلها،ثم جذب نفسا عميقا وشرع يتابع خيط الدخان وهو يتبدد في فضاء المقهى ،ثم شرد بذهنه غير ان ضحكات الجالسين اخرجته من شروده وجعلته بتذكر مرارة العيش،وقسوة الحياة،منذ مدة لم يضحك ،حسد الرواد على ضحكاتهم وقهقهاتهم العالية وتمنى لو شاركهم احاديثهم الممزوجة بالضحك،انتبه الى صوت عزوز يأمره ان يصب الشاي،لم يدرك متى احضر النادل وجبة الفطور،رفع ابريق الشاي بيد مرتعشة دون ان ينظر الى صديقه وشرع في ملء الكؤوس... «لماذا تتجنب النظر الي ؟هل نسيت سنوات العشرة الطويلة؟ «قالها عزوز بحزن. «لم انس ،ولكن انا حزين ومهموم، وحيد في هذا العالم... «رد عباس في يأس واردف : «اعرف اني لست اول من يطرد من العمل...وليت الامر توقف عند الطرد من العمل...هل تعرف ان زوجتي ارغمتني على تطليقها بدعوى عدم القدرة على الانفاق،لقد انتزعت مني ابني الوحيد بعد ان اوهمته بانني مجنون...هل تصدق هذا؟انا مجنون!!قالها وهوى على الطاولة بقبضته محدثا دويا مسموعا ،التفت بعض الجالسين الى مصدر الصوت ،تهامسوا في ما بينهم ثم تابعوا العابهم واحاديثهم دون مبالاة...رفع رأسه وقد جحظت عيناه واتقدتا كجمرتين...صمت قليلا كما لو انه يسترجع انفاسه المتلاحقة، وتابع كلامه في مرارة: «بالامس انتظرته عند خروجه من المدرسة،اشتريت الحلوى ،توقعت ان يركض نحوي ليضمني الى صدره كعادته معي كلما رآني...دق الجرس ،تردد صداه في كل كياني،خفق قلبي للحظة العناق،تطلعت الى جموع الاطفال ابحث عن طفل ببدلته الزرقاء ومحفظته الثقيلة..بدا بقامته القصيرة وجسمه النحيف يتخطى الباب الحديدي للمدرسة،تقدمت نحوه وانا امد ذراعي لمعانقته..توقف عندما لمحني،تراجع الى الوراء،ركض نحو جموع التلاميذ ثم اختفي اثره في الزحام... «.في تلك اللحظة لا حظ عزوز ان صوت عباس قد بات مخنوقا،وان عينيه قد اغرورقتا ...حاول ان يتابع كلامه لكنه لم يقدر,تبخرت الكلمات في حلقه..فجأة انتفض واقفا ثم صاح باعلى صوته وهو يلوح بقبضته في الهواء،كما لو انه يخطب في حشد من الناس: «ساقتلها..انا مجنون..ساقتلها..لن ادعها تهنأ بحياتها بعد ان حطمت حياتي... «ظل يردد تلك العبارات وهو يركض الى ان اختفى عن الانظار...