" بالنسبة إلى فلسفة تستقر في الرؤية المحض والتحليق فوق البانوراما لا يمكن أن يكون ثمة التقاء بالآخر: ذلك أن النظر يهيمن ولا يستطيع أن يهمن إلا على أشياء"[1]1
تفكر الفلسفة في اللاّشيء وتحيل العديد من الأشياء إلى العدم وتقوم بحركات سالبة وتحرص على النفي وتسحب الوجود من الكثير من الكائنات وتخلع القيمة عن العديد من الأفعال وتصف تجارب من الحياة بالعبث وتسقط جملة من أقوال الناس في دائرة اللاّمعنى وتفضل الصمت على الكلام في كثير من الأحيان.
لكن الفلسفة من جهة مفهومها وتاريخها والمهام التي وجدت من أجلها مطالبة بالقيام بالعديد من الأشياء ولعب الكثير من الأدوار أكثر بالكثير من الوظائف السلبية وأدوار التفرج على الوجود وهو بصدد التفكك، وتنقسم مهام الفلسفة كما جرت العادة إلى نظرية وعملية والى معرفة ووجودية والى أحكام واقع وأحكام قيمة والى تفسير وتغيير والى نقد وتأسيس والى تحليل وتركيب والى تفكيك وتشييد والى تشريح واعتناء.

جاك دريدا (1930-2004) هو فيلسوف سمع به الجميع، لكن القليل من غير المتخصصين يستطيعون فك شيفرة كتاباته. وتتراوح الآراء عنه من أولئك الذين يقولون إنه واحد من أعظم فلاسفة القرن العشرين إلى أولئك الذين يقولون إنه كان دجالا! في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، نشب نقاش حاد بشكل غير معتاد بينه وبين الفيلسوف الأميركي البارز في اللغة، جون سيرل. في عام 1992 كاد أن يتم رفض منحه درجة فخرية في جامعة كامبريدج بسبب معارضة العديد من الفلاسفة البارزين. باختصار، يعد دريدا شخصية مثيرة للجدل...

إن السؤال الذي يطرح باستمرار حول: لماذا نصوص دريدا صعبة للغاية؟ أمر مثير للاهتمام في حد ذاته. وأحد أسباب طرح السؤال يتمثل في عدم الإلمام بالكثير من مفاهيمه. ومن الأسباب أيض، ما يرتبط بالهاجس الدائم لديه من أن الحجج التي تدّعي استدلالا معرفيا تفترض دائما وجود معرفة أخرى وتعتمد على وجودها. وكما يقول هيلاري لوسون في كتابه الصادر عام ١٩٨٥ بعنوان "الرجوع إلى الذات: المعضلة ما بعد الحداثية"، فإن مسائل "اليقين" لدينا يتم التعبير عنها من خلال النصوص، واللغة، وأنظمة الإشارات، لكن هذه ليست محايدة على الإطلاق، فيبدو من حيث المبدأ إذن أنه لا يمكن أن يكون هناك أي مجال يقيني". أراد دريدا إذن تجنب إصدار إشهارات تعتمد إما على المعاني اللغوية الثابتة وإما على افتراضات تم الوصول إليها في مكان آخر.    

رحل بابا الكنيسة الكاثوليكية البابا يوحنّا بولس الثاني عن هذه الدنيا يوم السبت 2 أبريل/نيسان 2005 بعد عمر مُمتد من العمل الديني المتواصل، المفتوح على عدة جبهات في العالم. غير أنّه كان من اللافت الحضور الضخم لجنازته التي حطمت رقما قياسيا عالميا من حيث الحضور الشعبي والرسمي، إذ حضر أربعة ملوك وخمس ملكات وما لا يقل عن 70 رئيس جمهورية ورئيس وزراء إلى جانب 14 رئيس ديانة مختلفة من العالم، وقُدّر عدد المشيعين في روما بأربعة ملايين مشيّع.(1)
   تلقى الخبر عامة الناس، المتدينون واللامتدينون والسياسيون العلمانيون وغير العلمانيين والإعلاميون، باهتمام كبير، فأثارت هذه الواقعة الحديث مجددا عن عودة الديني وسلطته الروحية المتزايدة(2)، حيث لامست وفاته في كل أنحاء العالم وترا في الضمير لم يكن ينتظر سوى من يعزف عليه.(3)

تقديم
    في سياق اهتمام ميشيل فوكو بمسألة الذات، تساءل عن الأسباب التي جعلت المؤرخين يتركون على الهامش موضوع "الاهتمام بالنفس"، في الوقت الذي تم إعطاء أهمية متزايدة لمسألة "معرفة النفس". فالتأريخ الفلسفي لم يعط قيمة تُذكر بالنسبة لمبدإ "الاهتمام بالنفس" مقارنة مع سؤال "معرفة الذات". وهنا يربط فوكو بين إهمال مبدإ الاهتمام بالنفس ومشكلة الحقيقة وتاريخ الحقيقة، ليُلح على المكانة التي احتلها هذا المبدأ خلال ألف سنة من الثقافة القديمة، كما يحمل مسؤولية محو مكانته منذ بداية العصر الحديث إلى "اللحظة الديكارتية".
فكيف يفسّر ميشيل فوكو العلاقة التي ربطت بين نسيان مبدإ الاهتمام بالنفس وتمجيد مسألة "معرفة النفس"؟

1- ميشيل فوكو والأمر السقراطي:"اعرف نفسك"
     استقطبت إشكالية الذات والحقيقة اهتمامات ميشيل فوكو الفكرية والفلسفية، دفعته إلى البحث في مفهوم أو تصور "الاهتمام بالذات"  epimeleia heautauودراسة العلاقة بين الذات والحقيقة. هذا المفهوم الذي لم يُهتم به كثيرا في التأريخ الفلسفي، في الوقت الذي تم إيلاء اهتمام خاص بمسألة "معرفة الذات".

  • 1- حقيقة الإنسان بين التعقل و التخلق.

يعتبر طه عبد الرحمن أن الأخلاقية أخص بالإنسان من العقلانية، والأخلاق أخص أوصافه بدل العقل, فلقد سلك طريقا حاول من خلالها،"أن يُعيد الاعتبار لسؤال الأخلاق باعتباره البداية الرئيسية لإعادة إحياء الإنسان بعدما تقاذفته قوى المادية الناتجة عن عمليات العقلنة غير المسددة بالأخلاق وكذا كصناعة موقف أصيل مستقل يمكن الانطلاق منه لنقد الحداثة الغربية من خلال أرضية مغايرة بحيث تكون الأخلاق كمدخل للنقد وأيضا كمشاركة أصيلة إسلامية في تلك الحداثة الكونية"[1]، ذلك أنه ثبت عنده أن المقوم الأخلاقي هو الذي المقياس الذي تقاس به إنسانية الإنسان، ف"الأخلاقية هي ما يكون به الإنسان إنسانا وليست العقلانية كما انغرس في النفوس منذ قرون بعيدة، لذا ينبغي أن تتجلى الأخلاقية في كل فعل من الأفعال التي يأتيها الإنسان مهما كان متغلغلا في التجريد بل تكون هذه الأفعال متساوية في نسبتها إلى هذه الأخلاقية حتى أنه لا فرق في ذلك بين فعل تأملي مجرد وفعل سلوك مجسد"[2].

في كتابه تاريخ الكذب يطرح جاك دريدا سؤاله المشروع عمن يمكنه أن يروي لنا تاريخا للكذب؟ وهل يمكننا أن نسلم بأنّ للكذب تاريخاً؟ إذا كان الكذب يفترض الابتكار المتعمد للتخيلات فليس كل التخيلات  والخرافات كاذبة. والشيء ذاته ينطبق على الأدب.
يستعين دريدا بمقالين هما: ( السياسة والحقيقة) ل(حنة آرندت)  نُشر  لأول مرة بالانجليزية  سنة 1967 في مجلة نيويوركر  بعد تغطيتها لمحاكمة ايخمان التي صدرت في كتاب (ايخمان  في القدس) إذ تعرضت حنة  آرندت  لسيل من الادعاءات والتلفيقات والأكاذيب التي قيلت بحقها. وفي سنة 1971 أصدرت مقالتها (السياسة والكذب) والذي تطرقت فيه إلى الخداع والتصريحات السياسية الكاذبة والتي حولت فجوة المصداقية إلى هوة استدعت من حنة طرح امكانية الكذب على الذات والتدقيق في هذه الإمكانية المتطورة للكذب، لاسيما ما يتعلق بالعلاقة بين الكذب والسياسة وتاريخ هذه العلاقة والإسهام الذي قدمته في تغذية الكذب وتطوير أساليبه.

تكمن جدة الفيلسوف الدانماركي سورين كيركجارد (1813 ـ 1855)، في كونه عمل بشكل أو بشكل آخر على عدم حصر الفكر الفلسفي في دائرة المثالية المطلقة التي أوصلت العقل إلى تحقيق المطلق مع هيجل، حيث لا وجود لفكرة كونية يثبتها ويؤسس لها العقل، وإنما على فتح الفلسفة أمام أفق قديم جديد ألا وهو الجانب الوجودي المتمثل في ربط الانسان بمفهوم القلق، والذي يصيبه فور تفكيره في الحياة والعالم والمآل.. إذ تبقى أسئلة قائمة بذاتها لم ولن يتمكن العقل بأدواته الصارمة من فهمها، فما بالك بتفسيرها. في هذا الصدد يرى الرجل أن الهروب من القلق يتحقق عبر ثلاثة أطوار، الأول جمالي والثاني أخلاقي والثالث ديني.. والحال أن كيركجارد خصص في كتابه الذي يحمل مفهوم القلق اسما له، خصص حيزا كبيرا يشرح من خلاله كيفية تشكل القلق ومظاهره وعلاقته بالإنسان.. حيث كانت الحاجة ملحة في هذا الصدد لاقتباس جزء صغير عنونه ب: مفهوم القلق، على الأقل كي نكسب معرفة أولية حول مفهوم يشكل عشب وجودنا دون أن نعيره اهتماما يذكر، إما استسهالا به أو جهلا له..

" الفلاسفة يكتفون بتأويل العالم في حين أن المطلوب هو تغييره"
كارل ماركس
لم تكن الفلسفة سوى آثار محفوظة في كتب ومؤلفات وسير ذاتية لشخصيات يرويها الناس بصورة تقريبية مع إضافة بعض الأساطير لبطولات وهمية وقدرات خارقة ومع تنقيص لمواقف متخاذلة وخيانات جبانة.
لم تستمر الفلسفة إلى اليوم سوى في صورة دروس رسمية في المؤسسات التربوية وعدة حلقات نقاش في بعض المنازل الثقافية وفي شكل محاضرات علمية ومسامرات فكرية يلقيها بعض من البحاثة هنا وهناك.
تحولت الفلسفة بصيغة المفرد وبصيغة الجمع إلى ترف معرفي وتراوحت بين صناعة ذكورية وهواية نسوية يزدريها العامة ويسخر منها الخاصة ويتأفف من شرها الحكام ويحذر من تدخلها القاصي والداني.

بعد قرون من التساؤل حول السعادة، انكب الفلاسفة على الفشل. في العصور القديمة، طرح الفلاسفة بصدد السعادة كحالة مطلوبة ومرغوب فيها مجموعة من الأسئلة. وكان منطلقهم أن الفلسفة يجب أن تقودنا إلى السعادة. بينما نلاحط اليوم نزوع الفلاسفة إلى التساؤل عن الفشل. هل يمكن أن يصبح الفشل أفقا فلسفيا جديدا، موضوعا جديدا للدراسة كان مفتقدًا إلى حد كبير في التفكير الفلسفي، أو مجرد موضة جديدة؟
ما هي السعادة؟ هل هي النجاح، كماتغنيبه برنارد تابي سنة 1985؟ هل هي حالة أم أفق؟ هل هي رغبة أم جوهر الإنسان؟ كيف تتحقق السعادة؟ أمن خلال العمل على العالم أو على ذواتنا؟ هل توجد السعادة في نهاية بحث مثل كنز، أو غنيمة، أم أنها مسألة تحويل ذاتي؟

نبذة مختصرة عن المحاورة :
  تبدأ المحاورة بوصول كل من سقراط و شيريفون إلى منزل كاليكلس لحضور جلسة من جلسات جورجياس .وذلك رغبة من سقراط في التحدث إليه .ولكي يطرح عليه الأسئلة، كعادته .
     و تدور المحاورة بشكل أساسي بين كل من سقراط و جورجياس و بولوس و كاليكلس .و موضوعها باقتضاب عن فن الخطابة أو (البيان) و الإقناع  و العدالة .و قد حاول سقراط فيها بوصفه -الفيلسوف المحنك- إحراج محاوريه بقوله أن العدالة هي فضيلة و أن من يتصف بها هو بدوره فاضل لأنه لا يرتكب الظلم ،وأن أشقى الناس هو من يرتكب الظلم -لا من يمارس عليه الظلم- فهو سيعاني مع نفسه .
    تنتهي المحاورة بخرافة عن العذاب الذي يتلقاه الظالمون غير العادلين و الطغاة في العالم الآخر من طرف الآلهة .

تقديم
    أولى ميشيل فوكو اهتماما خاصا بسؤال العلاقة بين الذات والحقيقة، دفعته إلى الرجوع إلى الروحية المسيحية في مرحلة عرفت تطور المؤسسات الرهبانية، وظهور قواعد حياة جديدة، تعزى أساسا إلى هجرة مجموعة من المبادئ من الأوساط الوثنية إلى الفكر والممارسة المسيحيين، وخاصة ما تعلّق بنظام الأفروديسيات. يشير فوكو إلى اهتمامه بالذات والحقيقة والتحول إلى النفس عند المسيحيين  عندما لاحظ في إطار اشتغاله حول تاريخ الجنس، العلاقة الموجودة، بين أشكال التحريم في مجال الجنس وضرورة قول الحقيقة عن الذات. ما أخذه آباء الكنيسة الأوائل من الفلاسفة الوثنيين هو مفاهيمهم عن قواعد الحياة، وخاصة تدبير اللذة   (le régime des aphrodisia) كما يمكن تلقّيه داخل فكر مسيحي مشغول بمسائل الزواج وعلاقته بالعلاقات الجنسية والإنجاب وكبح الشهوة (la continence) (1). إن بحث ميشيل فوكو في الذات والحقيقة وقواعد الحياة عند المسيحيين، يأتي في سياق تفحصه للطريقة التي تؤسس بها الذات نفسها عبر سلسلة من التقنيات الذاتية،  وتحليله الجينيالوجي لتكون الذات تاريخيا والتي لها نزعة أن تصبح في نفس الآن"أنطولوجيا تاريخية لذواتنا" بتعبير فوكو. قاد هذا البحث إلى التساؤل حول مفهومي الإتصال والإنفصال بين الأخلاق الوثنية والأخلاق المسحية، وخصوصية نمط الوجود المسيحي، وأشكال التحول إلى النفس وقول الحقيقة في شأنها والإهتمام بها.