"ماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه" (يسوع)[1]()
 تتميز كل ثقافة بفضاء مهيب من الثراء الروحي والغنى الفكري من حيث هي تجربة إنسانية متفردة لا ندّ لها في الكون ولا نظير؛ وإذا كانت الإنسانية قد شهدت تنوعا في تكويناتها الثقافية عبر تاريخها، فإن هذا التنوع الهائل قد شكل خمائر التطور الحضاري للوجود البشري منذ الأزل، وقد كان من الاستحالة بمكان على الإنسانية أن تنجز ما أنجزته من سؤدد، وأن تحقق ما حققته من مجد الانتصارات، من غير هذا التنوع الثقافي المتخاصب بين الأمم والشعوب. ومع أهمية ما حققته الإنسان من إنجازات حضارية فإن هذا التنوع الثقافي والتخاصب الحضاري ما زال يشكل البوتقة التاريخية التي تتشكل فيها خمائر الحضارة الإنسانية وتتقدم ما بقي الإنسان وما بقيت الإنسانية[2].

ولكن الإنسانية تواجه اليوم تحديات ثقافية كبرى تتمثل في هيمنة ثقافة برغماتية مادية ذات لون واحد واتجاه واحد تفرضها عولمة اقتصادية متوحشة في مختلف مجالات الحياة والوجود، إنها ثقافة السوق والميديا والاتصال، ثقافة تستمد نسغ وجودها وقوتها من قدرتها على إشباع الرغبة والنزوة وتلبية المتطلبات الماددية للجسد في دورة رغائبية من تمجيد لروح الهيمنة ونزعة السيطرة وسطوة القوة، إنها باختصار ثقافة مفرغة من القيم خالية من المعاني والدلالات الروحية الإنسانية التي لطالما جعلت من الإنسان إنسانا ومن الشعوب شعوبا ذات تراث إنساني.

"لا أحد من الفلاسفة كان أكثر نبلا من سبينوزا"
جيل دولوز 
" من يعرف ذاته وانفعالاته بوضوح وتميّز يشعر بالفرح"
باروخ سبينوزا
إهداء: إلى أمي زهرة الحسن تزدايت.

تقديم

لماذا أطلق جيل دولوز لقب "أمير الفلاسفة" على باروخ سبينوزا؟
لأن سبينوزا أعاد للجسد قيمته؛ عندما صاح:"على ماذا يكون الجسد قادرا؟"، وعندما اعتبر النافع والمفيد، والخير والحسن هو ما يزكي  ويقوي الإستمرار في الوجود، وعندما فضح ثلاثة أشكال من صور الشخصيات الأخلاقية: العبد والطاغية ورجل الدين.
ولان سبينوزا كتب رسائل حول الشر، وقام بأكبر عملية للحط من قيمة الإنفعالات الحزينة و منطق الخرافة وأخلاق الإرتكاس، وحاول إصلاح العقل وأعلى من شأن الإنفعالات المرحة.
وسبينوزا أيضا، حسب دولوز، فيلسوف كبير؛ لأنه رسم مسطحا جديدا للمحايثة، ومادة جديدة للكينونة، وأقام صورة جديدة للفكر، وغيّر من دلالة الفكر أو "فكر بشكل مختلف" بتعبير ميشيل فوكو.

" إذا حاول العقل أن يقرر فيما إذا كان العالم محدودا، أو لانهائيا من حيث المكان، فسيقع حتما في تناقض وإشكال، فالعقل مسوق إلى التصور بأن وراء كل حد شيئا أبعد منه، وهكذا إلى ما لانهاية له. ومع ذلك فإن اللانهاية في حد ذاتها شيء لا يمكن إدراكه"
كانط، نقد العقل المحض

يطرح كانط الإشكال التالي:هل العالم أزلي أم له سبب أحدثه؟
في البداية، العالم من حيث هو نسق مكتمل من الواقع هو وهم من أوهام العقل يصعد بشكل غير مشروع من خلاله من الشرطي المعطى إلى اللاّشرطي المفترض أي بعبارة ابن رشد يقيس الغائب على الشاهد.
العالم لا يمكن معرفته بطريقة استدلالية بالانطلاق من مبادئ ميتافيزيقية لأن ما يمكن معرفته هو الكون أي الظواهر المكانية والزمانية غير المعروفة التي يوحدها الذهن بواسطة مقولاته القيلية دون أن يصل بها إلى الوحدة النهائية. لكن اذا جاز الحديث عن عالم فيزيائي ومقاربة معرفية للعالم في الفلسفة النقدية عند كانط التي تحاول التأليف بين مقولات الذهن ومعطيات التجربة،
 من جهة أخرى يخضع كانط في كتاب نقد العقل المحض ظاهرات العالم بماهو فكرة كوسمولوجية الى المعالجة الريبية التي تطرحها الأفكار الترسندنتالية الأربع ويظهر وقوعها في جملة من النقائض المحتمة.

إذا كانت التكنولوجيا الحيوية إحدى المظاهر الحاسمة للتقدم التقني الذي يشهده عصرنا، فإن ثمة سؤالا ينفتح على أفق فلسفي لا يقل أهمية وقيمة عن السؤال الأخلاقي، وهو ذلك المتعلق بنمط العقلانية الموازية للتقدم التقني الذي تفتتحه الثورة البيوتقنية في أفق الألفية الثالثة؟ هذا السؤال يرتبط في وجه منه –لنقل الأساسي- بصيرورة الكائن المعاصر من حيث هي صيرورة ترتسم في عالم يعيش تحت التأثير المباشر والعميق لقوة جبارة تدعى التقنية.
 
شهدت العلوم المعاصرة تطورات مذهلة في المنتصف الأخير للقرن العشرين 20. وقد تسارعت وتيرتها أكثر مع اقتراب نهاية القرن المذكور، مستفيدة في ذلك من السباق المحموم بين اقتصاديات الدول المتقدمة التي راهنت في تقدمها وطموحها إلى تحقيق أعلى معدلات النمو الاقتصادي والرخاء الاجتماعي على التحكم بأنظمة البحث العلمي بدرجات عاليا وربطها بمتطلبات الإنتاج الاقتصادي، بل وإخضاعها في النهاية لمنطق السوق الخالص كما تشهد على ذلك اتجاهات البحث في نطاق ما أصبح يعرف بالبيو-تكنولوجيات.
وإذا كان من الطبيعي أن تطرح مثل هذه التطورات مشاكلها الفلسفية والنظرية على صعيد الموقف الأنطولوجي للكائن، كما هو الشأن في كل المنعطفات الإبستمولوجية التي عرفها تاريخ العلم منذ الثورة الكوبيرنيكية، فإن الثورة التي أطلقتها علوم الهندسة الوراثية والبيولوجيا الجزيئية Biologie moléculaire على إثر الاكتشافات العظيمة في مجال الاستنساخ clonage والتي يظهر أنها تكرست كإنجاز حاسم وعلى نحو لا يقبل التراجع فيما يخص أهدافه البعيدة مع الإعلان عن إنجاز الخريطة الشاملة للجينات البشرية (الجينوم) تطرح بالإضافة لذلك، مشاكل أخلاقية على قدر كبير من الحساسية والخطورة، بالنظر إلى طبيعة مجال تطبيقاتها وما يثيره من شكوك حول مدى قدرة العلماء على التحكم بنتائجها وأغراضها الإنسانية المعلنة، فيما كثير من الأصوات تدق ناقوس الخطر بشأن تدخل أطراف مستفيدة من هذه الثورة لتحريف إنجازاتها واستغلالها لأغراض لا إنسانية أو على الأقل ستنطوي على تهديد لحميمية الكائن البشري وكرامته وخصوصيته.

قبل البدء بقراءة مارتن هيدجر لمقولة هيراقليطس، سنعرض وعلى سبيل التقديم لهذا الموضوع، بعض الأمور المهمة والتي ستساعدنا على فهم وإدراك أهمية هيراقليطس في مسار الفلسفة عموما وفي لحظتنا الآنية أو المعاصرة على الخصوص.
    تعد هذه المقولة الفلسفية لهيراقليطس ،الأشهر في تاريخ الفلسفة الميتافيزيقية وقد جرى تداولها واقتباسها وشرحها وتأويلها من قبل كثير من الفلاسفة والمفكرين، وعلى أساس هذه المقولة انقسمت الفلسفة والفلاسفة إلى فريقين، الفريق الأول يتبع مقولة الوحدة والثبات البارمنيدسية (من بارمنيدس)، والفريق الآخر يناصر ويتبع فلسفة الصيرورة والتغيّر التي تولدت من مقولة هيراقليطس –التي نحن بصدد مناقشتها- وفلسفته عموما. وقد عادت هذه الفلسفة إلى الظهور مجددا وبقوة من خلال أعمال فردريك نيتشه لاسيما في كتابه حول (الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي)،  ونيتشه وقَبْلَهُ هيغل  يُعدّان الأساس الذي اعتمدت عليه التيارات الفلسفية المابعد حداثية، وإن كانت أهمية نيتشه أقوى وأكثر تاثيراً من هيغل، فالعودة إلى نيتشه هي عودة استلهام وأخذ وتأثير وتقليد وهذا ماحدث مع (هيدجر، فوكو،دولوز، دريدا، ليوتار) فهؤلاء (أقتبسوا وشرحوا وأوّلوا) نيتشه، بينما فعلوا على عكس ذلك مع هيغل، إذ أنّ همهم كان الخروج من عباءته، وقلب أفكاره ومعارضتها، وأحيانا إعلان البراءة من الانتماء إليه، ومثال ذلك ما طرحه (دريدا ودولوز) بأنّ (الاختلاف هو الأصل، وأنه أسبق في الوجود من الهوية، إذ أن الاختلاف هو ما يصنع الهوية).

" توفر التجربة المعيار الأقصى للحقيقة"1
يبدو أن التطرق إلى الحقيقة في الحياة اليومية وضمن النشاطات العلمية للإنسان لا يستقيم دون المرور بمحك التجارب سواء تعلق الأمر بالأحداث التاريخية أو الممارسات الاجتماعية أو النظريات العلمية.
من البديهي أن يتم عرض مختلف الفرضيات والنظريات على حاكم التجربة بغية تخليصها من الأخطاء وتقريبها من العالم ومن أجل امتحان درجة بعدها عن المعتقدات الزائفة ومدى قربها ومطابقتها للواقع.
لكن كيف نفهم هذا المصطلح: التجربة؟ وما الفرق بين التجربة عند العامي والتجربة في المجال العلمي؟
يدل مصطلح التجربة على معنى عام ومترامي الأبعاد وينطبق على حقل واسع من الإشارات والأفعال والدلالات. لكي يتم تحديد المعنى الذي ينطبق عليه بأكثر دقة يكون من المفيد استدعاء جملة من التمييزات التي تستعمل في إبراز التعارض بين السبر والمعاينة وبين الفرض والافتراض وبين التجريب والاختبار.

يعتبر إدموند هوسرل Edmund Husserl مؤسس الفينومينولوجيا (الظاهراتية). وهكذا أنجب واحدة من أهم الحركات الفلسفية في القرن العشرين، وهي حركة لا يمكن حصر ورثتها: هايدغر، ريناخ، شتاين، ريكور، دريدا، ليفيناس، إنغاردن، ميرلو بونتي، هنري، ماريون، واللائحة طويلة. يجب البحث عن أصل نجاح فلسفة هوسرل في طريقة جديدة جذرية ل إنتاج فلسفة طورها هوسرل وزودها بطاقة على تجديد نفسها باستمرار.
تقدم فينومينولوجيا هوسرل نفسها أولاً وقبل كل شيء كعلم تصويري للظواهر الماثلة في الوعي بعد وضع أطروحة العالم بين قوسين. ومع ذلك، لا يقتصر عمل هوسرل على تحليل أعمال الوعي، لكنه يتناول معظم الثيمات الرئيسية للفلسفة: الوجود، اللغة، المعرفة، العلوم (المنطق، الرياضيات، علم النفس). )، الوعي، الزمن، الأخلاق، التاريخ أو المنهج الفلسفي البحت، هذه اذن بعض الثيمات التي اشتغل عليها هوسرل طوال حياته والتي أضاف اليها مساهمة أصيلة.
الغرض من هذا العرض هو إظهار تنوع المواضيع التي تناولها هوسرل والتوتر بين العقلانية والمطلب التجريبي الذي اخترق فلسفته كلها. وهكذا، بعد تقديم موجز لسيرته الذاتية، نعرض لبعض الثيمات والمفاهيم الأكثر أهمية في العمل الفلسفي لـهوسرل، بينما نحاول استيعاب العديد من التطورات التي حدثت في فكره، لنختم بتناول بعض الانتقادات التي تعرض لها.
1- نبذة عن حياته
ولد في پروسنتز Proβnitz (موراڤيا ) يوم 8 أبريل 1859 لأبوين يهوديين. تلقى أولا دروسا في علم الفلك بلايبزيغ (1876-1878) ثم في الرياضيات ببرلين (1878-1881)، حيث تتلمذ على كارل ليوبولد كرونيكير Leopold Kronecker وكارل ويرستراس Carl Weierstrass . في عام 1883، دافع في جامعة فيينا عن أطروحة دكتوراه في الرياضيات حول نظرية الاختلافات. ثم حضر دروس الفلسفة التي قدمها فرانز برنتانو Franz Brentano في فيينا (1884-1886). وبموجب نصيحة من الأخير، هيأ سنة 1887 في مدينة هال Halle أطروحة تأهيلية حول مفهوم العدد تحت إشراف كارل ستومبف Carl Stumpf. أصبح مساعدا في جامعة هال (1887-1901)، وأستاذا في جامعة غوتنغن (1901-1916) وانهى مسيرته في جامعة فرايبورغ (1916-1928). بعد تقاعده، سيتم حرمانه من بعض حقوقه الأكاديمية بسبب أصوله اليهودية (على الرغم من تحوله في مرحلة شبابه إلى البروتستانتية). توفي في مدينة فرايبورغ في 27 أبريل 1938. بحكم تعرضها للتهديد بالإتلاف على يد النازيين، قام ليو فان بريدا Leo Van Breda بنقل تركته، المؤلفة من مكتبته الشخصية الفلسفية (مع الشروح) وما يزيد عن 40،000 صفحة من المخطوطات، بطريقة سرية إلى مكان آمن في لوفين Leuven، حيث تم، في عام 1939، إنشاء "أرشيفات هوسرل"، المؤسسة التي لا تزال مسؤولة عن طبع ونشر أعمال هوسرل.

على سبيل التقديم :
تأتي هذه المقالة الكانطية المعنونة ب "فكرة عن تاريخ كوني من وجهة نظر المواطنة العالمية" في سياق خاص يشكل ردا أو استجابة لملاحظة (حول إمكانية كتابة تاريخ للجنس البشري على ضوء الفكرة القائلة بغائيته، وسعيه لتحقيق نظام سياسي مكتمل) تمت إثارتها في مجلة ألمانية.
أما السياق العام للمقالة فهو يقترن بمناقشات فلسفية طويلة حول مفاهيم: التقدم والغائية والمواطنة العالمية )الكوسموبوليتية(...في إطار ما يعرف ب "فلسفة التاريخ"....وحتى نتمكن من استيعاب مضامين المقالة سنسترشد بالتساؤلات الآتية : هل يستقيم الحديث عن تاريخ كوني )عالمي(؟ ألا تخفي التواريخ الجزئية-   للشعوب والحضارات- وراءها خيطا ناظما بإمكانه أن يرشدنا إلى حضور فكرة التقدم والغائية داخل التاريخ ؟ ثم هل يمكن التأسيس لنظام سياسي عالمي ينقلنا من المواطنة الدولتية  -إن صح التعبير- إلى المواطنة العالمية ؟ وبالمقابل أليس هذا التصور تعبيرا عن منظور ميتافيزيقي نابع من خارج التاريخ لا من داخله ؟
بداية لابد من استيعاب التمييز الذي يقيمه كانط بين مجال الفينومين )الظواهر( والنومين) الشيء في ذاته(. فإن كان الأول يرتبط بالطبيعة المحكومة بقوانين الحتمية، فإن الثاني يحيل إلى الجانب الميتافيزيقي المنفتح على حرية الإرادة.
بيد أن هذا التمييز لا يلغي في نظر كانط خضوع الأفعال الإنسانية لقوانين الطبيعة الكونية. ووحدها هذه الأخيرة يمكن أن تنقل الأفعال الإنسانية )والتاريخية( من مجال الصدفة والعرضية إلى مجال الحتمية والغائية. لتمنحنا بذلك إمكانية إيجاد خيط ناظم- مرشد- للتاريخ، تتحقق فيه فكرة التقدم باتجاه المواطنة العالمية )نظام سياسي كوسموبوليتي(. فكيف يعرض كانط منظوره هذا في المقال ؟

" إن الحرية في هذا النظام الصارم هي المعنى العميق والوجه الحقيقي للضرورة"1
جان بول سارتر (1905-1980) هو مثقف نوعي من الطراز الأول عرفته الأوساط الباريسية في فرنسا وعواصم العالم العربي ومعظم البلدان الأوروبية والأمريكية والآسيوية التي زارها طوال القرن العشرين.
لقد جعل من أثره مسارا نضاليا وعكست مؤلفاته برمتها انخراطا مبكرا في المعارك السياسية والصراع الاجتماعي في عصره وظهر ذلك في معاداته للاستعمار وتبنيه نزعة اشتراكية نقدية وقيامه بتأسيس مجلة الأزمنة الحديثة صحبة سيمون دي بوفوار وألبرت كامو وإبرامه لصداقة وجودية مع موريس مرلوبونتي.
لقد أضفى سارتر على الوجودية طابعا إنسانويا ودافع بشراسة على الحرية من حيث هي قدر إنساني في أن يكون حرا ويتحمل مسؤولية ذلك ولقد جمع بين الفلسفة والأدب والمسرح والسياسة والالتزام الوجودي.
بدأ سارتر رحلته في الكتابة بإصدار كتيبات عن الخيال والمخيال في منتصف العقد الثلاثيني ولكنه جسم تأثره البالغ بكتاب مارتن هيدجر الوجود والزمان والأبحاث المنطقية لأودموند هوسرل في عام 1943 بإخراج كتاب مهم عنونه بالوجود والعدم ظل محل جدل وخلاف تأويلي إلى الآن وأردفه بجلسة مغلقة سنة 1944 ترجم فيها أفكاره الوجودية وفق أسلوب أدبي ثم ظهرت له دروب الحرية في ثلاثة أجزاء عام 1945 وفي نفس السنة ظهرت له رسالة الوجودية من حيث هي نزعة انسانوية وتابع اهتمامه بالسيرة الذاتية وألف عن كوميديا جنيت في عام 1952 وأبله العائلة وختم بكتاب نقد العقل الجدلي عام 1960.

" الرغبة: من سيودّ في تسمية هذا »بالنقص «إذا ما استثنينا الكهنة؟ ".
" ليس فعل الرغبة بأمر سهل، وذلك بالضبط لأنه يعطي عوض أن يكون نقصا، إنها »فضيلة تمنح« " .                               
جيل دولوز
تقديم
    لم تكن نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء؛ أي ما بعد التحرير، بالنسبة لجيل دولوز لحظة احتفال، بل انتباه يقظ لتاريخ الفلسفة، وما شكله من تضييق وخنق لإمكانية التفكير. فمع سيادة مذاهب كالوجودية(باستثناء سارتر) والفينومينولوجيا، تم فرض تقاليد وقواعد وصور، وتكونت مدارس رهيبة تصنع اختصاصيين في الفكر، وتمنع الناس تماما من التفكير. زاد الأمر تعقيدا، مع استعارة الفكر لصورته الفلسفية المحضة من الدولة كباطن جوهري أو ذاتي، كما حل محل الفلسفة منافسين جدد، كالتحليل النفسي مثلا. في ظل هذه الشروط، انطلق دولوز في البحث عن طريقة جديدة للتفكير- مع عدم احتماله لا لديكارت أي الثنائيات والكوجيطو، ولا هيغل أي الثالوث وعمل السلب، ولا لفرويد والمحللين النفسانيين- تقوم أساسا على التجريب، وليس على التأويل؛ هذا الفن العملي الشهير للتحليل النفسي، وعلى تحرير الرغبة التي أصابها التضخم، وأضحت مقترنة بالنقص والثقافة والقانون. تطلب الأمر من دولوز مواجهة خصوم، وإبداع مفاهيم وخطوط هروب وتنسيقات تسمح بإمكانية الرغبة؛ أي مجموع العناصر الخارجية التي تتركب وتترابط لتكون رغبة ما. كما اقترن انخراط دولوز في البحث عن أدوات جديدة لاستئناف القول الفلسفي وإبداع صورة جديدة للفكر، بتحولات قوى الأقليات الهامشية وكل قوى الصيرورات وكل قوى اللغة، وكل قوى الفن التي أخذت في الهروب والحديث والتفكير والفعل والصيرورة بشكل آخر، غاية في تحرير الإنسان وتحرير الحياة حيثما هي أسيرة.

" كل شيء يتوقف على قيمة ما نفكر فيه وعلى معناه. إن لدينا دائما الحقائق التي نستحقها تبعا لمعنى ما نتصوره ولقيمة ما نعتقده"[1]
جيل دولوز (1925-1995) فيلسوف رحال بامتياز ويعود ذلك إلى كونه مؤسس النومادولوجيا في تاريخ الفلسفة وأدب البورتريه والفيلم الفلسفي من خلال الفرجة على الأزمنة المتحركة والأمكنة المستكشفة، لقد أصبحت صورة الفيلسوف معه مرتبطة برحلته وسيرته الذاتية في الحياة ولا تقتصر على تجربة تدريس الفلسفة واللقاءات والأفلام التي أجريت معه وصار الفكر الفلسفي زرع الروزومات على مسطح المحايثة.
لقد اشتغل دولوز مدرسا للفلسفة منذ 1950 في وضعية مساعد للعديد من الأساتذة الكبار المشهورين ولكنه أنتج دراسات تاريخية حول كانط وسبينوزا وبرجسون ونيتشه وهيوم وجمع مونوغرافيا لامعة حولهم، ولم يجد فرصته الاستثنائية إلا عندما التحق بالمكان الذي تركه ميشيل فوكو في المركز الجامعي التجريبي لفانسان الذي مكث فيه الى حد 1987 وقدم فيه مجموعة من الدروس عكست كلها اهتماماته في بناء فعالية فلسفية مستقلة تدور حول الإبداع الفني والفعل السياسي وتبذل مجهودات من اجل إعادة الاعتبار للذات وتفكر في الحرية وتهتم بالعلوم وتحاور علم النفس التحليلي وفرويد وتجعل من قضية الزمن مسألة بارزة.
لقد ألف دولوز منذ 1962 كتاب نيتشه والفلسفة ووقع سنة 1967 رائعة الفرق والمعاودة وفي سنة 1969 منطق المعنى وبعد ذلك صاغ تأليفا مشتركا مع طبيب نفساني اسمه فليكس غتاري أثمر أولا كتاب ألف سطح وبعدذلك في سنة 1991 كتاب ما الفلسفة؟ ولكنه تفاعل مع الأركيولوجيا في كتاب فوكو عام 1986.