خلفت أعمال الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين أثرا جليا في الفكر الفلسفي و في مجالات أخرى مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا و علم النفس، حتى أن إسهاماته الفكرية قد شكلت محطة تحويلية في الفلسفة الغربية و تمخضت عنها بالتالي الفلسفة المعاصرة كما نعرفها اليوم. لم يبق من المجالات ما لم يبلغه أثر أفكاره، و قد عمل في المنطق و الرياضيات و علم الأخلاق، حتى نال شهرة واسعة رغم أنه لم ينشر خلال حياته إلا كتابا واحدا. عقب وفاة فيتغنشتاين و بزوغ تيارات فكرية جديدة، و كذا تطور علم اللسانيات والعلوم الإدراكية، تطورت الفلسفة على نحو معاكس لأفكاره، حيث انصب التركيز على تجاوز الرؤية التحليلية الصارمة للغة بصفتها وسيلة لتصوير الواقع لصالح مقاربات تتبنى تعددية المعنى و السياق الاجتماعي و الثقافي للغة، و تعطي أهمية كبرى لاحتمالات التأويل و التفسير المختلفة.
إرث فتغنشتاين في الفكر المعاصر
من خلال كتابه الأول الرسالة المنطقية الفلسفية (Tractatus Logico-Philosophicus)، قدم فيتغنشتاين لنا "نظرية الصورة"، و هي نظرية تشير إلى أن للغة دورا وظيفيا ألا و هو تصوير الأشياء[1]. أثرت هذه النظرية بشكل كبير على حركة الوضعية المنطقية (Logical Positivism) – أو التجريبية المنطقية – التي شكلت جزءا مهما من الفلسفة إلى حدود ستينيات القرن العشرين، إذ يزعم فيتغنشتاين من خلالها أن الجملة تمثل الواقع لأنها تشاركه في البنية المنطقية نفسها، أي أن الجملة و الصورة الواقعية لهما نفس التركيب الداخلي. رغم قوتها التحليلية، كانت نظرية الصورة موضوع انتقاد للعديد من الفلاسفة و المفكرين نظرا لمحدوديتها و ضيق آفاقها، و قد أقر فيتغنشتاين نفسه بقصور نظريته تلك في كتاباته و أعماله اللاحقة. أما في كتابه تحقيقات فلسفية (Philosophical investigations)، فقد تخلى عن نظرية الصورة و تبنى بدلا منها فكرة "ألعاب اللغة"، مؤكدا أنه من المستحيل اختزال اللغة في وظيفتها التصويرية للواقع المادي، خاصة أنها ظاهرة اجتماعية و ثقافية تعتمد على السياق و الاستخدام[2]. تشير ألعاب اللغة إلى مختلف الطرق التي تستخدم بها الكلمات و الجمل في الحياة اليومية، و هي التي تخلق المعنى عبر خضوعها لمجموعة من القواعد الغير مكتوبة و التي تمليها على كل منا التقاليد و الأعراف السائدة في مجتمعه. يستخدم فيتغنشتاين التشبيه بالألعاب لوصف اللغة لكي يعبر عن ثراء اللغة و غناها باعتبارها شبكة من الممارسات التي تمكننا من التواصل مع كل من الذات و الغير.
قدر فيتغنشتاين أن للغة استخدامات عديدة إلى جانب الاستخدام التصويري الذي ينقل الشيء من حقل الرؤية إلى تجسيد لغوي (مكتوب أو مسموع)، فاللغة هي أيضا وسيلة للتعبير عن المشاعر التي هي أشياء حقيقة رغم كونها غير مرئية. كما أن اللغة وسيلة لنقل المعرفة و الحقائق التي قد لا يتمكن المرء من رؤيتها بالعين المجردة، و ذلك رغم إدراكه و يقينه القاطع بوجودها في مكان ما في هذا العالم. هذا التحول في فكر فيتغنشتاين قد شكل انعطافة كبيرة في مجال الفلسفة المعاصرة، و دفع المفكرين إلى التركيز على الاستخدام العملي للغة عوضا عن التنقيب المستمر عن بنية منطقية ثابتة لها. إضافة إلى ذلك، ساهمت هذه الرؤية الجديدة في خلق آفاق فلسفية جديدة أدت إلى ظهور مقاربات فلسفية حديثة مثل فلسفة العلم الكلامي (Speech Act Theory) التي تتمحور حول الأفعال التي تنجزها اللغة مثل الأمر، النهي، السؤال، و النفي. أكد فيتغنشتاين من خلال جل إسهاماته الفكرية على يقين تام منه بأن "كل شيء يحدث داخل اللغة"، حيث أنها هي السبيل الوحيد لفهم العالم والتفاعل مع معطياته عبر عمليات فكرية تتمخض عنها المعرفة التي بدورها تنتقل ويذيع صيتها عبر اللغة. و عليه، فإن اللغة ليست مجرد أداة لنقل الأفكار و تداولها أو وصف الواقع بموضوعية تامة، بل هي الإطار الذي تتشكل بداخله تجربتنا الإنسانية و العنصر الذي يحدد زاوية رؤيتنا للأحداث. لا يمكن تصور المعرفة أو التفكير بمعزل عن اللغة، فبالرغم من أنها من صنيع الإنسان و اختراعه، فهي التي تصنع الإنسان في واقع الأمر و تميزه عن غيره من الكائنات فتصبح معقل فطنته و ذكاءه الذي يبني عبره حضارة ضاربة. هذا التأكيد على مركزية اللغة في فلسفة لودفيغ فيتغنشتاين يجعلها أساس طبيعة الحقيقة و أصل المعنى الذي يقضي الإنسان دهرا بأكمله في البحث عنه، سواء بين صفحات الكتب أم في المدارس و الأقسام، بل و يجعلها اللبنة الأولى لهذا البحث الذي لا يمكن له أن يكتمل بدونها. في سياق مختلف شيئا ما، أشار الروائي و الشاعر البريطاني جورج أورويل في كتابه 1984 إلى أن اللغة تشكل المعرفة و السيطرة على الفكر، و أن التحكم فيها – سواء بالإثراء أو التقييد – هو شكل من أشكال التحكم بالعقول و تقييد الفكر. بينما أكد الفيلسوف الأمريكي ويلفريد سيلارز على أن المعرفة لا تأتي حصرا من التجربة الحسية، و أنها تعتمد أيضا على اللغة والمفاهيم التي تسمح لنا بفهم تلك التجارب، أي أن اللغة هي بمثابة الوسيط الذي يحول التجربة الحسية إلى معرفة قابلة للتداول. حتى أن اللغة هي التي تمكننا من تقييم المعرفة التي تنتج عن عملية التفكير و البحث العلمي، فهي التي تمنحنا أدوات منطقية لتقدير مدى صحة نظرية معينة. من خلال اللغة يمكننا بناء المعرفة و تنظيمها و صياغتها بطريقة واضحة، و كذا استخدام أدوات منطقية مثل التحليل والاستدلال لتقدير مدى صحتها أو اتساقها.
التفاعل بين اللغة والمجتمع
بالرغم من القيمة الاستثنائية للغة ودورها المهم في تشكيل المفاهيم، فإنها لا تعمل في فراغ، إذ أنها تتفاعل مع السياق الاجتماعي الذي تنشأ فيه. يحدد المجتمع من خلال عاداته و أعرافه الاستخدامات اليومية للغة، و يضعها ضمن سياق ثقافي يخلق لها معنى يتماشى مع ما هو متفق عليه؛ هذا ما يفسر اختلاف معاني الكلمات و التعابير عبر الثقافات والأزمنة. إن أبرز مثال على أهمية السياق الثقافي و الاجتماعي في تحديد المعنى اللغوي هو اختلاف لهجات اللغة الواحدة، و ما ينتج عن هذا الاختلاف من استخدام متنوع لكلمات يعود أصلها إلى نفس اللغة. يعتبر تعدد اللهجات في اللغة العربية، و كذا اللكنات في كل كل لهجة منها، دليلا قاطعا على مدى تأثير المجتمع على اللغة وطريقة استخدامها. علاوة على ذلك فإن اللهجات واللكنات المحلية تسهم في تعزيز الهوية الثقافية للجماعات، و في الوقت نفسه، تظهر وحدة اللغة الأم التي تربط هذه اللهجات بجذور لغوية مشتركة. كما أن اللغة عادة ما تتأثر بشكل كبير بالظروف السوسيواقتصادية لكل مجتمع، كما تتأثر أيضا بالمستوى التعليمي السائد في مختلف الأوساط، فاللغة التي يستخدمها الأكاديميون في بحوثهم و أعمالهم تختلف كثيرا عن اللغة التي يستخدمها الباعة المتجولون مثلا في تسويق بضاعتهم لعامة الناس. لقد ولى زمن كانت فيه النخبة المثقفة هي التي تحدد اللغة الشعبية (popular linguo)، حيث أن وسائل التواصل الاجتماعي تبنت هذا الدور و باتت تشكل ساحة رئيسية لتطوير اللغة و صياغة مصطلحات جديدة لا تخضع بالضرورة لقوانين اللغة المتعارف عليها. أصبحت اللغة الشعبية السائدة على الإنترنت نابعة من احتياجات المستخدمين العاديين، و بعيدة كل البعد عن القيود التقليدية لقواعد النحو، حتى أن فيتغنشتاين كان ليصف هذه الظاهرة على أنها تغيير غير متوقع لقواعد اللعبة اللغوية من قبل أشخاص قرروا المشاركة فيها بعد أن قضوا زمنا طويلا كونهم مجرد متفرجين. تخلق وسائل التواصل الاجتماعي مساحة تتمتع بخصوصيات تسمح للمستخدمين أن يتحولوا من متلقين إلى منتجين للمعنى، الشيء الذي يجعل اللغة أكثر انفتاحا و تنوعا و يثبت كونها ظاهرة اجتماعية و ليست كيانا منفصلا أو مقدسا.
تشير فرضية النسبية اللغوية (Linguistic Relativity) إلى أن بنية اللغة يمكن أن تشكل كيفية فهم متحدثيها وتفاعلهم مع العالم من حولهم، ففي اللغة العربية مثلا، تتعدد المرادفات المرتبطة بالحب – مثل العشق، الهيام، الهوى، الغرام، إلخ – التي تعزز مدى الإدراك العاطفي و تمنحنا أفقا شاسعا لفهم هذا الشعور الإنساني. يمكننا القول إذن أن بنية اللغة العربية هي التي تضفي على موضوع الحب شاعرية خاصة تتفرد بها عن غيرها من اللغات. تتطور اللغة داخل سياقها الثقافي، ولهذا فإن فهم ثقافة أمة و شعب معين يتطلب إتقان لغتها و فك شيفرات دلالاتها ومعانيها الخاصة. أن تكون متعدد اللغات يعني أيضًا أن تكون عالمًا في الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى حد ما، و ذلك لأن اللغة هي نافذة تطل على حضارة بأكملها.
هل اللغة حدود المعرفة؟
هذا هو السؤال الذي سعى فيتغنشتاين إلى الإجابة عنه، وهو الذي اشتهر بمقولته "حدود لغتي هي حدود عالمي". هو سؤال لا يكاد يخلو بحد ذاته من الأسئلة، حيث أن معنى "العالم" داخل سياق هذه المقولة مبهم شيئا ما. هناك من يفسر العالم على أنه فضاء معرفي مشترك بين الناس أساسه المنطق الذي تدعمه اللغة، بينما هناك من يرى أنه فضاء اجتماعي يمكن للفرد أن يتقاسمه مع الآخرين من خلال التواصل. لطالما حاول فيتغنشتاين أن يدافع عن كون اللغة أكثر من مجرد أداة للتواصل، مؤكدا على أنها هي التي تبني الصور المنطقية للعالم، و أن ما لا يمكن وصفه باللغة فهو يعتبر تلقائيا خارج حدود عالمنا المفهوم. قد يخطر للقارئ أن فيتغنشتاين ربما أغفل مسألة عالم الماورائيات مثلا في نظريته هذه، لكنه في الحقيقة قد كتب عدة نصوص تتطرق للغة الروحانية والدينية التي تتبناها بعض المجتمعات، حيث اعتبر أن اللغة الدينية ليست مجرد وصف للواقع المادي، بل هي تعبير عن تجربة إنسانية عميقة و رمزية تتجاوز اللغة المنطقية التقليدية. في نظر فيتغنشتاين، ليست اللغة الدينية قائمة على مجموعة من الحقائق البديهية (Axioms) كما هو الأمر بالنسبة للمعرفة العلمية، بل تهدف إلى التعبير عن شعور الإنسان تجاه واقعه المادي وعلاقته بالمطلق. رغم اختلاف اللغة الدينية عن اللغة العلمية، فإن كلتاهما تخضعان لنفس قواعد اللعبة اللغوية.
إن وتيرة تقدم العلم الحديث هي خير مثال على أن اللغة لا يمكن لها أن تكون عائقا يحول دون التوصل لمعارف جديدة، إذ أن اكتشاف ظواهر جديدة هو الذي يدفع الباحث إلى إيجاد مسميات جديدة لها و ليس العكس؛ أي أن قصور اللغة في وحدودها لا يحد بالضرورة آفاق العالم المعرفي.
اللغة و الأدب
أصبح الأدب منغلقا على نفسه بحكم أفول عصر الكلاسيكيات و النصوص المخلدة بعظمتها و اختلافها عن غيرها، ليس لأن اللغة لم تعد قادرة على خلق أيقونات أدبية جديدة، أو لأنها بلغت حدود قدرتها على التعبير والإيحاء. كل ما في الأمر أن الكتابة أصبحت ممارسة شخصية لأبعد حد، بعد أن كان الكاتب قديما يسخر اللغة لكي يسطر ملحمة أمة بأكملها و يخلق لشعبه ذاكرة جماعية. باتت السياسة هي المسرح الحقيقي لسطر الملحمة و رسم الهوية الوطنية، بينما اكتفت "الكتابة الجديدة" بمحاولة التوسع في التجربة الإنسانية و المعاناة الفردية، و تحليل الظواهر الاجتماعية التي تكاد تغيب تماما عن النقاش السياسي الذي اتخذ بدوره منحى اقتصاديا و عسكريا مجردًا من الإنسانية. هذا الانكفاء على الذات والالتفات حصرا إلى عقد النفس البشرية في الأدب المعاصر يعكس نزعة من الفردانية أنتجتها كثرة الأزمات الخارجية، والتي خلفت فجوة كبرى بين التجربة الإنسانية المشتركة والواقع المعاش. أصبحت الكتابة وسيلة للهروب من تعقيدات العالم الخارجي، في حين تحررت اللغة الأدبية من القيود التمثيلية الصارمة و باتت تحتضن تعددية التأويلات.
تمثل فلسفة فيتغنشتاين نقطة التقاء بين اللغة والأدب، حيث تقدم رؤية عميقة لكيفية تشكيل اللغة لتجربتنا و فهمنا للعالم. الأدب، في ضوء أفكاره، ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل هو مجال لاستكشاف إمكانات اللغة وحدودها، مما يجعل العلاقة بينهما غنية ومفتوحة على آفاق تأويلية متعددة.
[1] Wittgenstein, L. (2013). Tractatus Logico-Philosophicus (1st ed.). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781315884950
[2] Wittgenstein, L. (1953). Philosophical investigations. Philosophische Untersuchungen. Macmillan.