"إلى أين إذن ينبغي على المرء أن يسعى؟ إلى هنا فقط:
فكر صائب، وفعل للخير العام، وقول لا يعرف الكذب،
وتقبّل لكل ما يجري كشيء ضروري وعادي ونابع من
مبدإ ومصدر من نفس الصنف"
ماركوس أوريليوس (التأملات)
مقدمة
تحتل الفلسفة الرواقية مكانة متميّزة بين المدارس الفلسفية سواء في الحقبة الهلنيستية أو الحقبة الرومانية وما بعدها. فقد صارت بفضلها الفلسفة طريقة حياة وكيفية وجود، وأصبح الفيلسوف يخط الكتب من أجل عيش حياته وإثبات أقواله، وليس بهدف مراكمة أطروحات ونظريات. إن الأمر يتعلق باهتمام عملي بالنفس، وانشغال حقيقي بالآخرين لقيادتهم بالنسبة للأشياء التي تناسب طبيعتهم. هكذا صار الفلاسفة الرواقيون يدعون إلى حرية التفلسف ويشجعون على السعي إلى الحكمة والفلسفة العملية وعلى تحقيق السعادة والطمأنينة. لكن الفوز بهذه الفضائل، يتطلب من الفيلسوف الإستغراق في الحاضر، وعيش الحياة في دفقها اليومي حيث الكمال الخلقي "يتطلب أن نقضي كل يوم، وكأنه يوم أخير لنا" بتعبير ماركوس أوريليوس.
يفترض الإدراك الرواقي للوجود والحياة اكتساب رؤية عميقة للحاضر، بل وإرغام الفكر بإجراء نوع من القطع للحظة في الحياة لسيل من الأنشطة والأعمال، وترجمة مبادئ الحقيقة في الأفعال والممارسات. أثناء هذا اللقاء بين الفكر والتجربة، من اللازم العمل بوصية إبكتاتوس Epictète وسنيكا Sénèque ومارك أوريل Marc Aurèle القاضية بوجوب "النظر إلى النفس" والإنهمام بها، والإنتباه إلى أشكال التوجيه والإدارة، وإلى التمارين والممارسات التي تساعد على التكوين والتدريب والتحويل. يلح الفيلسوف الرواقي على أن عملية التحويل تتطلب الإستعمال الجيّد للعقل والسعي إلى اكتساب المعرفة الحقيقية والفضائل الأخلاقية، وتوجيه الذات والآخرين نحو "العيش وفق الطبيعة".
1-مفهوم الفلسفة والحكمة العملية عند الرواقيين
أولى الفلاسفة الرواقيون الأوائل اهتماما خاصا بالفيزياء والمنطق على غرار المعلمين الأوائل؛ فالأخلاق عند سنيكا Sénèque ليس لها أساس ولا قوّة إذا لم تستند على المعرفة العامة للطبيعة. وإذا كان إبكتيت Epictète يستخف بعلم الفيزياء، فإن مارك أوريل Marc Aurèle يعتبر الفلسفة تأملا مستمرا في القوانين العامة التي تدير حكم العالم، ومن تم ضرورة دراسة الظواهر الطبيعية والإهتمام بالمبادئ العامة لعلم الفيزياء. هكذا يتفق الفلاسفة الرواقيين على فائدة الفيزياء للإنسان، وعلى الأهمية التي يجب منحها لعلم المنطق (الجدل) الذي يتأسس على تقنية الحوار والمناقشة الحجاجية والتحليل المنطقي. فالجدل عند الرواقيين ينصب لا على الأشياء، وإنما على المنطوقات الصادقة أو الكاذبة المتصلة بالاشياء(1).
إلى جانب الفيزياء والمنطق، أولى الفلاسفة الرواقيون اهتماما خاصا لعلم الأخلاق، لكن الأمر لا يلغي التجاور والإختلاط الشديد بين العلوم الثلاثة؛ فهذا زينون Zénon الفيلسوف الرواقي أحس أن من المحال أن يكون للإنسان مذهب في الأخلاق دون أن يستند على أساس من الطبيعة والميتافيزيقا: إذ لا يستطيع أحد أن يكون له قواعد للسلوك دون فكرة عامة عن الكون الذي يحيى فيه(2).
هكذا، مكّن علم الفيزياء وعلم المنطق وعلم الأخلاق الفلاسفة الرواقيين من الإحاطة بالأمور الإلهية والبشرية ومعرفة عللها. ولما كان العقل في اعتقادهم هو العنصر المشترك بين العالم الإلهي والعالم البشري، فقد صح أن يقال في تعريف الفلسفة إنها علم الموجودات العاقلة، وبعبارة أخرى هي علم الأشياء كلها: لأن الأشياء الطبيعية مندمجة في الأشياء الإلهية(3).
إن استعمال العقل بحرية(4) واستقلالية، وحُسن التصرّف في جميع الأشياء هي من السّمات المميّزة للحكيم الرواقي، فهو ماهر في جميع الفنون وعليم في جميع العلوم، لأن الموهبة، العلم أو الفن، تكمن في إمكانيات يمكن بواسطتها أن يجيد استعمال الأشياء قليلة الاهمية(5). في هذا السياق، يقول ديوجين اللائرتي بصدد زينون:" كان زينون يذهب في قوله إلى أنه ينبغي على الشباب أن يسلكوا في حياتهم مسلكا تسوده اللياقة، سواء في سيرهم أو في مظهرهم أو في زيّهم وملبسهم(6).. إن الأمر يتعلق بتملّك معارف وتقنيات وحكم تهمّ الحياة العملية وفن الحياة tecknê tou biou.
يلخص ميشيل فوكو Michel Foucault الحكمة العملية الرواقية في خوض المعارك التالية:
-أولا: معركة داخلية تسمح بتصحيح العيوب والعلل.
-ثانيا: معركة خارجية سواء في المواجهة مع الخصم أو مع غواية اللذة والشهوة.
ثالثا: ... الصراع مع الرغبة.
رابعا: ما هو عظيم هو أن لا تتبع الخيرات العابرة، ولكن يجب أن تتبع الخير العقلي bona mens ، أي، يجب أن تجد هدفك وسعادتك والخير الحقيقي هو في نفسك وفي عقلك وفي نوعية روحك.
خامسا: إن ما هو مهم هو أن تكون حرا من أجل أن ترحل، وأن تكون روحك على شفتيك(7).
يلعب الفيلسوف الرواقي دورا طلائعيا في بسط هذه الحكمة العملية، وفي إبراز أين تكمن هذه المعركة، إن هذا الشخص، كما يقول إبقتاتوس، هو بحق قوي وماهر في فن الخطابة deino en logos ، وأنه protreptkos/elegktikos. إنهما كلمتان تقنيتان للغاية. تفيد الكلمة protreptkos : الشخص القادر على أن يقدم تعليما مغيّرا proptreptique، بمعنى تعليما قادرا على أن يحوّل الفكر أو الروح في الإتجاه الجيّد و السليم. وتفيد الكلمة الثانية elegktikos : الشخص الماهر في فن الحوار والمحادثة، وفي الحوار الفكري الذي يسمح باستخراج الحقيقة من الخطإ، وبنقض الخطإ واستبداله بقضية صحيحة... . فإنها (الروح) تميل بحسب الحقيقة التي تعرفها، وبحسب الحقيقة التي توصلت إلى معرفتها. وعندما نعرف أن الأمر كذلك [مناورة] ومعركة تدور في فكر الآخر، فإن هذه الحركة التي تقتضي نقض الحقيقة التي يؤمن بها وتحويلها نحو وجهتها الصحيحة والسليمة والخيّرة، فإن فكره أو روحه، حينئد وفي تلك اللحظة، يصبح في الحقيقة فكر وروح الفيلسوف، أي نتمكن من توجيه الآخر كما يجب. وفي المقابل، إذا لم نصل، فإنه لا يجب الإعتقاد أن الذي نوجهه هو المخطئ: إنك أنت المخطئ. لا، إن الفيلسوف هو المخطئ. على الفيلسوف أن يتهم نفسه، وليس الشخص الذي لم يصل إلى إقناعه أو لم يقدر على إقناعه(8).
تتحدد قيمة المنجز الفلسفي للرواقيين في إعادة توطين الفلسفة في كيفية وجودية، وفي نمط من السلوك، وفي مجموعة من القيم، وكذلك في مجموعة من التقنيات(9)، فهذا سنيكا يقول:"الفلسفة منهج مستقيم في الحياة، وعلم يعدّنا لأن نحيا على الفضيلة، وصناعة نسلك بها من السبل أقومها. ولم يخطئ من قال: الفلسفة ناموس حياة جميلة فاضلة"(10). كما تتجلى خصوصية تفكيرهم الفلسفي في تأكيدهم على أن الخصائص والجواهر والأنفاس والأرواح أجسام، والأفعال والإنفعالات هي ذاتها أجسام؛ فكل شيء عند الرواقيين عبارة عن خليط من الأجسام، وعالمهم "عالم أجسام"، يقول جيل دولوزGilles Deleuze .
2- دور معرفة الطبيعة والنفس والتجهيز بخطاب حقيقي
يؤكد ميشيل فوكو على أن هنالك علاقات وروابط متبادلة ما بين معرفة الطبيعة ومعرفة النفس، فإن معرفة النفس تجد منزلتها داخل موضوع "العودة إلى النفس". ولقد كانت العودة إلى النفس كذلك طريقة وكيفية معينة لمعرفة الطبيعة(11). يتعلق الأمر في هذه العلاقة بين المعرفة وفن الحياة، وإدارة وتوجيه النظر نحو النفس والعلاقة بنظام العالم، في ضرورة التسلّح بمعرفة كافية حول العالم وذلك عن طريق "عبور حلقة العالم الكبيرة mundum circuire ؛ عبور العالم واختراق أسبابه وأسراره الداخلية"(12).
تساعد معرفة الطبيعة بحسب الفيلسوف الرواقي على تحرر النفس، لكن الأمر لا يتعلق في هذا التحرير بشيء مثل الإنتزاع من هذا العالم، أو الإنتقال إلى عالم آخر، أو التخلي عن هذا العالم، يتعلق الأمر بالأحرى بالأثار الثلاثة الأساسية التالية:
-أولا: الحصول على توتر عال بين هذه النفس بما هي عقل -ووفقا لذلك، عقل كوني مثله مثل العقل الإلهي - والنفس باعتبارها عنصرا فرديا سيشكل موضوعا هنا وهنالك في هذا العالم، وفي مكان محدد ومعيّن بشكل خالص. هذا هو الأثر الأول أو هنا يظهر الأثر الأول لمعرفة الطبيعة هذه: تاويل إقامة توتر عال إلى أقصى حد بين النفس بوصفها عقلا، وبين النفس باعتبارها نقطة ارتكاز.
ثانيا: تُعتبر معرفة الطبيعة تحررا بالنظر إلى كونها تسمح لنا ليس أن نتحول عن أنفسنا، وأن نحول نظرنا وبصرنا عما نحن عليه، ولكن بالعكس أن نرتبط أكثر وأن نتحكم أكثر، وأن نأخذ دائما وباستمرار على أنفسنا نوعا من النظرة، وأن نضمن تأملا contemplatio sui يكون موضوعه : نحن في داخل العالم، نحن في ارتباط بمجموعة من الحتميات والضرورات التي نفهم معقوليتها. من هنا نفهم العبارات الآتية: "لا يضيع من نظرك/لا ينفلت من نظرك" و"اعبر العالم بنظرك"، "ليقطع بصرك مجمل العالم". إنهما نشاطان أو فعلان مرتبط الواحد منهما بالآخر بشكل كامل، ولكن بشرط أن تقيم هذه الحركة التراجعية، وهذه الحركة الروحية للذات، مسافة كافية بين النفس ونفسها، وتعمل على أن تصل النفس إلى قمة العالم، وتصبح قريبة جدا من الله consortium Dei، وتشارك في نشاط المعقولية الإلهية(13).
ثالثا: لا يتعلق الأمر باكتشاف جوهر الروح، بقدرما يتعلق بالتنقل عبر العالم، والبحث من خلال أشياء العالم وأسبابه. لا يتعلق الأمر مطلقا بانطواء الروح على نفسها، وبأن تسأل نفسها عن نفسها لكي تجد في نفسها ذكرى الأشكال الخالصة التي رأتها فيما مضى أو شاهدتها فيما سبق. يتعلق الأمر بالعكس بالنظرة والرؤية الحالية لأشياء العالم، وتعيين التفاصيل والتنظيمات. يتعلق الأمر حاليا، وعبر هذا البحث الفعلي، بفهم ما هي معقولية العالم لكي نعترف حينها أن العقل الذي يترأس نظام العالم، والذي هو عقل الله كذلك، هما من طبيعة واحدة مثل عقلنا الذي يسمح لنا بالمعرفة. هذا هو الإكتشاف المتعلق بالمشاركة في الطبيعة والمشاركة في الوظيفة بين العقل الإنساني والعقل الإلهي(14).
يسمح هذا التمفصل بين العالم والعقل والله على تعيين المكان والوسط الذي نحن فيه، فليس هنالك عبور وانتقال إلى عالم آخر (أفلاطون)، كما لا يتعلق الأمر بتحويل نظرنا عن هذا العالم بغرض أن ننظر إلى عالم آخر أو ننفصل عنه، بل بتعيين وإدراك هذا العالم في كليته وعموميته، والتموضع في نقطة مركزية وعالية ومرتفعة في الوقت نفسه، حتى نتمكن من النظر إلى النظام الشامل والعام للعالم، أي النظام الشامل للعالم الذي تشكل النفس جزءا منه(15). بهذه النظرة الكلية والعميقة للعالم، يستطيع الفيلسوف الرواقي أن يختار الحياة والعيش، ويقول "نعم" لهذا العالم بعجائبه ومعاناته.
تظهر هذه النظرة الكلية والعميقة للعالم في كتاب "التأملات"، إذ يحاول ماركوس أوريليوس أن يضم أبعاد العالم في مخيلته، وينظر إلى الأشياء من فوق، لكي يردها إلى قيمتها الحقيقية(16)، ويضعها داخل منظور الطبيعة الكونية.
إن الغاية من معرفة الطبيعة عند الرواقيين، هي تجهيز الذات بخطاب حقيقي قصد الإستعداد للأحداث القادمة؛ للشرور والمآسي والمصائب، التي يجب اعتبارها مجرد انقلاب عادي في النظام الطبيعي والضروري للأشياء. فكل شرور الدنيا قائمة، ويمكن أن تحدث. إن الشر محايث للحاضر الذي نعيش فيه(17). لهذا تحثّ الرواقية على التأمل والتفكير حتى يتم اتخاذ الإجراء المفيد في الوقت المناسب، بل ترى أن من يُفاجأ بحدث خطير، ولا يكون مستعدا له، فإنه سيكون في حالة من الضعف والإضطراب...، فلا شيء مميت أكثر من المفاجأة التي تزيد من الحزن(18) يؤكد سنيكا.
3- حكمة الفيلسوف الرواقي: "العيش وفق الطبيعة" وضرورة استعمال العقل
يقول ديوجين اللائرتي: كان زينون - في كتابه "عن طبيعة الإنسان Peri Anthrôpou Physeôs" - هو أول من نادى بأن "الغاية telos (المرجوة) هي العيش zên على وفاق مع الطبيعة"، وهو يرادف الحياة على وفاق مع الفضيلة، وذلك لأن الطبيعة توجه خُطانا وتُرشدنا إلى الفضيلة... . إن الحياة على وفاق مع الفضيلة مرادفة للحياة وفقا للخبرة المستمدة من مجريات أحداث الطبيعة ومسارها... . ذلك أن طبائعنا (كأفراد) عبارة عن أجزاء من طبيعة العالم بأسره(19).
يرتكز "العيش وفق الطبيعة" عند الفيلسوف الرواقي على قبول الصنيع الإلهي والمشاركة في هذا الصنيع بما يؤتاه الحكيم من فهم له(20)، وذلك عن طريق استعمال العقل وقانونه الذي يتغلغل في جميع الاشياء. وهذا (العقل) نفسه هو الذي يشكل فضيلة الإنسان السعيد وجوهر الحياة السلسة، حيث تحقق جميع الأفعال تناغم الروح الكامن داخل كل فرد، لتتفق مع الإرادة التي تدبر الكون(21). كما يتطلب "العيش وفق الطبيعة" أن نعيش حياة الفضيلة، طالما أن الطبيعة تقودنا إلى الحياة، وأن الإنسان لا يتلقى من الطبيعة سوى ميول سليمة تقوده إلى الفضيلة بدلا من أن تضلله(22). فطبيعتنا البشرية ليست سوى جزء من الطبيعة الكلية. ولا يعني بذلك طبيعتنا فحسب، وإنما طبيعة الكون أيضا، حياة لا نعمل فيها شيئا يحرمه الكلي الذي هو "العقل السليم..Right Reason "، المبثوث في جميع الأشياء والذي يتحد مع "زيوس" في هوية واحدة "حاكم الكون ومرشده"(23).
إن "العيش وفق الطبيعة" و"الإستعمال الجيّد للعقل" يعكسان سلوك الحكيم وخصوصية الحكمة:
- فالحكيم عندما يُميز بكل ثقة ما يجب أن يفعله وما يجب أن يتحاشاه، فإنه يُمارس الحذر؛ وعندما يتمالك ميوله في حدود معقولة دون أن يدعمها تتفاقم إلى حد الهواية، فإنه يلتزم الإعتدال؛ وعندما يتحمّل المحنة دون وهن، أو عندما يُواجه الخطر دون اضطراب، فإنه يُبدي شجاعة؛ وأخيرا إنه يُمارس العدالة في علاقته مع أترابه عندما يُخصص لكل واحد ما يستحقه والقسم الذي يرجع إليه(24). إن التزام الإعتدال وتحمّل المحنة وممارسة العدالة وإبداء الشجاعة هي أفعال الحكيم الجميلة والفاضلة التي يختارها ويحياها عن تبصّر وبملء إرادته للاشياء الموافقة للطبيعة الكلية بتعبير شيشرون Ciceron.
- أما الحكمة؛ فيربطها زينونZénon بالحصافة أو الثبات والتطابق الدائم مع العقل. وإن تكن ثمة فضائل أخرى، فما هي في نظره إلا وجوه من الفضيلة الأساسية؛ فالشجاعة هي الحكمة فيما يجب احتماله، والعفة هي الحكمة في اختيار الأشياء، والعدالة هي الحكمة في توزيع الحقوق(25).
عند هذا الحد، تكون الغاية النهائية من "العيش وفق الطبيعة" هو تحقيق السعادة؛ التي تعني عند زينون Zenon "التدفق الجيّد للحياة" أو "العيش في توافق"، وعند كريسيبوس Chrysippus "العيش وفقا لخبرتك بما يحدث بفعل الطبيعة"، وعند الرواقيين الجدد "الإختيار العقلاني للأشياء الأولية وفقا للطبيعة".
4- العناية بالنفس والإهتمام بالآخرين عند الفيلسوف/الإمبراطور: ماركوس أورليوس
نوّه ميشيل فوكو بعرض بيير هادو Pierre Hadot حول مفهوم التحوّل أو التبدّل الذي كان له نموذجين في الثقافة الغربية: نموذج العودة (الفيثاغوري-الأفلاطوني) ونموذج التوبة (المسيحي). لكنه أكد على أنه من الصعب أن نُظهر هذين النموذجين، وهذين المخططين، بوصفهما قاعدة للتفسير والتحليل التي تسمح بما جرى وحدث في الحقبة التي تبدأ، إجمالا، من أفلاطون إلى المسيحية. لهذا، سيضيف فوكو نوعا آخر من "التحوّل" يختلف عن "العودة" و"التوبة"، ويتأسس على وصية "انظر إلى نفسك" التي نادى بها كل من إبقتاتوس وسنيكا وماركوس أورليوس. إن هذه الوصية الرواقية بالأساس، تختلف عن وصية "اعرف نفسك" الأفلاطونية، وعن وصية "اختبر نفسك" الخاصة بالروحانية الرهبانية. إن الأمر يتعلق في الوصية الرواقية، بتحويل النظر عن الآخرين وعن العالم. ففي مناسبات عديدة وأماكن عديدة، نجد عند ماركوس أورليوس هذه النصيحة: "لا تهتم بالآخرين، من الأفضل جدا أن تهتم بنفسك". في هذا التحوّل، تكون النفس مطالبة بالتركيز الغائي والنظر في هدفها الخاص، وجعلها موضوعا لانتباه دائم ومستمر، وعليها استعمال الإمكانيات والقيام بجهد دائم من أجل الإستعداد والتجهيز. يجب الآن تحويل النظر إلى النفس، لا بوصفها موضوعا للمعرفة، وإنما إلى هذه المسافة ما بين النفس والهدف الذي يجب بلوغه. وهذا الهدف الذي يجب بلوغه هو النفس(26).
يمنح ماركوس أورليوس، إذن، مكانة متميّزة لنصيحة "الإهتمام بالنفس"، لكنه يعطي أهمية قصوى ل"الإهتمام بالآخرين". وهذا الإهتمام المزدوج نابع من الخصوصية الفريدة التي احتلها ماركوس أورليوس Marc Aurèle في تاريخ الفلسفة والممارسة السياسية والفلسفية، ذلك أنه جمع بين موقعين: موقع الإمبراطور؛ فهو خامس الأباطرة الأنطونيين الرومان، وموقع الفيلسوف؛ إذ أنه أبرز الفلاسفة الرواقيين.
يفتحنا هذا الموقع المزدوج لماركوس أورليوس كإمبراطور Empereur وفيلسوف Philosophe على الهدف الذي يتوجّه إليه، يقول ميشيل فوكو:"إن الهدف الأول لماركوس أورليوس، وما يشكل بالنسبة له غاية وجوده، الهدف الذي يتوجه إليه دائما، ليس أن يصبح إمبراطورا، وإنما أن يكون نفسه أو ذاته. وإنه في هذه الحالة التي يهتم بنفسه، وفي الحالة التي لا يتوقف فيها عن الإهتمام بنفسه، وفي هذا الإهتمام سيلتقي بسلسلة من الإهتمامات التي هي اهتماماته بوصفه امبراطورا. ومثله مثل الفيلسوف الذي يهتم نفسه، يجب أن يفكر في واجباته الفلسفية باعتباره فيلسوفا - للتعليم الذي عليه أن يقدمه، لتوجيه الضمير الذي عليه أن يمارسه... إلخ - أو مثل الإسكافي الذي يهتم بنفسه عليه أن يفكر في هذا الإهتمام بالنفس بما يخدم مهنته كإسكافي، كذلك الإمبراطور، فلأن عليه أن يهتم بنفسه، فإنه ينجز مهاما، مهاما لا يجب أن تُنجز بطريقة إلزامية إلا في الحالة التي تكون فيها جزءا من هذا الهدف العام الذي هو: نفسه ومن أجل نفسه(27).
يؤكد ماركوس أورليوس على ضرورة الإهتمام بالنفس وعدم إهمالها، فهي " منبع الخيرات: هي منبع لا ينضب على شرط أن تزيده كل يوم تعميقا" على حد قوله. فهذا الإهتمام بالنفس هو الذي يمنح القدرة على الإعتناء بالإمبراطورية وبالجنس البشري عموما(28). فالأمر هنا يتعلق بالإستقامة الأخلاقية التي ليست، في حالة الإمبراطور، محددة بمهمة خاصة أو بالإمتيازات التي يتمتع بها، بل يجب أن نتذكر دائما أن نكون صادقين أو مستقيمين... (29). في الإهتمام بالنفس، في علاقة هذه النفس بنفسها بوصفها جهدا وعملا تجاه النفس، يكون الإمبراطور قد قدّم ليس فقط خيره الخاص، ولكن أيضا خير الآخرين. إن الإهتمام بالنفس يكون له بالقوة اهتمام [بالآخرين](30).
وهنا، يقترح ماركوس أورليوس، كقاعدة للتصرف والسلوك تجاه الآخرين، قواعد يمكن أن تكون مشتركة بين الأمير وأي شخص آخر. المبدأ الاساسي للتصرف والسلوك، بالنسبة للذي يريد أن يكون أميرا كما يريد ذلك أن يرغب في ذلك ماركوس أورليوس هو أن يمحو من سلوكه أو يلغي من سلوكه كل ما يبدو أنه يحيل إلى مهمة خاصة بالأمير، وإلى خصوصية عدد من الوظائف والإمتيازات أو حتى الواجبات. يجب أن ننسى أننا قيصر، وأن نقوم بعملنا، وبمهمتنا، وأن نؤدي التزامات القيصرية بشرط التصرف كما لو أننا مطلق شخص، أو كما يتصرف أي شخص آخر. "احذر أن تصبح قيصرا في العمق، وأن تتبع هذا الفكر أو هذه الروح (الروح القيصرية). اترك نفسك بسيطا، مستقيما، صادقا، خالصا، رصينا، طبيعيا، محبا للعدالة، ورعا ونقيا، رفيقا وعطوفا، ودودا، صارما في إتمام واجباتك"(31).
5-العناية بالنفس وإعداد الجسم عند لوكيوس سنيكا
ماذا يعني أن نكون أحرارا؟ يتساءل سنيكا Sénèque، ويجيب: أن تكون حرا يعني أن تهرب من الإستعباد وأن تنفك من الاسر. إنه الهروب من الإستعباد والاسر، ولكن استعباد وأسر من ماذا؟ إنه الإسعباد والأسر من النفس. إن الأمر هنا يتعلّق بالنفس التي يجب تحريرها من كل ما يستعبدها، النفس التي يجب حمايتها، النفس التي يجب الدفاع عنها، النفس التي يجب احترامها، النفس التي يجب تحويلها إلى عبادة، النفس التي يجب تشريفها (وجعلها عبادة لذات النفس). هذه هي النفس التي يجب تحويلها إلى هدف(32).
يتجلى استعباد النفس في تحميلها الإلتزامات والواجبات، وعدم الإهتمام بالعادي من الأمور مثل الإهتمام بالأجر والمكافأة في العمل وتحصيل الربح..، هذا ما يجب التوقف عن فعله إذا ما أردنا أن نتحرر من أنفسنا(33)، يقول سنيكا. فنحن نعيش داخل نظام من الدّين أو المديونية -النشاط والمديوينة- المتع. فهذا النمط والنوع من العلاقة مع النفس هو ما يجب التحرر منه. ويوصي سنيكا بضرورة دراسة الطبيعة لضمان هذا التحرر، عن طريق خوض معركة داخلية ضد الأهواء والعيوب والأخطاء. هكذا ستقوم معرفة الطبيعة بضمان الإنفلات والهروب من النفس، وستقودنا هذه الحركة إلى النقطة التي منها يأتي النور، إنها تقودنا إلى نحو الله، وهي في هذه الأثناء تكون في حالة ضياع وفقدان للنفس أو في حركة استغراق في الله، ولكن في شكل يسمح لنا بأن نجد أنفسنا in consortium Dei في نوع من الطبيعة الثانية co-naturalité ومن الوظيفة الثانية co-fonctionalité مع الله. بمعنى أن العقل الإنساني هو من نفس طبيعة العقل الإلهي، وله نفس المكونات والوظائف والأدوار. فإذا كان العقل الإلهي موجودا في العالم، فإن العقل الإنساني هو في الإنسان نفسه(34). بهذه الحركة تصبح أسرار العالم مفتوحة ومكشوفة، وتظهر الأشياء في حقيقتها ومحدوديتها، وبالتالي نتمكن من قياس مقدار حقيقة ما نحن عليه فوق الأرض، ومقدار وجودنا، ونعرف النقطة التي فيها نستطيع أن ندرك بها النظام الكامل لأشياء الطبيعة، يعني أن نستطيع الخلوص إلى جملة من النتائج حول دور معرفة الطبيعة في الإهتمام بالنفس ومعرفة النفس(35).
يحثّ سنيكا على ضرورة معرفة الطبيعة عن طريق استعمال العقل، والإنصات للحكمة التالية:"لقد قدّمت الطبيعة الخشب الصلب بدرجة كافية وعلينا أن نستعملة". في الوقت ذاته، يربط بين الإهتمام بالنفس وإعداد الجسم؛ عن طريق القيام بتمارين خفيفة، وتمارين تساعد جسما سقيما أو معتلا، مثل جسمه الذي يعاني من الربو ومن السعال والتنفس بصعوبة... إلخ. الجسم السقيم هو ما يجب تحضيره وإعداده من أجل أن يكون حرا في النشاطات الفكرية وفي القراءة والكتابة... إلخ(36).
يتمثل هذا الإعداد والإستعداد في النزوع نحو التقشف والقيام باختبارت:
- بالنسبة للتقشف؛ فالأمر يهم الأكل والشرب والنوم، والقيام بتداريب وتمارين متكررة ومتسلسلة ومنتظمة تساعد على التحمّل وعلى "طاعة الجسم للروح"، وعلى النظر إلى الثروات والخيرات بلامبالاة والتحكم في الرغبات واللذات(37). يرى ميشيل فوكو في التقشف الرواقي تمرينا محليا وموضعيا بمعنى ما في الحياة، يتم القيام به بهدف تكوين أسلوب في الحياة وقاعدة في الوجود. تتطلب هذه القاعدة منك، يقول سنيكا:"أن لا تعطي جسمك إلا ما هو ضروري حتى يكون جيدا. طبّق عليه بين الحين والآخر علاجا قاسيا بعض الشيء حتى يطيع الروح"(38).
- بالنسبة للإختبارات؛ فهي تتضمن مجموعة من أسئلة النفس حول نفسها، ومعرفة ما نقدر على فعله، وما إذا كنا قادرين على القيام بشيء، وإلى أي مدى نحن نقدر على فعله. ففي الإختبار نعاين أنفسنا، ونقيس درجة تقدمنا، ونعرف المستوى العميق لأنفسنا، كما تقف الذات تجاه ما تفعل وتقوم به وتجاه نفسها، موقفا معينا واضحا وواعيا. يؤكد فوكو على أن الإختبار، يجب أن يصبح موقفا عاما في الحياة، بل تصبح الحياة نفسها اختبارا، بحيث يجب أن يُعترف بها، ويُفكّر فيها، وتمارس بوصفها اختبارا دائما.
يُقرن سنيكا الفلسفة بالمعرفة الحلوة بالحياة وب"فن تنظيم الحياة الطبيعية"، حيث تصير الغاية من التفلسف هي العيش وفقا للطبيعة؛ أي اتفاق السلوك الإنسان مع قانون الطبيعة، أو اتفاق الإرادة البشرية مع الإرادة الإلهية. ومن هنا جاءت القاعدة الرواقية الشهيرة "عش على وفاق مع الطبيعة"(39).
6- الصداقة الرواقية أساس الحياة الإجتماعية
يميز ميشيل فوكو بين الصداقة الرواقية والصداقة الأبيقورية؛ فالصداقة ليست بالضبط علاقة واحد بواحد، ليس التواصل المباشر بين فردين، وهو ما كانت عليه الأبيقورية. لدينا هنا بنية اجتماعية للصداقة متمحورة حول فرد، حيث يوجد [آخرون] كثيرون، يحيطون بمن له مكانة، هذه المكانة تتغير بحسب العمل والجهد المقدم من قبل هذا أو ذاك من الأفراد... . فلا علاقة هنا [في الرواقية] على الإطلاق -إنه شيء مختلف على كل حال- بما يمكن أن يكون حبا، كالحب بين سقراط وتلاميذه، أو ما يمكن أن تكون عليه المحبة الأبيقورية(40).
تستهدف الصداقة الرواقية إقامة علاقة استثنائية مع الجميع مبنية على علاقات عاطفية شديدة وقوية؛ أكان مع الناس العاديين أو الأعيان أو أصحاب السلطة، وهذا يعني بالنسبة للرواقيين القيام بعمل فلسفي(41). لكنه عمل يمارس خارج المدارس والحدائق والأروقة، وخارج المؤسسات الفلسفية، وحتى خارج المهنة الفلسفية أيضا. لقد امتزجت الحكمة الفلسفية بالعلاقات العادية (علاقة عائلية، علاقة تعليمية، علاقة صداقة مثلا) وأخرى معقدة (علاقة قانونية نظامية، علاقة سياسية مثلا). هكذا أصبح الفيلسوف يقوم بتوجيه الآخرين، ليس باعتباره فيلسوفا محترفا، وإنما في إطار العلاقات الإجتماعية التي كانت تربطه بهم (صداقة، زبائنية، حماية... إلخ)، وكذلك وفي الوقت نفسه على سبيل الواجب، والإلتزام وضرورة خدمة الروح، وإمكانية تأسيس سلسلة من التدخلات، والنصائح التي تسمح للآخر أن يتوجّه كما يجب أو أن يتصرف كما يجب(42).
يؤسس امتزاج الحكمة العملية بالعلاقات العادية عند الفيلسوف الرواقي ما يسمى ب "الحياة الإجتماعية" أو "المدينة"، فهي التي تجعل ممارسة العدالة وتنمية الصداقة ممكنة... . فالمدينة لم تعد تستجيب لهدفها الأساسي إن لم تكن مكونة بحيث تعمل على تأمين انتصار العدالة وتنمية الصداقة؛ إنها لا تستحق حتى ولا إسم المدينة. يقول إقليانت Cléanthe:"المدينة هي في الاساس فاضلة، إذ أنها الملجأ الذي نهرب نحوه لكي نجد العدالة"(43)، وما دامت المدينة عائلة مُوسّعة، فإن جميع البشر، ولو كانوا عبيدا لنا، يجب أن نعتبرهم كإخوة، لأن مساهمتهم في العقل تجعلهم مثلنا، أولاد الله(44).
7-شجاعة الفيلسوف الرواقي: الإهتمام بالذات وتربيتها والإستعداد للحياة
يدرك الفيلسوف الرواقي الفلسفة كطريقة حياة وكيفية وجود، مُؤسسة على الممارسة والتدريب، وعلى التجهيز وإعداد الجسد(الفكر والجسم) من أجل امتلاك فضائل أخلاقية تقود إلى السعادة والرفاهية. لكن اكتساب هذه الفضائل يتطلب الخضوع لتربية صارمة تقوم على التمييز الرواقي بين العلاقة بالام والعلاقة بالأب؛ يقول سنيكا: الله هو الأب، بمعنى أنه ليس هو الأم. إن ما يُميّز الأم هو تساهلها وتسامحها مع أطفالها، إنها موجودة من أجل المواساة، يقول سنيكا. في حين أن الأب هو المعني بالتربية...، الأب هو بالنتيجة الله باعتباره الأب المحب بشجاعة وبقوة Amat fortiter. الحب بقوة أو شجاعة، والحب بطاقة لا تعرف التعب، وبعزم لا يعرف التراجع والتردد، هو بالطبع حب صارم، هدفه إعداد الأبناء للمشاق والصعوبات الحقيقية والواقعية، والآلام الفعلية، والنكبات والمصائب والمآسي التي يمكن أن تحدث لهم. وأن نحب بقوة وشجاعة وطاقة، فهذا يعني أن تضمن تربية قوية للرجال الذين سيصبحون بدورهم أقوياء وأشداء(45) وأخيارا. يتعلق الأمر عند الفيلسوف الرواقي بالإعتناء بالذات طوال مدة الحياة بخلاف الموقف الأفلاطوني (الإهتمام بالنفس كالتزام وواجب بالنسبة للشباب)؛ فالحياة كلها يجب أن تكون تربية للفرد. هنالك نوع من اللولب بين شكل الحياة والتربية. علينا أن نربي أنفسنا دائما من خلال الإختبارات والمحن والمصائب، وبفضل الإهتمام بالنفس الذي يأخذ بجدية هذه الإختبارات. علينا أن نربي أنفسنا طوال حياتنا، وأن نحيا من أجل أن نقدر ونستطيع أن نتربى. إن التعايش ما بين الحياة والتكوين هو الميزة الأولى للحياة - الإختبار(46).
تجد أفكار سنيكا هذه أصداء في نصوص إبقتاتوس، يقول ميشيل فوكو؛ فهو لا يقارن الله بالأب الصارم في العائلة في مقابل الأم المتسامحة، ولكن تتم مقارنته بمعلم الرياضة الذي يختبر تلامذته مع منافسين أشداء للغاية أو أشداء قدر الإمكان، وذلك من أجل أن يكوّنهم تكوينا جيّدا، ومن أجل أن يعلّمهم الجلد والصبر والقوة(47). ويتطلب هذا التكوين الجيّد القيام بتمرينات واختبارات من أجل الإعداد والتحضير للحياة، وبناء ذات عاقلة عارفة بنظام العالم، ممتلكة لخطابات حقيقية وقواعد للسلوك ومبادئ للتصرف، وهو ما يسمح لها بأن تعيد ترتيب أحداثه في شكل منظم تنظيما جيدا من الناحية الأنطولوجية أو الوجودية(48). أما الزمن الملائم والمناسب لهذه الإختبارات عند الفيلسوف الرواقي، فهو الحاضر باعتباره الشيء الوحيد الذي هو فعلا حقيقي وواقعي(49)، وهو وحده "فرحنا" و"سعادتنا" حسب الشاعر والأديب الألماني يوهان غوتهJohann Goethe ؛ إنه اللحظة المناسبة لاستعمال العقل وتجريب ما يستطيعه الجسد، وتطبيق فنون العيش وتقنيات الحياة والإستمتاع ب"جمالية الوجود"(50).
خاتمة
تطورت الفلسفة الرواقية في ظل ظروف سياسية متقلّبة، جعلت الإنسان ينكفئ على ذاته منكرا الثقافة، وطالبا مرتكزا له في داخل ذاته، في إرادته المتوترة بالجهد أو في استمتاعه المباشر بأحاسيسه وانطباعاته(50)، بحيث تحوّلت الفلسفة الرواقية إلى نوع من الحكمة العملية المحايثة للعلاقات الإجتماعية. فهنالك توجّه كامل نحو ممارسة وتطوير ونشر لممارسة الإهتمام بالنفس وبالآخر خارج المؤسسات الفلسفية وحتى خارج المهنة الفلسفية أيضا. يهمّ هذا الإهتمام بالنفس وبالآخر تفاصيل الحياة وعلاقة الذات بذاتها وبالآخرين وبالعالم؛ سواء تعلق الأمر بالنظام الغذائي وبالصحة والعلاقة بالجسد(الحمية، الطب، الحب)، وبالواجبات العائلية(الزواج)، والتدبير المنزلي(الإقتصاد)، وبالواجبات الدينية (المعتقد والدين). وفي هذه العلاقة، يبرز دور الفيلسوف الرواقي كصديق ومدير وموجّه للضمير -من غير صفة وميزة الفيلسوف- اعتمادا على العقل الصريح المستقيم؛ أي على ذلك المعيار الوحيد للخير والشر(51).
يدرك الفيلسوف الرواقي النظام الكوني بشكل عقلاني بالإرتكاز على "الإنطباع الإدراكي" والمعرفة الحقيقية، الشيء الذي يؤهله إلى التصرّف في الحياة بشكل ملائم، أي بما يتوافق مع طبيعته. هكذا يصير دور الفيلسوف هو ترجمة مبادئ الحقيقة إلى أفعال، وإبداع ذات أخلاقية للحقيقة قادرة على الفعل والإنفعال وعلى الحياة وفق الطبيعة والإستمتاع ب"جمالية الوجود"(52).
تلك هي الأخلاق الرواقية:
"ألا نكون دون مستوى الحدث وأن يصير المرء ابن أحداثة الخاصة"(53).
الهوامش:
1- إميل برهييه: تاريخ الفلسفة، الفلسفة الهلنستية والرومانية، الجزء الثاني، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، لبنان بيروت، الطبعة الأولى، 1982، ص57.
2- الدكتور عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، سلسلة أعلام الفلسفة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة-مصر، 1945، ص61.
- يشير مصطفى لبيب عبد الغني إلى "أن الأخلاق هي الغاية التي يتهيّأ الوصول إليها على أساس من أحكام المعرفة الطبيعية. على أن هذه الأقسام الثلاثة [المنطق، الفيزياء، الأخلاق] للموضوع الفلسفي متشابكة أو بالأحرى متضايفة. ولئن غلب عليهم [الفلاسفة الرواقيين] عناية بالأخلاق جعلتهم يعتبرون الفضيلة علما، شأنهم في ذلك شأن سقراط، فإن الخير الحقيقي كان يتلخص في أن يعيش المرء وفقا للعقل أو الطبيعة"، مصطفى لبيب عبد الغني: في فلسفة الطبيعة عند الرواقيين، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة-مصر، ص12.
- يقول محمد حسن مهدي بخيث:"قسّم الرواقيون الفلسفة أقساما ثلاثة كبرى: أولها المنطق الذي يدرس السبيل لمعرفة الأشياء، والثاني علم الطبيعة الذي يبحث فيه عن الإله والكائنات، والثالث علم الأخلاق، وموضوعه دراسة السلوك الإنساني. وأهمها من غير شك هو علم الأخلاق في نظر الرواقيين، لكنهم مع ذلك يرون لا غنى عن الجزأين الأخيرين من أجزاء الفلسفة"، محمد حسن مهدي بخيث: الفلسفة الإغريقية ومدارسها من طاليس إلى أبروقلوس، عالم الكتب الحديث للنشر والتزيع، الطبعة الأولى، 2015، ص321.
3- الدكتور عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، ص59.
4- يقول ديوجين اللائرتي:" يذهبون (الرواقيين) أيضا إلى أن الحكيم هو وحده الحر، وأن الأراذل من الناس هم العبيد. وذلك لأن الحرية eleutheria عبارة عن (امتلاك) سلطة التصرّف المستقل، في حين أن العبودية douleia هي الحرمان من (القدرة على)التصرف المستقل"، ديوجينيس اللائرتي: حياة مشاهير لفلاسفة، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ومراجعة محمد حمدي إبراهيم، المركز القومي للترجمة، الجزء الثاني، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى، 2007، ص199 و100.
5- ف أجرو: رسالة في النظام الفلسفي للرواقيين، ترجمة المهندس الدكتور يوسف هواويني، الفرات للنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، الترجمة العربية-الطبعة الأولى، 2009، ص261 و262.
6- ديوجين اللائرتي: حياة مشاهير لفلاسفة، الجزء الثاني، ص132
7- ميشيل فوكو: تأويل الذات، دروس ألقيت في "الكوليج دوفرانس" لسنة 1981-1986، ترجمة وتقديم وتعليق د. الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2011، ص251 و252.
8- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص138 و139.
9- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص151.
10- الدكتور عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، ص158.
11- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص145.
12- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص248.
13- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص263 و264.
14- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص266.
15- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص266 و267.
16- بيير هادو: الفلسفة طريقة حياة، التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو، نقله إلى العربية وزوده بالتعليقات والشروح: عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى، 2019، ص240.
17- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص439.
18- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص438.
19- ديوجين اللائرتي: حياة مشاهير الفلاسفة، الجزء الثاني، ص178.
20- إميل برهييه: تاريخ الفلسفة، الفلسفة الهلنستية والرومانية، الجزء الثاني، ص51.
21- ديوجين اللائرتي: حياة مشاهير لفلاسفة، الجزء الثاني، ص178.
22- ف أجرو: رسالة في النظام الفلسفي للرواقيين، ص263.
23- فريديريك كوبلستون: تاريخ الفلسفة (اليونان والرومان)، الجزء الأول، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة-مصر، الجزء الأول، ص529.
24- ف أجرو: رسالة في النظام الفلسفي للرواقيين، ص275.
25- تاريخ الفلسفة، الفلسفة الهلنستية والرومانية، الجزء الثاني، ص79.
26- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص215.
27- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص194 و195.
28- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص199.
29- ميشبل فوكو: تأويل الذت، ص195.
30- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص196.
31- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص193.
يقول مارك أوريل:"حتى لو كانت الآلهة لا تبالي بي ولا تحفل بي، فأنا أعلم أنني كائن عاقل، وأن لي وطنين: روما ما دمت أنا مرقوس- أوراليوس ، والعالم بأسره ما دمت إنسانا، وأن الخير الأوحد هو ما كان فيه نفع لهذين الوطنين". إميل برهييه: تاريخ الفلسفة، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ص216.
32- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص256.
33- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص257.
34- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص259.
35- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص262.
36- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص400.
يقول إبقتاتوس: عندما نكون في وضعية نواجه فيها خطر الخضوع لرغبتنا، علينا أن نواجه هذه الوضعية، وعلينا بالطبع أن نمتنع عن كل ما يمكن أن يؤدي بنا إلى تلبية هذه الرغبة وذلك بواسطة العمل الفكري، والإنتظام الذاتي، وأن نوقف أنفسنا بأنفسنا، ميشيل فوكو: تاويل الذات، ص 405.
38- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص401.
39- فريديريك كوبلستون: تاريخ الفلسفة (اليونان والرومان)، الجزء الأول، ص528.
40- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص149.
41- يقول فوكو:"إنه لا يقوم بذاك الدور العنيف، الذي كان يقوم به إبقتاتوس، والذي كان في الأصل موقف الكلبيين، حيث كانت وظيفتهم ومهمتهم زعزعة وإدخال عدم التوازن بشكل ما لدى الفرد، وجعل الفرد مضطربا نوعا ما في وجوده، ومن ثم إجباره ودفعه ليتبنى نمطا وجوديا آخر"، ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص151.
42- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص153.
43- ف أجرو: رسالة في النظام الفلسفي للرواقيين، ص286.
44- ف أجرو: رسالة في النظام الفلسفي للرواقيين، ص287 و288.
يميز إميل برهييه إله الرواقيين عن باقي الآلهة اليونانية والرومانية، يقول:"فالمكانة التي يفردها الرواقيون لله في الكيفية التي يتصورون بها صلة الله بالإنسان وبالكون تتسم بسمات جديدة لم يسبق لنا قط أن التقيناها لدى الإغريق. فالإله الهليني، إله الأسطورة الشعبية، مثله مثل الخير المطلق الذي قال به أفلاطون أو العقل المطلق الذي قال به أرسطو، كائن له، إن جاز القول، حياة على حدة، كائن يجهل في وجوده الأمثل جيشان البشرية وأدواءها وصروف الكون وتقلباته؛ كائن هو مثال الإنسان والكون، فلا يؤثر عليهما إلا بسحر جماله؛ وإرادته لا دور لها على الإطلاق، وأفلاطون ينحي باللائمة على من يعتقد بإمكان استمالته بالصلوات؛ صحيح أن افلاطون كان قد أدان أيضا المعتقدات القديمة القائلة بإله غيور على امتيازاته؛ غير أن الطيبة التي وضعها في مقابل هذه الغيرة هي كمال عقلي، ما نظام الكون إلا من إشعاعه، ولا تمت بصلة إلى الطيبة الاخلاقية. ولا ريب أيضا أن الإغريق كانوا إلى جانب تلك الآلهة الأولمبية، يتعرفون في ديونيسوس إلها يتحدد بموته وانبعاثه الدوريين إيقاع حياة المؤمنين به، فالمؤمن يشارك في القصة الإلهية؛ فيعيش ويمثل بنوع من انفصال الإله، ويتحد به من خلال طقوس التهتك التصوفي حتى لا يعود يؤلف وإياه إلا كائنا واحدا؛ وهكذا فإن الإله، في العبادة الباخوسية أيضا، لا ينزل إلى حيث الإنسان، بل يدع للإنسان أن يرقى إليه. بيد أنه إله الرواقيين ما هو بإله أولمبي ولا بإله ديونيسي، إنما إله يحيا مع معشر البشر والكائنات العاقلة وينظم كل ما في الكون لصالحهم؛ وقوته تتغلغل في الأشياء طرا، وما من تفضيل مهما استدق يفلت من عنايته الإلهية. ويفهم الرواقيون هذا الإله بالإنسان وصلته بالكون فهما جديدا كل الجدة؛ فهو لا يعود ذلك المتوحد الغريب عن العالم، الذي يجذبه إليه بسحر جماله؛ بل هو صانع العالم بالذات، في عقله صمم خطته؛ وما فضيلة الحكيم لا بذلك التماثل مع الله الذي كان يحلم به أفلاطون، ولا بتلك الفضيلة المدنية والسياسية الخالصة كما رسم أرسطو معالمها؛ وإنما هي قبول الصنيع الإلهي والمشاركة في هذا الصنيع بما يؤتاه الحكيم من فهم له". إميل برهييه: تاريخ الفلسفة، الفلسفة الهلنستية والرومانية، الجزء الثاني، ص50 و51.
45- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص409.
46- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص411.
47- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص411.
48- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص413.
49- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص435.
50- إميل برهييه: إميل برهييه: تاريخ الفلسفة، الفلسفة الهلنستية، والرومانية، الجزء الثاني، ص35.
51- الدكتور عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، ص168.
52- يقول بيير هادو:"..عند ماركوس أوريليوس بصفة خاصة، بوسعنا أن نرى ثورة تحدث. فبدلا من الإستيطيقا المثالية التي تقصر الجميل على العقلي والوظيفي الذي يُبدي نسبا جميلة وشكلا مثاليا، ها نحن بإزاء استطيقا واقعية تجد الجمال في الأشياء كما هي، في كل شيء يعيش أو يوجد"، بيير هادو: الفلسفة طريقة حياة، التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو، ص255 و256.
53- جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان-أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، 1999، ص84.
- ما الشيء المهم والمثير الذي التقى به جيل دولوز وهو يكتب عن الرواقيين؟ وما سر تميّز فلسفتهم وقوتها؟
يجيب دولوز:"تلك هي قوة الرواقيين الكامنة في تمريرهم لخط الفصل في المكان الذي لم يدركه أي أحد، أي بين العمق الفيزيقي والسطح الميافيزيقي، وليس بين المحسوس والمعقول، أو بين الروح والجسد. تمرير خط الفصل بين الأشياء والأحداث. تمريره بين حالات الأشياء أو الأخلاط والعلل والأرواح والأجساد والأفعال والإنفعالات والخصائص والجواهر من جهة، وبين الأحداث أوالنتائج اللاجسمية غير القابلة للتأثر وغير القابلة للوصف، أي المصدريات التي تترتب عن هذه الأخلاط وتسند إلى حالات الأشياء هاته، وتعبر عن ذاتها من خلال القضايا، من جهة أخرى. إنها طريقة جديدة للإطاحة بفعل الوجود: لم تعد الصفة خاصية تسند إلى ذات بواسطة الصيغة الدلالية ’’الوجود’’، وإنما هي فعل غير محدد في صيغة مصدرية يخرج من حالة الأشياء، ويحلق فوقها. إن الأفعال المصدرية صيرورات غير محدودة"، جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص82 و83.