في الفصل الأول، قام بيليدور بتعريف الحرية باختصار شديد، ولكنه ترك توضيح المفهوم لفصل منفصل. أما الآن فالوقت مناسب، ونحن دائمًا في صحبة هايدجر، لنقدم وفقا لفكره تطور الحرية في خطاب أكثر تفصيلا. وسوف نعرض المنهج الهايدجري في ثلاثة أبعاد، ولكن هذه المرة مع اختلاف بسيط عن الفصل السابق. عند تناول الحقيقة، انطلقنا من الحقيقة الإسنادية (الحملية) نحو الحقيقة الأنطيقية، ثم من الحقيقة الأنطيقية، نحو ماهية الحقيقة. وهنا سننطلق من ماهية الحرية نحو الحرية السلبية ومن الحرية السلبية نحو الحرية الإيجابية لنتوجه بمزيد من الأمان نحو موضوعنا الأساسي: ماهية الحرية الإنسانية. وهكذا يتمثل البعد الأول في ماهية الحرية. لقد تم كشف الحجاب عن الحقيقة بلعتبارها حرية. إن الأطروحة التي وفقها ينبغي أن تكون ماهية الحقيقة (يُنظر إليها بشكل عام على أنها مطابقة للعبارة) حرية أطروحة مفاجأة. وبالتالي ألا يعني وضع ماهية الحقيقة في الحرية، أننا نعهد بالحقيقة إلى الاعتباطية البشرية؟هذا سؤال ساخن، بدون شك. أو هل يمكننا في الأساس تقويض الحقيقة بالتخلي عنها لأهواء هذه "القصبة الضعيفة". هذا سؤال آخر ساخن هو الٱخر بالنسبة إلى الحس المشترك. ما فرص نفسه باستمرار خلال هذه المناقشة يخرج الآن إلى النور بمزيد من الوضوح: تجد الحقيقة نفسها عائدة إلى ذاتية الذات الإنسانية. حتى لو كانت الموضوعية متاحة للذات، فهي ليست أقل إنسانية من هذه الذاتية وقد وضعت رهن إشارة الإنسان.
مما لا شك فيه أننا نحمل الإنسان مسؤولية كل أشكال اللاحقيقة التي هي ضد الحقيقة. وفي نفس الوقت نطرح هذا السؤال: بما أن اللاحقيقة هي عكس الحقيقة، أليس من حقنا أن نبعدها عن البحث في الماهية الخالصة للحقيقة التي هي غير ضرورية لها؟ هذا الأصل الإنساني للاحقيقة يؤكد، على النقيض من ذلك، أن جوهر الحقيقة "في ذاتها" يسود "على" الإنسان. هذه الأخيرة تعد بالنسبة إلى الميتافيزيقا خالدة وغير قابلة للفناء، فلا يمكن بالتالي أن تبنى على تلاشي وهشاشة الإنسان. كيف إذن، يتساءل هايدجر، تجد ماهية الحقيقة إقامتها وأساسها في حرية الإنسان؟ تبعا لذلك، تنص الرسالة الهايدجرية على أن العداء للأطروحة القائلة بأن الحرية هي جوهر الحقيقة قائم على بعض الأحكام المسبقة: إن جوهر الحرية لا يحتاج إلى فحص اكثر تقدما بل لا يتقبله. الحمبع يعرفون ما هو الإنسان، لكن لنستمع إلى ما يقوله هايدجر حول جوهر الحرية. إن الإشارة إلى وجود علاقة جوهرية بين الحقيقة كمطابقة والحرية تهز تلك الاحكام المسبقة، بشرط أن نكون على استعداد للقيام بالتفاتة إلى لفكر. إن التفكير في هذا الرابط الأساسي بين الحقيقة والحرية (والذي سيتم عرضه بالتفصيل في الفصل الثالث) يقودنا إلى متابعة مشكلة جوهر الإنسان من منظور يضمن لنا تجربة الأساس الخفي لهذا الأخير (الدازاين)، وذلك وفق طريقة يجعلنا بها هذا التفكير ننتقل على الفور من مجال جوهر الحقيقة، إلى مجال جوهر الحرية. إن النهج الهايدجري، كما يقول برتراند ريو، يعلن عن نفسه دائمًا على أنه تحول، بمعنى عودة، تراجع نحو الأصل والأساس: ميتافيزيقا بعد عكسي أو نوع من التعالي. إنما بالنظر إلى كينونة الموحود نفسه، أي ليس فقط بما يجعله ممكنا في تحديداته الخاصة، ولكن في مبادئه نفسها الخاصة بالماهية والوجود (essentia et existentia) يجب التفكير في مشكلة الأساس.
إن فهم الكينونة هو الحاجة الأساسية للدازاين. يجب على التراجع يجب أن يغلف الإنسان نفسه، هناك حيث يؤدي التقاء الدازاين والعالم إلى تأسيس حقيقة الوجود. والتعالي المذكور أعلاه مرتبط بالتناهي لأنه يتمثل في جعل ممكنا لقاء موجود لم يخلقه ويجب أن يكشف عنه كما هو بالفعل معطى في أفق الوجود. يجب أن يكشف عن الوجود من حيث أنه موجه على ذاته نحو السابق، ويقاس عليه. إن مشكلة إمكان الانطولوجيا هي المسألة المتعلقة بجوهر وأساس التعالي الخاص بالفهم المسبق للوجود. يشير مصطلح التعالي هنا إلى البنية الأساسية للدازاين؛ وإذا أردنا أن نتحدث بلغة الميتافيزيقا، فإن التعالي يعني جوهر الذات والبنية الأساسية للذاتية.لقد تم تحديد الحرية في البداية على أنها حرية بالنظر إلى ما هو ظاهر في قلب المنفتح. كيف يجب أن التفكير في جوهر الحرية هذا؟ إن المنكشف (ما هو ظاهر) الذي يصبح الحكم الاستحضاري متناسبا معه باعتباره متوافقا، هو الموجود كما يظهر لأجل ومن خلال السلوك المنفتح. الحرية المعنية بالنسبة إلينا ليست سلوك الدازاين كما هو الحال مع أفعال حرة وتمثلات وأحكام. هذا الأخيرة متجذرة في التعالي، وهي بالفعل بعيدة كل البعد عن كونها أساسه. الحرية كفعل من تلقاء الذات ويميز الذات لا تأخذ في الاعتبار واقعة أنه يجب تأويل الهوية الذاتية باعتبارها تزمينا للدازاين.
إنها ليست أساسية، بل التعالي هو الذي يفسرها. الحرية يجب أن تكون
أصل أي أساس كما هو، ما دامت تحرر الأفق لظهور كينونة الكائن. إنها ما يعكس إمكان الوجود ذاته، إمكان يحدد بدوره العلاقات المرجعية التي تشكل العالم. ستكون لها الخاصية الأساسية لترك الكائن يكون (das Seinlassen von Seiendem). تجاه ما ينكشف ضمن المنفتح، تترك الحرية الكائن يكون الكائن الذي يكون. وهكذا تنكشف الآن كما يترك الموجود يكون. ولأنها حرية محدودة، فلابد أن تترك الأشياء تقدم نفسها كما هي. ماذا نعني بالترك؟ نتحدث عادة عن
"الترك" عندما نتخلى، مثلا، عن مشروع خططنا له. "نترك هذا الشيء" يعني أننا لا نلمسه بعد الآن ونتوقف عن القلق بشأنه.
"الترك" هنا يحمل المعنى السلبي المتمثل في "الابتعاد عن..."، و"التخلي عن..."، ويعبر عنه بأن هناك لامبالاة أو حتى تغاضيا. الكلمة التي هي هنا أساسية بالنسبة إلى هايدجر، من أجل التعبير عن ترك الموجود بكون، لا تعني مع ذلك التغاصي أو اللامبالاة، بل تعني ضدهما. دعه أو اتركه يكون يعني بالنسبة إلينا "الاستسلام للوجود". لا ينبغي أن يفهم هذا كطريقة بسيطة لاستعمال، صيانة، حماية، وتنظيم الموجود الملتقى به أو المبحوث عنه. إن ترك اللكائن يكون - أي، كما الكائن يكون - يعني التعاطي مع المنفتح ومع انفتاحه، الذي يدخل فيه كل كائن ويبقى، والذي يأتي به الأخير معه، إذا جاز التعبير. لقد تصور الفكر الغربي هذا الانفتاح في بدايته على أنه لا-متحجب (ta alèthèia).
بالنسبة إلى هيدجر، عندما نترجم alèthèia ب"اللاتحجب"، بدلاً من
ترجمتها ب"حقيقة"، لا تكون الترجمة أكثر "حرفية" فحسب، بل تشمل أيضا الإشارة إلى إعادة التفكير بشكل أكثر أصالة في الأفهوم الرائج للحقيقة باعتبارها مطابقة العبارة لمعنى خاصية الانكشاف (Entbergenheit) وكشف الحجاب عن الموجود في ذاته (Entbergu,ng). يتوقف "نشاط" رفع الحجاب كليا على استسلام للموجود. إن التعاطي للأولى (أي خاصية الوجود اللامتحجب) لا يعني الضياع فيها، بل القيام بتراجع أمام الوجود، بحيث أن المطابقة الاستحضارية تستطيع أن تتخذ إجراء عليه. مثل هذا الأمر: "دعه يكون" يعني أننا نعرض أنفسنا للموجود كما هو وأننا ننقل كل سلوكنا إلى المنفتح. هذه هي الصيغة الهايدجرية للازمة الفينومينولوجيا: "للأشياء نفسها" والتي تشير في نفس الوقت إلى الابتعاد عن المعلم هوسرل. "أتركه-يكون"، أي الحرية، هو عرض أمام لوجود، هو انفتاح. إن ماهية الحرية، منظورا إليها على ضوء ماهية الحقيقة، تظهر كعرض أمام الموجود باعتباره يتمتع بخاصية الوجود اللامتحجب. وهكذا، كما يشير برتراند ريو، في كتابه "الوجود والحقيقة"، إنما في إطار الوحدة الأصلية للمعاني الثلاثة التالية لفعل "أسس" مثل أقام و"انشأ" (stiften)، تأسس (Bodennehmen وبرر (begrü,nden)، يجب فهم الحرية كأساس. يجب أن يرتفع الأساس إلى ما هو أبعد من أي حقيقة أنطيقية للوصول إلى الحقيقة الأنطولوجية لكل موجود.
لكن إذا كانت واقعة أن على الحرية أن تترك الموجود يكون كما هو تعني التعاطي للمنفتح ولانفتاحه الذي فيه يدخل كل موجود ويقبع، والذي يأتي به الموجود، إذا جاز التعبير، فإن التأسيس يعني تبرير لماذا لا يكون فهم الكينونة ممكنا إلا إذا كانت الحرية متوافقة مع الوجود ذاته حتى تكون مكانه الوضاء. إن سؤال الموجود يقتضي بجلاء أننا نلامس أيضا وسويا سؤال الإنسان باعتباره كائنا، مع التساؤل عما إذا الكائن كذلك. إن فهم الكينونة، منظورا إليها بصفة عامة ومؤقتة، سلوك بشري. إذا استفسرنا إذن عن الوجود، فإننا لا نستفسر بالصدفة عن خصائص الإنسان، بقدر ما نستفسر عن شيء محدد في الإنسان؛ ألا وهو فهم الكينونة.
الحرية في جوهرها ليست ما يود الحس المشترك أن يمرره تحت هذا الاسم: النزوة التي تستبد بنا أحيانا وتدفع اختيارنا نحو هذا الطرف أو ذاك. الحرية ليست مجرد غياب للإكراه المتعلق بإمكاناتنا تجاه حاجة أو ضرورة، كما أراد كانط (موجود ما، إذن). قبل هذا كله، قبل الحرية "السلبية" أو "الإيجابية" التي سنتطرق إليها لاحقا، تكون الحرية هجرانا للاتحجب موجود كما هو. إن خاصية الوجود اللامتحجب للموجود توجد محفوظة بالهجران المنفتح؛ وبفضل هذا الهجران، يكون انفتاح المنفتح؛ أي "الحضور" (Da)، ما يكون.
في الدازاين يتم الاحتفاظ للإنسان بالأساس الجوهري، غير المؤسس لمدة طويلة، الذي يسمح له بأن ينفتح. "الوجود" لا يعني هنا existentia كظهور لموجود معطى ببساطة. لكن "الوجود" لا ينبغي أن يعني بتاتا الجهد الوجودي، الأخلاقي مثلا، للإنسان المهووس بهوية ذاتية، مؤسسة على تشكيلته النفسية-الجسدية. الانفتاح المتجذر في الحقيقة كحرية هو انكشاف أمام الخاصية اللامتحجبة للموجود كما هو. وهكذا تُنجز وتردي الحرية، المفهومة على أنها ترك الموجود يوجد، ماهية الحقيقة على شكل لاتحجب الموجود. الدازاين المتفتح، كبنية للوجود وترك الموجود يوجد، يحرر الإنسان من أجل "حريته"، سواء أمنحت لاختياره إمكانا ما (موجود)، أم فرضت عليه شيئا ضروريا (موجودا)، فليست الاعتباطية هي التي توفر الحرية. في الحقيقة، لا يتصور الدازاين عالما من خلال اتخاذ الموجود كاساس، إلا بتحقيق هذه الإحالة الأصلية التي يكون بموجبها في جوهره ذاته علاقة بالكينونة كما سوف نوضح ذلك لاحقا.
الحرية، لكونها أساس الأساس بشكل متعالٍ، هي المحدودية جوهرية. إنها هاوية الدازاين المستجيبة لهاوية الوجود التي تأخذ منها مكان الانفتاح. ما يتبغي إذن أن يُعطى مسبقا للدازاين ليس هو الموجود فحسب، بل الوجود كأفق لانعكاس العالم. لهذا نواصل دراستنا من خلال النظر في البعدين الآخرين للنهج الهايدجري عبر توضيح الحرية السلبية.
في بداية هذا المطلب أشار روبنس بيليدور إلى أن الثيمة التي سيتناولها موضحة في عنوان الأطروحة: ماهية الحقيقة والحرية الإنسانية. لذلك سوف يتخدث عن الإنسان وحريته، وليس عن النبات، أو الأجسام المادية، أوالله. ما ذكرناه للتو خارح الإنسان وبجانبه (ما عدا الله) معروف لنا جيدا كما الإنسان. كل ما تم ذكره يكمن، إذا جاز التعبير، ممتدا أمامنا (مثلا: النبات والأجسام المادية). هذه الأشياء معروفة لنا جيدا، ويمكننا أيضا تمييزها - الواحد عن الٱخر. لكن، رغم كل الاختلافات وكل التنوعات، ما نزال نعرف هذا المعروف من وجهة نظر أخرى: نعرفه على أساس أن هذه الأشياء جميعا، دون المساس بالاختلافات، تتفق وتتقارب مع بعضها البعض.
كل الأشياء المذكورة، أي شيء مذكور، نعرفه كشيء كائن؛ نسميه موجودا. كينونة موجود، هذه هي النقطة الأولى والأخيرة للاتفاق بين كل هذه الأشياء، بما فيها الله. بيد أن الإنسان، الذي نحن بصدد دراسة حريته، هو كائن ضمن بقية الموجود. نخص في أغلب الأحيان كلية الموجود بكلمة "العالم" ونطلق على أساس العالم اسم "الله". ؟عندما نتمثل - ولو بطريقة غير محددة - كلية الكائنات المعروف منها والمجهول، وعندما نفكر حصريا في الإنسان، يظهر لنا هذا: الإنسان، في كلية الموجود، لا يمثل إلا زاوية صغيرة. هذا الكائن الضئيل والظاهر، امام القوى الطبيعية، وأمام التاريخ ومصائره وغاياته عجز لا يمكن التغلب عليه، وأمام المدة اللانهائية للسيرورات الكونية وحتى أمام التاريخ فناء غير قابلة للاختزال. والحال أن هذا الكائن الضئيل، المعزول، الهش، العاجز والفاني، الإنسان - هو الذي نتناوله. لكننا لا نعتبر هنا مرة أخرى سوى خاصية واحدة: حريته وليس بقية قواه وأفعاله وخصائصه. بهذا العنوان: "ماهية الحرية الإنسانية"، نربط تأملنا بسؤال خاص، هو نفسه، علاوة على ذلك، متعلق بكائن محدد (الإنسان) ضمن كلية الموجود. سوف نتساءل، في مقام أول، عن لا تحديد سؤال ما هية حرية الإنسانية في اتجاه الموجود كله (العالم والله) عبر التوضيح المؤقت للحرية السلبية. في مقام ثان، سوف نقدم تأويلا معمقا ل"الحرية السلبية"؛ وسوف نبين أيضا أن الموجود في كليته هو بالضرورة موضوع مشترك في مسألة الحرية الإنسانية. كل هذا سوف يقودنا بمزيد من الأمان إلى منحدر الحرية الإيجابية التي ستسمح لنا بأن نفهم بشكل أفضل ماهية الحرية الإنسانية.
1. من أجل شرح لاتحديد مسألة ماهية الحرية الإنسانية في اتجاه مجمل الوجود (العالم والله) من خلال التوضيح المؤقت للحرية السلبية، ذكر الكاتب أن من بين محددات ماهية الحرية، هناك محدد لم يتوقف أبدا عن فرض ذاته مرة أخرى. ووفقا لهذا المحدد، تعني الحرية بنفس القدر الاستقلال. تتمثل الحرية في التحرر من.. "الشيء الحر هو الذي يتوقف على أي شيء ولا شيء يتوقف عليه"، كما قلل إيكهارت. هذا المحدد الأساسي للحرية كاستقلال ولااعتماد يتضمن نفي الاعتماد على الآخر. لذلك نتحدث هنا عن المفهوم السلبي للحرية، أو باختصار أكثر عن الحرية السلبية. وومن الواضح أن هذه الحرية السلبية للإنسان لن تتحدد بشكل كامل إلا إذا بينا هذا الشيء الذي يكون الإنسان الحر بهذا المعنى مستقلاً عنه أو تم تصوره على أنه مستقل. غير أن "هذا الشيء" الذي تم الاستقلال عنه، في التصور والتأويل التقليديين للحرية، تم اختباره وأشكلته في اتجاهين أساسيين.
في إطار التوجه الأساسي الاول، يعني الوجود الحر قبل كل شيء الاستقلال عن الطبيعة. ما نريد أن نقوله من خلال ذلك هو أن فعل الإنسان، في حد ذاته، لا يكون سببه في المقام الأول العمليات الطبيعية ولا يخضع الإكراه قوانين سير العمليات الطبيعية وضرورة هذه القوانين. لكن هايدجر يؤكد على أن هذا الاستقلال عن الطبيعة يمكن فهمه بطريقة أكثر دقة وأهمية إذا اعترفنا بأن القرار والحل الأكثر حميمية للإنسان ما يزالان مستقلين، من وجهة نظر معينة، عن الضرورة الموجودة في مجرى التاريخ والأقدار البشرية. هذا الاستقلال عن الضرورة الطبيعية والتاريخية، يمكننا، تبعا لما تقدم، أتلخيصه تحت عنوان الاستقلال عن "العالم"، على اعتبار أن الأخير يُفهم على أنه الكل الفريد للتاريخ والطبيعة. لكن هذا المفهوم السلبي الاول عن الحرية بترافق - لبس دائما بالتأكيد، ولكن عندما يستيقظ الوعي الأصلي بالحرية - مع مفهوم سلبي ثانٍ نحاول توضيحه في ما يلي.
في إطار التوجه الأساسي الثاني وبحسب هذا المفهوم، يعني التحرر من... الاستقلال عن الله كذلك، الاستقلال الذاتي عنه. ذلك أن ذلك، كما يقول هايدجر، لا يحدث إلا إذا كان هناك استقلال مماثل للإنسان عن الله بحيث تكون العلاقة معه ممكنة من جانب الإنسان. عندها فقط يمكنه أن يبحث عن الله، ان يتعرف عليه، وأن يتمسك به، وهكذا يأخذ على عاتقه المطلب الذي يعرضه الله عليه. مثل هذا الكائن بالنسبة إلى الله سيكون مستحيلا في الأساس إذا لم يكن لدى الإنسان إمكانية التحول عن الله. لكن إمكان التحويل أو الارتداد تفترض بشكل عام دخول لعبة استقلال معين عن الله وتحررا معينا من الله. لذلك، يعني المفهوم الكامل عن الحرية السلبية الاستقلال عن العالم وعن الله. فإذا تناولنا إذن ماهية الحرية الإنسانية، ولو بالمعنى السلبي فقط، أي إذا كنا نفكر حقا في هذا الاستقلال المزدوج، إذن، في الفكر وتصور هذه الحرية، لا يمكننا أن نتجاهل حيال ماذا يكون الاستقلال في كل مرة ايتقلالا: عن العالم، عن الله. علاوة على ذلك، العالم والله لا يتم تمثيلهما بشكل مشترك في المفهوم السلبي عن الحرية، فهما بالأحرى يفهما فيه بضرورة جوهرية. إذا أخذت الحرية السلبية على أنها ثيمة، فإن العالم والله ينتميان إلى هذا الثبمة باعتبارها "ما هو" جوهري في الاستقلال. لكن العالم والله يشكلان في وحدتهما الموجود كله.
نتيجة لذلك، عندما تؤخذ الحرية كمشكلة في جوهرها، حتى لو كانت أولاً مجرد حرية سلبية، نكون بالفعل قد تساءلنا بالضرورة اتجاه الموجود كله. إن السؤال عن جوهر الحرية لا يقصر النظر على مجال معين، فبعيدا عن تحديد التساؤل، يقوم بلا تحديده. إلا أن هذا التحديد لا ينقلنا من خاص إلى كوني؛ لأن الله والعالم، يواصل هايدجر، ليسا هما الكوني في مواجهة الإنسان باعتباره خاصا. إن اللاتحديد يقودنا إلى كل الملوجود، العالم والله، الذي بداخله يجد الإنسان ذاته، عندما يجد نفسه في علاقة مع العالم ومع الله. إن السؤال عن جوهر الحرية لا يحدد على الفور أفق مجال محدد ويشير إلى الكل، إلى كلية الموجود. الحرية عند هايدجر بالمعنى السلبي كاستقلال عن العالم (الطبيعة والتاريخ) واستقلال عن الله تظهر بدون شك علاقة بهذا الموجود، لكن الأمر مع ذلك مجرد علاقة سلبية، تباعد؛ وما العالم والله إلا ما لا يرتبط بهما الحر. لكن هذا كان تجاهلًا لحقيقة أنه، إذا كان من المشروع حقًا التحدث بشكل عام عن الحرية السلبية، فيمكن ويجب التفكير في حرية إيجابية، وبالتالي فهذه الأخيرة، بوصفها إيجابية، ترسم مسبقا الخطوط العريضة لمشكلة الحرية؛ أو يجب كذلك أن يتم تمثل الحرية السلبية، على أي حال، في وحدة مع الحرية الإيجابية إذا أردنا أن نقرر في شأن مشكلة الحرية. وأمام هذا البديل، قررنا على عجل ومن جانب واحد من أجل الحرية السلبية. والأكثر من ذلك، أننا قد فهمنا بالفعل هذه الحرية السلبية نفسها بطريقة غير كافٍية. لنسمح لأنفسا الآن بتقديم تأويل معمق للحرية السلبية، تأويل سوف يسهل علينا صياغة أكثر شمولا للحرية الإيجابية.
2. التأويل المعمق لـ "الحرية السلبية" باعتبارها تحررا من... انطلاقا من طبيعتها النسبية. إن الموجود في مجمله هو بالضرورة موضوعاتي مشترك في مسألة حرية الإنسان. لقد أولنا الحرية السلبية أعلاه على أنها استقلال إزاء العالم (الطبيعة والتاريخ) والله. "حرف "عن"" في هذا الاستقلال عن ... تم التفكير فيه بشكل مشترك، ولكن لم يتم اعتباره تيمة بشكل صريح؛ ولم يكن مطلوبا منا أتمتته، لأن موضوعنا كان على وجه التحديد الحرية، وبعبارة أخرى، الوجود- المستقل عن... كما هو. ولكن ماذا يعني ذلك؟ الاستقلال عن... إذا أردنا أن نوضح الأمر أكثر، سنقول بالضرورة، استيحاء دائما من هايدجر، إن الأمر يتعلق بمسألة علاقة، علاقة وجود مستقل للواحد عن الآخر. علاقة من نفس النوع، قد تكون مثلا تماثل الواحد مع الآخر، أو حتى تنوعا باعتباره عدم مساواة بين كليهما. في أي علاقة نميز بين أمرين: (1) الوجود-المنقول من الواحد إلى الآخر باعتباره كذلك، ثم، (2) على وجه التحديد هذا الواحد وهذا الآخر اللذان يوجد بينهما الوجود-المنقول هما عضوا العلاقة. غالبا ما يكون تعبير "العلاقة" غامضًا. تارة، لا نضع نصب أعيننا سوى الوجود-المنقول باعتباره كذلك ، تارة أهرى، وفي كثير من الأحيان، الوجود-المنقول في وحدته مع العضوين المنقولين نفسيهما. اللامساواة، اللاتماثل علاقة "سلبية" شأنه شأن الاستقلال. وحتى يجعلنا نفهم هذه "السلبية"، وضع هايدجر أمامنا طاولة ومصباحا معلقا إلى سقف الصالة؛ وقال لنا ما يلي: مثلا، إذا لاحظنا عدم تماثل الطاولة والمصباح الموجود في السقف، فإننا نتعامل مع علاقة.
أثناء مراقبة مثل هذه العلاقات، يؤكد هايدجر، لا ينبغي لنا فقط أن نشارك في التفكير بشكل عام في أعضائها - طاولة، مصباح -، حتى نتفادى، إن صح التعبير، لنفترض ألا يطفو الوجود-المنقول في الهواء بدون أساس، بل يجب علينا الارتباط بأعضاء العلاقة نفسها. بعد القيام بذلك، نلاحظ جهة الطاولة وجهة المصباح، إنما حسب جهة كل منهما ندرم لاتماثلهما. هذا هو الحال في أي معاينة للعلاقات: من الضروري النظر في أعضائها نفسها لا شيء يمكن أن يكون أكثر وضوحا. ولكن هل يترتب على ذلك توضيح الحرية - كاستقلال نتطلع إليه، هل يجب أن تأخذ في الاعتبار أيضا طرفي العلاقة؟ بالتأكيد، لا يمكننا أن نرى الاستقلال بغير ذلك، فهو لا يوجد في أي مكان معطى بذاته، ولكنه معطى في علاقة بطريقة متناسبة: إنما فقط في التزامنا بالإنسان باعتباره العضو الأول في العلاقة وبالعالم باعتباره عضوها الٱخر نتمكن من العثور عليها. ولكن هل نريد أن نعاين الاستقلال (الحرية، بتعبير ٱخر)؟ وهل نستطيع القيام بذلك؟ لا هذا ولا ذاك. نحن لا نتعامل دون أي طريقة أخرى مع حرية الإنسان، بل مع ماهية الحرية الإنسانية. ماهية الحرية؟ فإلى إضاءة ماهية، كما يريد هايدجر، تنتمي ثلاثة أشياء: (أ) كنهها، وما هي (الحرية) في حقيقتها. (ب) كيف يمكن لهذا الوجود-ماذا أن يكون ممكنا في حد ذاته. (ج) أين يكمن أساس هذا الإمكان؟
(يتبع)
نفس المرجع