في الدرحة الأولى، يعيش الرجال بالسلاسل في الكهف وهم مفتونون بهذا الذي يدركونه مباشرة. ينتهي وصف هذه الإقامة بالتأكيد المتمبز: "لأن الرجال المقيدين بهذه الطريقة لا يعتبرون كاللامتحجب على الإطلاق شيئا اخر سوى ظلال الأشياء" (Rep.515c,1-2). وفي الدرجة الثانية نشهد إزالة السلاسل. السجناء الآن أحرار بمعنى من المعاني، لكنهم يظلون حبيسي الكهف. يمكنهم الآن الالتفات فيه إلى جميع الجوانب. يصبح من الممكن بالنسبة لهم رؤية الأشياء المنعكسة نفسها التي كانت في السابق تمر خلفهم، كما نصت هذه الجملة: "هؤلاء الذين لم يشاهدوا سوى الظلال تمكنوا بهذه الطريقة من الاقتراب قليلاً من الموجود (Rep.515d,2). الأشياء نفسها تظهر جوانبها بطريقة معينة، أي من خلال وهج نار اصطناعية خارج الكهف، ولم تعد محجوبة بالظلال التي تعكسها. تستأثر الظلال برؤية من لا يعرف سواها، فتنزلق هكذا أمام الأشياء ذاتها. أما إذا تحرر النظر من قبضة الظلال إلى الإنسان وهكذا يتمكن الإنسان من الوصول إلى المنطقة الخاصة "بما هو أكثر انكشافا" (515د،6) وومع ذلك، يجب أن يقال عنه: "ما رآه على الفور من قبل (الظلال)، سيعتبره أفضل انكشافا مما يظهر له الآن صراحةً من قبل الآخرين".لماذا؟ لأن وهج النار الذي لم تعتده عيناه يبهره. وهذا الوهج يمنعه من رؤية النار نفسها وملاحظة كيف يضيء نورها الأشياء، وقبل كل شيء، يجعلها تظهر. كما لا يمكن للرجل المبهر أن يدرك أن ما رآه لم يكن سوى الظلال التي تعكسها الأشياء على ضوء وهج هذه النار نفسها. وصحيح أن الإنسان المتحرر يرى الآن شيئاً آخر غير ذلك الظلال، لكنه يرى كل شيء في ارتباك عام. وعلى النقيض من هذه الأشياء، تبرز الأشياء، المرئية بفضل انعكاس النار التي لا تُعرف ولا تُرى، في أشكال محددة جيدا.
إنها تتصف أيضا بنوع من الاتساق الملحوظ، والذي يجب، بالنسبة إلى الإنسان المتحرر ان يكون "منكشفا احسن"، لأنه مرئي بشكل واضح. لهذا السبب تعاود كلمة alèthès الظهور عند نهاية وصف الدرجة الثانية، وفي هذه المرة عند صيغة التفصيل alèthèstera، الأشياء "المنكشفة أحسن". في الظلال، يؤكد هايدجر، نجد حقيقة أكثر جدارة بهذا الاسم. ذلك أن الإنسان المتحرر من سلاسله يخطئ مع ذلك في تقدير ما هو حقيقي لأنه لا يتمتع بالحرية، وهي شرط "لا غنى عنه" لحسن التقدير. يمكن إذن أن نلاحظ جيدا أن الحقيقة والحرية لا تنفصلان، طالما أن الكائن البشري المتحرر يمكنه
الوصول إلى الحقيقي. إن إزالة القبود في الدرجة الثانية جاءت بتحرر معين؛ لكن حرية الحركة لا تسمح لنا بالتمتع بالحرية الحقيقية. هذه الأخيرة لا يمكن الحصول عليها إلا في الدرجة الثالثة. هنا، الإنسان المتحرر من سلاسله تم في نفس الوقت نقله إلى خارج المغارة، إلى "الهواء الطلق"، حيث تكون، طوال النهار، قابلة لأن ترى. من الٱن فصاعدا، لم يعد يدرك المظهر الحقيقي الذي تظهر به الأشياء على ضوء الوهج المصطنع والمضطرب النار خارج الكهف. الأشياء نفسها الحاضرة هنا، تحت ضوء الشمس، بيقين وضمانة من شكلها الأصيل. الفضاء الحر، الذي وجه إليه الإنسان المتحرر، ليس لامحدودية لمجرد امتداد، بله اعتماد محدود خاص بما هو واضح ومشرق، ويدرك هو أيضا بواسطة الرؤية.
إن مظاهر الأشياء في حد ذاتها، أي ال Eidè,، تشكل الماهية التي على ضوئها يظهر لنا كل موجود بعينه على أنه هذا أو ذاك؛ ولأنها تظهر فقط بهذه الطريقة يصبح الشيء الظاهر لامتحجبا وفي المتناول. يتم تحديد المستوى الذي تم الوصول إليه بعد ذلك على سلم الإقامات مرة أخرى وفقًا لـ "اللامتحجب"، لهذا السبب، يتعلق الامر في الحال، عند بداية وصف الدرجة الثالثة، بما سمي الآن "اللامتحجب” (516أ،3).
هذا اللامتحجب هو منكشف alèthèsteron,، وهو أكثر انكشافا من الأشياء المضاءة بشكل مصطنع مقارنة بظلالها. إن المنكشف المتوصل إليه إذن هو الأكثر انكشافا في الوجود، إنه انكشافك alèthèstata. يمكننا بعد ذلك أن نفهم أن القدرة على رؤية الحقيقة وجها لوجه، ليست فقط شرطا للحرية، ولكنها تشكل جوهرها. التحرر الحقيقي هو الصمود على توجه يظل به الإنسان متجهًا نحو ما يظهر على وجهه الحقيقي وينكشف، وقد ظهر هكذا، إلى أقصى حد. لا وجود للحرية إلا إذا كانت مثل هذا التوجه. لكن الأخير هو أيضًا الوحيد الذي يدرك كينونة الpaïdeia كانتقال.
لا تنتهي حكاية أفلاطون، كما قد نميل إلى الافتراض، بوصف الدرجة العليا المقابلة للخروج من الكهف. على العكس من ذلك، تعتبر حكاية نزول الرجل المتحرر إلى الكهف نحو هؤلاء المقيدين جزء لا يتجزأ من "الأسطورة. يجب على الرجل المتحرر الآن أن يقود هؤلاء بدورهم إلى المناطق العليا وفصلهم عن "اللامتحجب" لوضعهم أمام "المنكشف إلى الحد الأقصى". لكن المحرر لم يعد يتعرف على نفسه في الكهف. يجازف بالخضوع إلى "الحقيقة" التي يؤمن بها، أي الركون إلى ادعاءات "الواقع" العادي، المقبول كواقع أوحد ووحيد. يخاطر مخاطرة حقيقية بحياته، كما رأينا ذلك في مصير سقراط، معلم أفلاطون. النزول إلى الكهف والمعركة بداخله بين المحرر والسجناء المناهضين لكل تحرر يشكلان الدرجة الرابعة في الأسطورة والتي (بها) تكتمل وتختتم. بصريح العبارة، لا وجود لكلمة alèthès في هذا الفصل من الحكاية. إلا أنه، عند هذه الدرجة كذلك، ينبغي أن يتعلق الأمر بنوع اللامتحجب الذي يميز المنطقة تحت أرضية المزارة مرة أخرى. ما يظل أساسيا لدى "اللامتحجب" ليس فقط أنه يجعل، بطريقة من الطرق، متاحا ما يظهر او أنه يحتفظ به منفتحا في ظهوره، بل هو أن اللامتحجب يتجاوز باستمرار حجب متحجب. على اللامتحجب، وفق قول هايدجر، أن ينتزع من احتحابه، أن يخطف ويسرق منه، إذا جاز التعبير. لاحظ هايدجر أن الاحتجاب، فعل الاختفاء، عند الإغريق، يهيمن منذ البداية على ماهية الوجود، كذلك إذن يميز الموجود في حضوره، وانفتاحه ("حقيقة"): لهذا تميزت الكلمة التي ترادف عندهم الveritas عند الرومان والwahrheit عند الألمان بa كزائدة (a-lèthèia). تعني الحقيقة في الأصل ما تم انتزاعه من الاختجاب الذي يمكن أن ينقسم إلى عدة أنواع: احتباس، الوقوع في مكان ٱمن، التفاف، استرجاع، تحجب، تقنع. اللاتحجب يحيل دائما على اللامتحجب المنظور إلبه كمنفتح بفضل ضوء الفكرة.
كل فكرة، كل مظهر شيء، يسمح برؤية ماهية الشيء المعني. هكذا، كما أوضحنا سابقًا، بالنسبة إلى لفكر اليوناني، فإن "الأفكار" تجعل ممكنا ظهور الشيء كما هو وأن يكون حاضرا بما له من ديمومة. إن جوهر أي فكرة يكمن بالفعل في كونها تسمح بالظهور، تجعل هذا الظهور قادرا على منح نظرة عن المظهر. باعتبارها لاتحجبا، تبقى الحقيقة سمة أساسية للموجود نفسه. لكن، بوصفها دقة في "النظرة"، فإنها تصبح سمة سلوك معين للإنسان تجاه الأشياء الموجودة. وطمع ذلك، كان أفلاطون مجبرا على الحفاظ، بطريقة معينة، على "الحقيقة" كخاصية للموجود، لأن هذا الأخير، كشيء حاضر، يمتلك الوجود في حالة ظهوره: بيد أن الكينونة تجلب معها اللاتحجب. يظهر اللاتحجب باعتبارها السمة الأساسية للموجود نفسه. ومع ذلك، يجب أن يكون جوهر الحقيقة مفكرا فيه بطريقة أكثر أصالة. هكذا لا نستطيع أبداً أن نفترض اللاتحجب بالفعل
بمعنى الذي منحه إياه أفلاطون، أي عن طريق إخضاعه للفكرة. لماذا؟ إليكم الحواب.
مفهوما فقط بمعنى أفلاطون، فإن اللاتحجب يظل ملتزما بعلاقة مع البصر والفكر واللغة. يعني قبول هذه العلاقة التخلي عن جوهر اللاتحجب. لا محاولة لتأسيس جوهر اللاتحجب على "العقل"، على "الروح"، على "الفكر"، على "اللوغوس"، على أي نوع من "الذاتية"، قادرة على إنقاذ جوهر اللاتحجب. ذلك إذن أن ما يجب تأسيسه، جوهر اللاتحجب نفسه، لم يتم استجوابه، أو استنكاهه، أو تبيانه. الجوهر الأصلي للحقيقة يكمن دائما في غموض أصلها الذي سنوضحه قبل ختم هذا الجزء الاول من دراسة روبنس بيليدور.
بينا للتو، في تأويل "أسطورة الكهف" لأفلاطون، أن الحقيقة، منذ الأصل، تعني: ما انتزع من الاحتجاب. الحقيقة هي هذا الانتزاع، الذي هو دائما في وضع كشف الحجاب. لكن مسألة جوهر الحقيقة، يؤكد هايدجر، لا تبلغ مجالها الأصلي إلا في اللحظة التي يسمح فيها النظر المسبق إلى كامل جوهر الحقيقة بأن يحتضن لاتحجب الأخيرة التأمل في اللاحقيقة. إن اختبار لاماهية الحقيقة لا يسد ثغرة ثانوية، لكنه يشكل خطوة حاسمة نحو الموقف المناسب لمسألة ماهية الحقيقة. لكن، كيف ندرك التمييز بين لاماهية وماهية الحقيقة؟ إذا لم يستنفذ جوهر الحقيقة في تطابق العبارة، فإن اللاحقيقة، هي كذلك، لا يمكنها أن تكون مساوية للاتطابق الحكم. لنستمر في تفسير ماهية الحقيقة لكي توضح في التالي أن الحقيقة واللاحقيقة تنتمي الواحدة منهما إلى الأخرى بشكل متبادل. لقد شددنا في تحليلنا حول الحقيقة الإسنادية على أن ماهية الحقيقة هي الحرية (Cf.p.18). بصريح العبارة، سوف تلقي الضوء على كامل جوهر الحقيقة في الجزء الثاني، لكن ما دامت مهمتنا هي فهم ماهية اللاحقيقة وتبيان الانتماء المتبادل لهذه الأخيرة مع ماهية الحقيقة، يبدو لنا من الضروري الرجوع إلى مفهوم الحرية الموصوف في نهاية الحديث عن الحقيقة الإسنادية. تمت إماطة اللثام عن ماهية الحقيقة فظهرت على أنها حرية. نرمز إلى هذه الأخيرة بعبارة "دع الكينونة توجد" التي تكشف الحجاب عن الموجود. كل سلوك منفتح يتم بترك الموجود يكون مع أخذ موقف إزاء هذا الموجود الخاص أو ذاك. منحت الحرية مسبقا كل سلوك للموجود في كليته، وباعتبارها تترك للاتحجب هذا الموجود في كليته وكما هو. "دع الكينونة" للموجود، المولد لتوافق (الدازاين) مع الموجود في كليته، يخترق ويسبق كل سلوك منفتح يتم فيه. سلوك الإنسان مخترق بكشف الموجود في كليته.
بشكل ملموس، ظل هايدجر في حركية "الوجود والزمان" حيث كل إمكان لملاقاة الموجود تتأسس على انفتاح الدازاين الذي يحتوي الكينونة كما هي. مع ذلك تبدو عبارة "في كليته" بالنسبة إلى الاهتمام والحساب اليوميين مثل اللامفهوم واللامتوقع. اللامفهوم لا يسمح بالوصول إليه انطلاقا من الموجود الذي ظهر لتوه، سواء انتمى هذا الأخير إلى الطبيعة أو التاريخ. ورغم أنه يخترق كل شيء باستمرار، من خلال موافقته، فإنه يبقى هو نفسه غير المحدد وغير القابل للتحديد. وهذا هو السبب وراء الخلط في أغلب الأحيان، بحسب هايدجر، بين ما هو الأكثر شيوعا والأقل وضوحا. لنفهم أن ما يصل إلينا هكذا (من موافقته) ليس شيئًا، بل هو، على العكس من ذلك، إخفاء للوجود في مجمله. بقدر ما يترك "دعه يوجد" الكينونة للموجود اللامحدد الذي يحيل إليه في سلوك معين، وبالتالي يكشف عنه الحجابيخفي الوجود في كليته. من حيث ذاته، "دعه يكون" هو في حد ذاته إخفاء. في الحرية الوجودية للدازاين يتحقق إخفاء الموجود في كليته، وهو ما يعتبر تعتيما. وفي الوقت نفسه، تظهر اللعبة المعقدة للاتحجب-تححب الأليثيا المرتبطة بالفرق الذي لا يمكن اختزاله ولا الانفلات منه؛ سيتم توضيح هذا العلاقة لاتحجب-تحجب في فصل لاحق، أما الٱن فينبغي أن نتساءل عن التعتيم ونسأل أنفسنا عما يكون بينما نحاول فهم جوهر اللاحقيقة. وهكذا نبدأ بالحديث عن اللاحقيقة باعتبارها إخفاء . يرفض التعتيم لاتحجب الأليثيا. لا يقبله حتى ولو كان stérésis (حرمانا)، مع الحفاظ للأليثيا بما هو خاص بها. التعتيم هو إذن، عندما نفكر فيه انطلاقا من الحقيقة كلاتحجب، خاصية ما لا يكون لامتحجبا، وهكذا يكون اللاحقيقة الأصلية الخاصة بجوهر الحقيقة باعتبارها أليثيا. إن تعتيم الوجود في مجمله لا يؤكد نفسه كنتيجة تابعة للمعرفة المجزأة دائما بالوجود، ولكنه شرطها ذاته. تعتيم الوجود في مجمله، اللاحقيقة الأصلية، أقدم من كل كشف عن هذا الموجود أو ذاك. إنه أقدم من الأمر "دعه يكون" ذاته، الذي، وقد أزال الحجاب، يخفي بالفعل، ويتخذ موقفاً في علاقة بالإخفاء.
ومع ذلك، يجب علينا أن نسأل أنفسنا: ما الذي يمكن أن يحتفظ به الأمر "دعه يكون" من هذه العلاقة بالإخفاء؟ كما أكد هايدجر، لا شيء غير إخفاء الموجود كما هو، معتم في مجمله. هذا الإخفاء للموجود كما هو، يسميه هايدجر لغزا. لا يتعلق الأمر بأي سر معين يؤثر على هذا الشيء أو ذاك، بل يتعلق بهذه الواقعة الفريدة، وهي أن اللغز (أي إخفاء ما هو ممتحجب) في حد ذاته، يهيمن على الدازاين البشري. هكذا يحدث أن الإخفاء، في الأمر "دعه يكون" الكاشف والذي في نفس الوقت يخفي الموجود في كليته، يظهر كشيء متحجب في المقام الأول. الدازاين، كما هو موجود، يولد اللاتحجب الأول والأكثر امتدادا، اللاحقيقة الأصلية. إن اللاماهية الأصلية للحقيقة هي اللغز كما تم التنصيص عليه أعلاه. إن مصطلح اللاماهية لا يعني بعد هذا الفارق الدقيق في الانحطاط الذي نربطه به بمجرد أن تدرك الماهية ككونية، كإمكان للكوني وأساس له. تهدف اللاماهية هنا إلى الماهية الموجودة مسبقا. مع ذلك، تشير اللاناهية عادة إلى تشويه الماهية المنحطة قبلا. بكل هذه المعاني، رغم ذلك، ظلت اللاماهية مرتبطة دائما من حيث الجوهر بالماهية، وفق جهات متناسبة، ولا يصبح أبدا غير ضروري بمعنى مهمل. لكن الحديث عن اللاماهية واللاحقيقة بهذه الطريقة يصطدم بالرأي الذي ما زال رائجا ويبدو كتراكم قسري لـ "مفارقات" تعسفية. ولأنه من الصعب إزالة هذا المظهر، فإننا ننبذ هذه اللغة التي ليست متناقضة سوى لدى الحس المشترك. بالنسبة لمن يعرف، على الأقل، أن "لا" في اللاماهية الأصلية للحقيقة، باعتبارها لاحقيقة، يشير إلى المجال غير المستكشف لحقيقة الوجود (وليس الموجود فقط). الحرية باعتبارها "دعه يكون" هي في حد ذاتها أمر لا مفر منه، علاقة يعاد حلها، أي علاقة غير منغلقة على نفسها. كل سلوك، يقول هايدجر، يرتكز على هذه العلاقة ويتلقى منها توجيه [النهوض] إلى الموجود ولاتحجبه. لكن من هنا، تختفي هذه العلاقة ذاتها بالاختفاء من حيث أنها تشجع على نسيان اللغز وتختفي في هذا النسيان.
رغم أن الإنسان يرتبط باستمرار بالموجود، فإنه عادة ما يقتصر على مثل هذا الموجود أو ذاك بخاصيته المكشوفة. هذه المثابرة تجد دعمها، غير المعروف بالنسبة إليها نفسها، في العلاقة التي بها لا ينفتح الإنسان فحسب، بل في نفس الوقت ينغلق، أي أن الإنسان يتشبث بما يمنحه له الموجود بحيث انه يبدو من تلقاء ذاته ويظهر في ذاته. حتى في الوجود الملحاح يسود لغز الحقيقة، كماهية منسية، وهكذا أصبحت "غير ضرورية". على هذا النحو، بينا أن الحقيقة واللاحقيقة تنتميان الواحدة إلى الأخرى من خلال تقديم الأخيرة كإخفاء، كحدث أساسي يسقط، في غياهب النسيان الذي ينتفي فيه لغز الدازاين. وباعتبار الإنسان نساء للموجود في كليته، يخطئ بشأن الماهية الحقيقية للمقاييس التي يتعاطى معها في الحياة اليومية؛ لماذا يقع في الخطإ؟ وأخيرا، بقي لنا أن نتساءل عن أصل خطإ الإنسان قبل أن نختم هذا الفصل عن ماهية الحقيقة. الخطأ بشري errare humanum est، تقول المقولة اللاتينية. يمكن ترجمة هذا العبارة بطريقتين: (1) الخطأ بشري، أو (2) الخطأ يقع في نطاق الإنسان. ولكن ما الذي يجعل الخطأ يدخل في نطاق الإنسان؟ الجواب في تحليل القطب الثاني للاحقيقة.
إذا نظرنا إلى اللاحقيقة كتيهان، نجد أن الإنسان بوصفه ملحاحا (كما هو موضح ومفهوم أعلاه)، يلتفت نحو ما هو أكثر شيوعا في الموجود. لكنه لا يستطيع أن يلح إلا من خلال كونه منفتحا بالفعل، أي أنه يأخذ الموجود كما هو كمقياس إرشادي. الإنسانية، رغم ذلك، تبتعد عن اللغز بواسطة أخذ معيار خاص بها. هذا التحول الملحاح إلى ما هو شائع وهذا النفور المنفتخ من اللغز يقول لنا هايدجر إنهما يسيران جنبًا إلى جنب. إنهما نفس الشيء الواحد. كما يخبرنا هايدجر بأن هذه الطريقة في التحول والابتعاد تنتج في النهاية عن اللاضطراب القلق الذي يتميز به الدازاين.إن الاضطراب الذي يهرب من اللغز ليختبي في مجريات الواقع، ويدفع الإنسان من شأن يومي إلى آخر، بجعله يغيب عن اللغز يسمى: التيهان (irren بالألمانية). الإنسان يتيه وفق قول هايدجر. لا يقع الإنسان في التيه عند لحظة معينة. إنه لا يتحرك إلا في التيه لأنه ينغلق وهو ينفتح، وهكذا يجد نفسه تائها. إن التيه الذي يتحرك فيه الإنسان ليس له شكل الوادي الذي يمتد على طول طريقه ويسقط فيه أحيانا؛ على العكس من ذلك، التيه جزء لا يتجزأ من صميم تكوين الدازاين الذي ترك له الإنسان التاريخي.
إن إخفاء الوجود في كليته، المتحجب في حد ذاته، يعلن عن نفسه في لاتحجب الموجود الخاص الذي، كنسيان للإخفاء، يشكل التيهان. هذا الأخير ينفتح على مجال مفتوح بالنسبة إلى كل نهج مضاد للحقيقة الأساسية. التيهان هو مسرح وأساس الخطإ. ليس خطأ عرضيا، ولكنه إمبراطورية هذا التاريخ حيث، تتشابك، مجتمعة، كل طرائق التيه، ذلك هو الخطأ. لكل سلوك، حسب هايدجر، طريقته في التيه، تتوافق مع فاتحيته وعلاقته بالموجود في كليته. يمتد الخطأ انطلاقا من سوء التقدير والأغلاط والزلات الأكثر شيوعا، حتى الضلالات والتجاوزات في مواقفنا وقراراتنا الأساسية. ما كان في العادة وفي المذاهب الفلسفية يعد خطأ، أي لاتطابق الحكم وزيف المعرفة ليس سوى طريقة، أكثر سطحية، من طرق التيهان. هذا الأخير الذي يجب على الإنسانية التاريخية أن تتحرك فيه حتى يكون سيرها منخرفا، هو عنصر أساسي في افتتاح الدازاين.
يهيمن التيه على الإنسان ويدفعه إلى أن يضل. لكن عن طريق الضلال يساهم التيهان كذلك في ظهور هذا الاحتمال بأن يمتلك الإنسان وسيلة الاستفادة من انفتاحه والتي تتمثل في عدم الاستسلام للتيه. ولا يستسلم له إذا كان من المحتمل أن يخوض تجربة التيه كما هو وأن يسيء فهم لغز الدازاين. هكذا إذن يكون لاتحجب الموجود كما هو، في نفس الوقت، إخفاء للموجود في مجمله. إنما في هذا التزامن بين اللاتحجب والإخفاء يعلن التيهان عن نفسه. إخفاء المنحرف والتيه ينتميان إلى الماهية الأصلية للحقيقة.
في ختام هذا الجزء الأول من كراسته هاته، ذكر بيليدور بإيجاز بالخطوات التي اتبعها حيث انطلق من المفهوم الشائغ للحقيقة، أي الحقيقة الإسنادية وبين أن الحقيقة ليست لها إقامة أصلية في الحكم ما دامت تنبثق من حقيقة أكثر أصالة تسمى الحقيقة القبحملية أو الحقيقة الأنطيقية التي تجد جوهرها فيها الحرية. من هنا، واصل الكاتب طريقه من خلال تبيان أن الحقيقة الأنطيقية تجد إقامتها الأصلية في الحقيقة الأنطولوجية التي هي الحقيقة الأساسية الوحيدة حقا. وبما أن هذه الكراسة مهمتها التطرق لماهية الحقيقة وحرية الإنسان، حق للكاتب أن يتناول في الفصل الثاني التعريفات المختلفة للحرية وفقًا لهايدجر.
(يتبع)
نفس المرجع