حتى لو كان الفكر، كما يقول هيجل، جاحدا، ليس من المحتم أن يظلم المفكرين. حتى لو بدت فلسفة الرياضيات للبعض أنها لا تواجه جميع المشكلات الفلسفية الأصيلة، فلا يمكن لأي من طلابها أن ينسى ما يدينون به لليون برنشفيك، كما لا يمكن لأي شخص يعرفه أن يستحضر، دون مرارة على الشفاه، الموت المأساوي لجان. كافاييس .
"الفهم، كما قال كافاييس عن مناهج الرياضيات، هو التقاط الإيماءة والقدرة على الاستمرار. إن الحديث عن كافاييس هو أولاً، وهذا ما ينبغي أن يكون، التفكير في الطرق الممكنة للاستمرار بعده. بالطبع، يتعلق الأمر في المقام الأول بالتاريخ، ومنذ ذلك الحين تمت كتابة تاريخ الرياضيات وفقا لمعاييره الخاصة، وغالبا ما يكون ذلك في فجوة ملحوظة مع تلك التي يمكن استخلاصها من عمله. لكن الأمر لا يمكن إلا أن يتعلق أيضا بمؤلف لم يعتقد أبدا أنه من الممكن الفصل بين هذين النوعين من الأسئلة، للفلسفة، ولفلسفة الرياضيات. ما الذي يمكننا الاحتفاظ يه من المصطلحات التي فكر بها كافاييس فلسفيا في الرياضيات، وخاصة في علاقتها بالتاريخ؟ تحت أي ظروف، وبأي عواقب على طريقتنا في كتابة تاريخ الرياضيات؟ ولا فائدة من القول بأننا سنكتفي هنا بتقديم بعض الملاحظات، فمن المؤكد أن مثل هذا المشروع يتطلب مساعدة جميع أولئك، من علماء الرياضيات وفلاسفة ومؤرخي الرياضيات أو العلوم، الذين ما زالوا يجدون الاهتمام والتحفيز عند قراءة كتاباته.
الدليل الأول هو أن المسافة التاريخية قائمة بيننا وبين جان كافييس. لها على الأقل نتيجتان واضحتان بشكل مباشر.
أولاً، القرب الحي الذي جلبه وحافظ عليه لفترة طويلة وجود معلمين من حولنا لم يعرفوه ويعملوا معه فحسب، بل شاركوا معه تاريخا، حتى لا نقول مصيرا، وقد اختفى هذا النوع من التواطؤ. ويبدو أننا، في الوقت نفسه، نقف الآن، في مقابله وفي مقابل أعماله، على نفس المسافة التأملية التي تفصلنا عن الأعمال العظيمة للتقليد الفلسفي - حتى مع الأخذ في الاعتبار توقفه الدرامي، ما تسبب في عدم الاكتمال الذي لم يتم إنقاذه دائما في أعمال فلاسفة العصور الأقل بربرية.
كان هناك بعد ذلك التطور الطبيعي والمشروع للنقد، سواء على يد علماء الرياضيات الذين، عندما تحدثوا من داخل الممارسة الرياضية، اعترفوا بأنهم أصيبوا بخيبة أمل بسبب الانفتاح الضعيف نسبيا لتفكير كافاييس على تنوع مجالاته، أو على يد فلاسفة مناطقة، حريصين على أن يتموقعوا إزاء إرث مثالية عقلانية معينة، هو فكر مشترك، وغير منكر، للمعلمين الذين تعرف عليهم. إذا تمكنوا من الحكم على تأكيد القوة العقلانية للرياضيات بأنه مقبول، فقد وجدوا أنه من الصعب قبول نظير عدم الثقة العنيد في ما يتعلق بتطورات المنطق الصوري، الذي يشتبه دائما في تفضيله ولادة الأرسطية السكولائية من جديد.

هل معرفة عالمنا الخارجي تنفي واقعية ذلك العالم؟ وهل صحيح أن كل معرفة تستنفد نفسها حينما تكون محصورة بواقعية معرفتها؟ يقول شيلر ويؤيده دلتاي بذلك أنه لا يوجد غير ثلاثة مناهج معرفية هي معرفة استقرائية علمية، ومعرفة تنصب على الماهية، وثالثا منهج المعرفة الميتافيزيقية. هذا ليس موضوع مناقشتي لهذه الاطروحة حاليا.

كما يذهب شيلرومعه دلتاي أن (العالم الخارجي وجود حقيقي، واذا كان كل موجود ينحصر في معرفته لما كانت لهذا الوجود "واقعية" لان الواقعية تصنع المقاومة في وجه مقاصدنا. وما يثبت الشيء هو الصدمة التي تحدثها لنا "المقاومة". نقلا عن دكتور زكريا ابراهيم.

هذا التجريد الفلسفي العصّي على التلقي لا يمنعنا من تثبيت مايلي:

  • يقر شيلر أن العالم الخارجي وجود حقيقي بمعنى أنه قابل للادرك حسيا وكذلك معرفته بإي منهج علمي متاح، وهذه المعرفة لا تنفي حقيقته الموجودية كينونة مستقلة. لا يصح التعميم ان موجودات العالم الخارجي تنتهي واقعيتها بمجرد الانتهاء من معرفتها التي تحدثها الصدمة التي مبعثها لنا المقاومة على حد تعبير شيلر. لا يشير شيلر ولا دلتاي توضيح علاقة ثلاث مفردات اقحمت مع بعضها إعتسافا غير فلسفي واضح. هي الواقعية والصدمة والمقاومة.
  • معرفة العالم الخارجي طالما هو وجود حقيقي فهو يكون بالضرورة وجودا ماديا ولا يحتاج برهان اثباته الواقعي. وطالما موجوداته واقعية فلا تنحصر معرفتها الابستمولوجية بجانب فلسفي او بمنهج احادي. كما لا يمكن للمعرفة الادراكية في منهج الاستقراء العلمي تجريد موجودات العالم الخارجي من واقعيتها بعد استنفاد منهج الاستقراء العلمي معرفتها..
  • موجودات عالمنا الخارجي هي موجودات حقيقية واقعية قابلة للمعرفة المنهجية. وليس لموجود بالمواصفات التي ذكرناه تسنفد واقعيته في تمام معرفته. ولا يوجد كما ذكرنا موجود تنحصر موجوديته في جانب معرفته المنهجية التي تنفي واقعيته الموجودية امام المعرفة الادراكية للعقل.
  • يذهب كانط الى أن العقل ليس كافيا للمعرفة ولا بد من توفر ما اسماه "مدخلات" نحصل عليها من العالم الخارجي لامتلاكنا المعرفة. وبدوري اجد المعرفة هي تراكم خبرة العقل في فهمه وتفسير الحياة والتعايش المتّكيف أو الاحتدامي المتصارع معها احيانا.
  • لماذا كل موجود تتحدد موجوديته كمعرفة تنبعث عنه ما اطلق عليه شيلر" المقاومة" أية مقاومة يقصدها شيلر.؟ موجودات العالم الخارجي التي تمتلك خاصية انها تحمل معنى ادراكيا لغويا هي معطى للمعرفة ولا يحدث في خصيصته هذه انه يحمل المعنى لا صدمة ولا مقاومة. عالمنا الخارجي بموجوداته المدركة معرفيا منهجيا علميا او غير علمي فهو لا يمتلك وعيا ذاتيا مدّخرا في رفضه امتلاك مقاومة ذاتية طاردة لامكانية معرفته المتاحة لنا كموضوع.
  • ما سبق واشار له فيلسوف اللغة لوفيدج فينجشتين أن تجريد موضوع الفلسفة لغويا من غير وضوح ملزم في المعنى يكون الصمت في هذي الحال أجدى. وإعتبر فينجشتين وأيده بشدة جورج مور عضو المنطقية الانجليزية بأن الوضوح الفلسفي اللغوي عامل اساسي في أن يكون للفلسفة وبخاصة فلسفة اللغة واللسانيات مستقبلا امام طغيان التقدم العلمي الذي يتهدد الفلسفة عامة.

مقدمة
«إذا كانت الدولة قوية فإنها تسحقنا؛ "إذا كانت ضعيفة، فسوف نهلك"، كتب بول فاليري ذات مرة، مما أثار مشكلة دور وشرعية الدولة تجاه المواطنين والمجتمع الذي تمارس عليه سلطتها. ولكن ماذا تعني الدولة حقًا؟  بشكل عام، تحدد الدولة إقليمًا وسكانه الخاضعين لسلطة الحكومة. (فرنسا والصين دول مثلا).ومع ذلك، وبشكل أكثر تحديدًا، تحدد الدولة شكلاً من أشكال تنظيم السلطة مرتبطًا بالمؤسسات والقوانين التي نسميها السلطة السياسية.   ينشأ مصطلح السياسة من الكلمة اليونانية POLIS التي تشير إلى المدينة (مثل أثينا أو روما او قرطاج على سبيل المثال) حيث يتم تحديد العلاقات بين الأفراد عن طريق القوانين. ومن ثم فإن السلطة السياسية، أي سلطة الدولة، هي سلطة وضع القوانين التي تنظم حياة الناس في المجتمع. وهكذا يميز بيير كلاستر بين المجتمعات التي تكون فيها سلطة الدولة هي المهيمنة وتلك التي تستمد فيها السلطة إما من القائد (المسماة السلطة الكاريزمية) أو من سلطة التقاليد والعادات (ما يسمى بالسلطة التقليدية). فما هي المناقشات التي تثيرها سلطة الدولة؟ في الواقع تقدم الدولة نفسها كسلطة شرعية، فهي تمتلك، على حد تعبير عالم الاجتماع ماكس فيبر، "احتكار العنف المشروع". لكن هذه الجملة قد أصبحت مفارقة بالفعل لأن العنف هو إساءة استخدام للقوة ولا يبدو أنه مبرر على أي حال، ولكن هذه الصيغة كاشفة أيضًا نظرًا لأن الدولة تتمتع بسلطة معاقبة الأفراد الذين ينتهكون قوانينها (بما في ذلك في بعض الحالات عن طريق عقوبة الإعدام). وإلى أي مدى تعتبر هذه السلطة مشروعة؟ فمن ناحية يمكننا تبرير وجود الدولة لأنها تلعب دورا ضروريا في إرساء النظام والأمن وضمان استقرار المجتمع. إن أصل كلمة "الدولة" يعزز هذه الفكرة: فهي تأتي من الكلمة مداولة و"استمرار" والتي تُترجم إلى "البقاء"، "الحفاظ"، فإن الدولة ستسمح للمجتمع بالحفاظ على وحدته ونزاهته. ومع ذلك، يمكن أيضًا إدانة الدولة باعتبارها جهازًا خارج المجتمع يعيش على حسابه ويمكن أن يعرضه للخطر من خلال الحروب التي يمكن أن يشعلها هذا الجهاز. كما يتم طرح مسائل الحريات الفردية والمساواة لتحدي دور الدولة أو القمع الذي يمارسه أصحاب السلطات السياسية. ومع ذلك، فإن هذه المناقشات حول فائدة الدولة ومزاياها وعيوبها ومخاطرها تستند إلى افتراض مسبق "فردي" يمكن بموجبه للفرد أن يوجد دون الدولة، ولكن هذا الافتراض نفسه يمكن التشكيك فيه. فهل الروابط بين المجتمع والدولة من جهة، والإنسان والسياسة من جهة أخرى، هي روابط تقليدية أم طبيعية فقط، كما يقول أرسطو الذي يعتقد أن البشر يتم تعريفهم بانتمائهم إلى مجتمع سياسي؟ يكتب في هذا المعنى: "الإنسان "هو حيوان سياسي" في نصه "السياسة". إذن، ما الذي تعبر عنه عضوية الدولة؟ ما هي الروابط التي تم إنشاؤها بين أفراد هذه الدولة؟ هل تم تأسيسها على أساس حساب بسيط للفائدة؟

مقدمة
يبدو مفهوم العدالة مفهوما ملتبسا اذ الكل يطالب به على الصعيد الحقوقي والكل يفتقده على الصعيد الواقعي والجميع يرفعه على مستوى الشعار والمطلب والجميع يخسره على مستوى الممارسة والعمل. كما ان الافراد يفتقدونه في حياتهم والمجموعات تتمنى تحقيقه في مجال التبادلات والعلاقات فيما بينها. هذا الاصرار الإيتيقي على اللحاق بالعدالة والتمسك بها كمبدأ تأسيسي وحق كوني ناتج عن ارادة جماعية مشتركة لتخطي عتبة الظلم والتمييز ومرده تلك الرغبة التي تنتاب الناس في ازالة الفوارق ورفع الجور وتحقيق الانعتاق من براثن التبعية والاستقلال التام عن كل قهر سياسي داخلي وسلطة غاشمة خارجية. فأين هي العدالة في الواقع؟ ولماذا تم تغييبها والاعتداء عليها؟ وكيف يمكن استجلابها واستنباتها في جل الاوضاع الانسانية؟ وما السبيل الى تحقيقها وضمان استمراريتها؟ والى أي حد تسمو عن كل توظيف؟

العدالة كمشكل

لقد سبق لافلاطون في محاورة الغورجياس ان أبرز التوتر بين العدالة حسب الطبيعة وحسب القانون بقوله:"في أغلب الأحيان، تتعارض الطبيعة والقانون مع بعضهما البعض. لأنه حسب الطبيعة، ما هو أكثر شرًا هو أيضًا أقبح، مثل التعرض للظلم، بينما يجب ارتكابه وفقًا للقانون. ليس من فعل الانسان أن يعاني الظلم، بل هو من فعل العبد، الذي الموت أفضل له من الحياة، والذي، مظلومًا ومهينًا، لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا عن من هو فيهم مهتم. لكن في رأيي، القوانين توضع للضعفاء ومن قبل الكثيرين. ومن أجلهم ومن مصلحتهم أن يفعلوا ذلك وأن يوزعوا المديح واللوم؛ ولتخويف الأقوى، القادرين على الحصول على الأفضلية عليهم، ومنعهم من الحصول عليها، يقولون إنه من العار والظلم أن يطمح المرء إلى أكثر من نصيبه، وهذا هو ما يعنيه الظلم. ، الرغبة في التملك أكثر من الآخرين؛ أما هم فأتصور أنهم يكتفون بأن يكونوا على قدم المساواة مع من هو أفضل منهم."1 زد على ذلك رأى افلاطون في محاورة القوانين انه "من الضروري أن يضع الناس لأنفسهم قوانين وأن يعيشوا وفقًا لهذه القوانين؛ وإلا فلا فرق بينهم وبين الحيوانات التي هي أوحش من جميع النواحي. وهذا هو السبب: لا يوجد على الإطلاق أي إنسان يولد بمثل هذه القدرة الطبيعية على التمييز في الفكر ما هو مفيد للإنسانية فيما يتعلق بالتنظيم السياسي، مثلما هو حالما يتم تمييز ذلك، لامتلاك الإمكانية دائمًا بالإضافة إلى ذلك والإرادة لتحقيق ما هو أفضل في الممارسة العملية. الحقيقة الأولى الصعبة التي يجب معرفتها هي، في الواقع، أن الفن السياسي الحقيقي لا يجب أن يهتم بالصالح الخاص، بل بالصالح العام، لأن الصالح العام يوحد، والصالح الخاص يمزق المدن، وأن الصالح العام والخير على وجه الخصوص، يستفيد كلاهما من كون الأول، وليس الثاني، مؤمنًا بالقوة."2  أما في الحقبة المعاصرة فقد أعاد المفكر الحر ألان اثارة قضية العدالة كما يلي: "يا له من غموض مذهل في مفهوم العدالة. وهذا بلا شك يأتي بشكل رئيسي من حقيقة أن نفس الكلمة تستخدم لتعيين العدالة التوزيعية والعدالة المتبادلة.

لماذا، في عصر التقدم الصناعي، يعيش معظم الناس في البؤس؟ كيف نعمل بفعالية من أجل ظهور عالم تحقق فبه العدالة الاجتماعية؟ تلك أسئلة أساسية طرحها ماركس 1818-1883)، أب الشيوعية الحديثة، وحاول، طوال حياته، إعطاءها أجوبة علمية في المتناول، فألهمت الحركات الثورية الكبرى في القرن العشرين.
بعد ولادته لأسرة يهودية ميسورة في ترير التابعة يومئذ لمملكة بروسيا، واصل كارل ماركس دراساته في بون ثم في برلين، ودافع أخير في إينا على أطروحة حول الفلسفة المادية القديمة.
عندما أصبح صحافيا في كولونيا لفائدة صحيفة Rheinische Zeitung، ثم رئيس تحريرها في ما بعد، سرع ماركس من وتيرة كتابة ونشر مقالاته الثورية. وحين أرغم على الاستقالة، لجأ إلى باريس سنة 1943 حيث التقى برودون وباكونين ولاسيما إنجلز، الذي صار صديقه ومساعده الأكثر وفاء.
وبعد أن أجبر على المنفى من جديد، هذه المرة في بروكسل التي أقام بها حتى عام 1848، وظل هناك قريبا من الحركات العمالية، استقر ماركس أخيرا مع زوجته وأبنائه في لندن. هذه المدينة التي عانى فيها من فقر مدقع، رغم عمله القار كصحافي والمساعدة المالية التي كان يتلقاها من إنجلز. وعلى إثر مرضه المزمن، ومضاعفة العلاجات، مات كارل ماركس عن عمر لم بتعد 64 عاما.
اكتسى عمل ماركس طابعا فلسفيا واقتصاديا وسياسيا في آن واحد. في البداية، كان قريبا من الدوائر الهيغلية اليسارية، لكنه أدرك أن الفلاسفة، بعد هيجل، ارتكبوا خطأ التفكير في الإنسان كفكرة وليس ككائن ملموس. يجب استبدال المثالية بالمادية. ومن بين المثاليين، هاجم ماركس بشكل خاص فويرباخ، الذي كان يشاركه في التخلي عن الدين. ولكنه رأى انه يجب توجيه النقد للدين نفسه عوض الله، لأن الأول ينوم الضمائر ويجعل الناس يحلمون بالجنة. من هنا قولته الشهيرة: "الدين أفيون الشعوب".
في البيان الشيوعي (1848)، قال إن محرك للتاريخ هو الصراع الطبقي من أجل حيازة وسائل الإنتاج التي تضمن القوة وتؤدي إلى استغلال الإنسان للإنسان. كان مقتنعا بأنه إذا تمكنت الطبقة البروليتارية من تحقيق الوحدة، فسوف تطيح بالطبقة البرجوازية من خلال الثورة. لكن لأجل تحقيق هذا الهدف، يجب تزويد البروليتاريين بالوعي الطبقي، لأن العمال لا يدركون قوتهم الثورية المحتملة.
على الصعيد الاقتصادي، أوضح ماركس في كتابه "رأس المال" أن نمط الإنتاج الرأسمالي يعتمد على انحراف التقدم التقني: فبدلاً من تخفيف مهمة العمال، تعمل الآلات على تمديد مدة العمل اليومي لتوليد المزيد من الأرباح. وهكذا يصبح العامل مستتغلا (بفتح الغين) ومغتربا. وعلى المستوى السياسي، تولى ماركس رئاسة الأممية العمالية، وباسم "الاشتراكية العلمية"، استبعد الفوضويين. وانطلاقا من دراسته للحرب الأهلية في فرنسا عام 1870، اعتقد أن الطبقة العاملة لا يمكن أن تكتفي بجعل الدولة تعمل لمصلحتها الخاصة، بل يجب عليها تحويلها. يجب على "ديكتاتورية البروليتاريا"، الدولة الاشتراكية، أن تفسح المجال لمجتمع شيوعي، مجتمع لا طبقي، مسالم وسعيد..

مقدمة
"إن احترام الحشود الوثني للتقاليد هو احترام مطلق، ورعبهم اللاواعي من كل المستجدات القادرة على تغيير ظروف وجودهم الحقيقية، عميق للغاية."
الحشود هي مزيج من الأفراد، الذين ينتمون جميعًا إلى مجموعات متعارضة مختلفة. ومع ذلك، إذا كان الحشد مرتبطًا في المقام الأول بمجموعة يمكن تحديدها، فإن قيم تلك المجموعة سوف تملي تصرفات الحشد. كما تشير الحشود إلى مجموعة غير منظمة تتكون من عدد كبير من الأشخاص الموجودين جسديًا في وقت واحد. يمكن أيضًا أن تلعب العواطف، مثل الخوف والغضب والنشوة، دورًا مهمًا في ديناميكيات المجموعة وتؤثر على سلوك أفراد الحشد. ويرتبط علم نفس الحشود أيضًا بفهم السلوك عبر الإنترنت، وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي. فمتى ظهرت سيكولوجيا الحشود؟ وماهي تحولاتها النظرية؟

ولادة سيكولوجيا الحشود

نحن في نهاية القرن التاسع عشر، كان المؤلف شاهدا على حقبة فوضوية وغير مؤكدة، وهي فترة انتقالية، تميزت من ناحية بانهيار الركائز الدينية والأخلاقية التي قامت عليها الهياكل السياسية والاجتماعية الأوروبية. وعلى الجانب الآخر بظهور ظروف معيشية وأفكار جديدة تمنح الجماهير الطبقات السياسية والنقابات والجمعيات المهنية وغيرها سلطة شبه مطلقة كانت في السابق للملوك والأمراء ورجال الدين المبادرين السابقين والحركات والتغيرات فإن هذا الخط من القطيعة الوحشية بين العالم القديم المدمر والعالم الجديد في مرحلة الحضانة يكشف لنا أن تغييرا جذريا قد حدث في روح الشعب، في الأساس الوراثي للمعتقدات والأفكار. لقد حدث هذا الانقلاب التاريخي في حمامات الدم والدموع وأفظع الانتهاكات التي ارتكبتها حشود بربرية جامحة تظهر، حسب إثارة اللحظة، أعمالاً إجرامية بغيضة، ولكنها أيضاً تحمل سمات أخلاقية فاضلة. لذلك كان من الأهمية العملية، من وجهة نظر غوستاف لوبون، تحليل الآليات النفسية والفكرية التي تكمن وراء ديناميكية الحشود، من خلال العمليات العلمية الأكثر صرامة، وبالتالي وضع حجر الزاوية في نظام جديد للمعرفة قادر على تسليط الضوء على عدد كبير من الظواهر التاريخية والاقتصادية التي ظلت حتى ذلك الحين غير مفهومة تمامًا. لقد أتي كناب سيكولوجية الحشود من عملية التصنيع في القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية، ولكن بشكل خاص في فرنسا. وأدت هذه العملية إلى انهيار الروابط الاجتماعية التقليدية. تم إنشاء مجتمع جماهيري، حيث لم تعد الطبقات العاملة، المنفصلة جغرافيا، مرئية للسلطات. كان الخوف الأكبر في ذلك العصر هو أن تبدأ هذه الجماهير في عدم الإيمان بالنظام الاجتماعي القائم، أو حتى مهاجمته. ولكن إذا كانت الجماهير تمثل خطرا محتملا، فإن الحشود والجماهير في العمل تشكل خطرا حقيقيا للغاية. وهكذا تركز خوف الجماهير في العداء للجماهير. ومن بين المنظرين الأوائل، غوستاف لوبون، الذي كتب اسمه في التاريخ أكثر من كل الآخرين. يُعد عمله الذي صدر عام 1895 بعنوان "علم نفس الحشود" الكتاب الأكثر تأثيرًا في تاريخ علم النفس الاجتماعي. ويجادل بأن الأفراد في المجموعات غالبًا ما يتصرفون بشكل مختلف عما يتصرفون في عزلة. ومع ذلك، ووفقا له، فإن نهاية النظام القديم أحدثت تغييرا جذريا في روح الناس وأدخلت المجتمعات إلى "عصر الحشود". يطور العمل فكرة أن الحشود لا تتصرف بعقلانية، بل تسترشد أكثر بالعواطف والدوافع غير العقلانية.  يشرح لوبون سلوك الجمهور بناءً على ثلاث عمليات مرتبطة:

مقدمة
"إن إنشاء الذكاء الاصطناعي سيكون أعظم حدث في تاريخ البشرية. ولكن يمكن أن يكون أيضًا الحدث النهائي." 
الثورة الصناعية الثالثة، أي ظهور الإلكترونيات والاتصالات وأجهزة الكمبيوتر: تُعرف عادةً بالثورة الرقمية. استمرت الثورة الصناعية طوال الثمانينيات والتي حولت التكنولوجيا الميكانيكية والإلكترونية التناظرية إلى التكنولوجيا الرقمية. على غرار الثورة الزراعية والثورة الصناعية، كانت الثورة الرقمية بمثابة بداية عصر المعلومات المعروف أيضًا باسم عصر الكمبيوتر أو العصر الرقمي أو عصر الوسائط الجديدة. تشتمل هذه الثورة الرقمية على الإنتاج الضخم والاستخدام المكثف للدوائر المنطقية الرقمية كدوائر منطقية رقمية. وكذلك مشتقاته مثل الكمبيوتر والهاتف الخلوي الرقمي وأجهزة الفاكس. إن الاهتمامات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبيرة التي أحدثتها تسلط الضوء على طبيعتها الشبيهة بالثورة. تتضمن التحسينات المتقدمة طوال الثورة التلفزيون الرقمي، والديمقراطية الرقمية، والألعاب، والهواتف المحمولة، وشبكة الويب العالمية، والشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت، والمجتمعات الافتراضية، والموسيقى والوسائط المتعددة، والفجوة الرقمية وغيرها. إن التحول من التكنولوجيا الإلكترونية الميكانيكية والتناظرية إلى الإلكترونيات الرقمية كوسيلة لتخزين ونقل واستخدام المعلومات يعتبر نقطة انطلاق لما نشير إليه بالثورة الرقمية. بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين مع اعتماد وانتشار أجهزة الكمبيوتر الرقمية والتخزين الرقمي للمعلومات، مما أدى بدوره إلى تطوير أنظمة كمبيوتر أكثر تقدمًا قادرة على النسخ الرقمي والتشغيل الآلي للحسابات الرياضية التي تم إجراؤها يدويًا سابقًا. إنها تطوير التكنولوجيا من الميكانيكية والتناظرية إلى الرقمية. خلال هذا الوقت، أصبحت أجهزة الكمبيوتر الرقمية وحفظ السجلات الرقمية هي القاعدة. كما أدى إدخال التكنولوجيا الرقمية إلى تغيير طريقة تواصل البشر، الآن عبر أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة والإنترنت. وقادت هذه الثورة الطريق إلى عصر المعلومات والمعلوماتية. فما هي الثورة الرقمية؟ ولماذا أصبحت ثورة؟

تقديم:
كان كارل بوبر مهتما بالتمييز (ترسيم الحدود) بين العلم وأشباه العلوم . تلك مسألة مهمة وما زالت ذات راهنية. بالفعل، من الواضح أن المصداقية التي تُعطى للمعرفة الناتجة عن المنهج العلمي وتلك الناتجة عن المنهج التأملي ليست هي نفسها. من أجل الإلمام بهذا الموضوع، اقترح ترجمة مقال باتريك جوينيي Patrick Juignet.
1- أصل تمشي بوبر
خلال إحدى الندوات، أشار بوبر إلى أصل تمشيه، مذكرا أنه في بداية القرن العشرين، عندما كان طالبا، رأى ظهور وفرة من "النظريات الجديدة، غير المكتملة في كثير من الأحيان" (بحث غير مكتمل، ص: 60). في ذلك الوقت، كان مهتما في نفس الوقت بنسبية أينشتاين، والتحليل النفسي الفرويدي، وعلم النفس الأدلري، والماركسية. وكانت هذه النظريات موضع نقاش حاد بين الطلاب. شعر كارل بوبر بعد ذلك بأن المذاهب الثلاثة الأخيرة “على الرغم من ادعائها العلمية، شاركت في الأساطير القديمة أكثر من العلوم” (بحث غير مكتمل، ص: 61).
بدت نظرية ألبرت أينشتاين مختلفة بالنسبة إليه. وأشار إلى أنه، وفقا لأينشتاين نفسه، لن يكون من الممكن الدفاع عن نظريته إذا فشلت في اجتياز اختبارات معينة. أعلن أينشتاين أنه “إذا لم يكن هناك انزياح أحمر للخطوط الطيفية بسبب إمكانات الجاذبية، فلن يكون من الممكن الدفاع عن النظرية النسبية العامة” (أينشتاين ألبرت، 1917، نقلا عن بوبر وترجمته، بحث غير مكتمل، ص: 49). وفقا لبوبر، فإن موقف النقد الذاتي هذا الذي يعترف بأننا نستطيع إبطال نظرية ما يعد سمة من سمات العلم.
في هذا الصدد، قال بوبر: "هكذا توصلت إلى نتيجة في نهاية عام 1919 مفادها أن الموقف العلمي هو الموقف النقدي. لم تكن تبحث عن إثباتات، بل عن تجارب حاسمة” ( نفس المرجع، ص: 49).
يتعلق الحدس الثاني لكارل بوبر بالاستقراء. لقد توصل إلى فكرة أن الكثير من المعرفة لا يتم عن طريق الاستقراء، بل عن طريق الاستنباط. ومن هذا المنظور، تناول انتقادات ديفيد هيوم الذي أظهر أن الاستقراء يكون في بعض الأحيان باطلاً، وأنه في جميع الأحوال لا يمكن التحقق منه بطريقة كونية (لأنه سيكون من الضروري معرفة كل الوقائع حتى نهاية الزمن). قام بوبر بتوسيع المشكلة وتطبيق الاستدلال على المعرفة العلمية؛ فهو، على حد تعبيره، "أعاد صياغتها بطريقة موضوعية" (نفس المرجع، ص: 115) من خلال تطبيقها على العلاقة بين النظرية والملفوظات التي تصف الوقائع المرصودة في إطار العلوم التجريبية.
وخلص من ذلك إلى أن العلم، على عكس الأفكار المتلقاة منذ بيكون، لا يتميز بتمش استقرائي، بل استنباطي. إن تصور النظريات المجردة سابق ومستقل عن الوقائع الناتجة عن الملاحظات والتجارب. وهكذا عارض دائرة فيينا التي أكدت أن الاستقراء يجعل من الممكن إيجاد قوانين علمية. إن إعادة صياغته للعلم كعملية استنباطية وفرت أساسا منطقيا لمعيار التفنيد من خلال التجربة.
على أساس هذين المبدأين، خلص إلى أن التحقق في العلم غير كاف. إن ملاحظة عدد معين من الوقائع التي تدعم نظرية ما لا تؤكدها بشكل يقيني وكوني. وهذا يترك الباب مفتوحا للتهاون، لأننا نجد دائما عددا معينا من الوقائع التي تؤكد نظرية ما، حتى لو كانت خيالية. التحقق التجريبي المباشر لا يكفي لتأكيد صحة وعلمية المعرفة.

4- التجربة، الموضوعية واشتغال مفهوم
إذا كان من الممكن تصور التاريخ الإبستيمولوجي عند كانغيلام باعتباره تفكيرا في مصير العقل وتشعباته انطلاقا من تاريخ العلوم، فإن هذه المقاربة لا تعني على الإطلاق النسبية والعدمية، كما تشير القراءات التي تدين التاريخية والجهوية للتاريخ الإبستيمولوجي. على العكس من ذلك، فبدلاً من إفراغ العقلانية من قيمتها التفسيرية والمعيارية، فإن الأمر يتعلق بفهم ولادة وتكوين هذه العقلانية نفسها انطلاقا من آخرها، انطلاقا من عدم التمييز بين العقل واللاعقل، كما يؤكد فوكو خلال قراءة استرجاعية. من حياته المهنية وخاصة من دروس معلمه كانغيلام:
"[فيما يتعلق] بتحليلات تاريخ العلوم، فإن كل هذه الأشكلة في تاريخ العلوم (التي هي بلا شك متجذرة في الفينومينولوجيا، التي اتبعت في فرنسا، من خلال كافييس، ومن خلال باشلار، ومن خلال جورج كانغيلام، تاريخا آخر بأكمله)، يبدو لي أن المشكلة التاريخي لتاريخية العلوم لا تخلو من بعض العلاقات والتشبيهات، دون أن تكون إلى حد ما صدى لمشكلة تكوين المعنى: كيف تولد هذه العقلانية، كيف تتشكل، انطلاقا من شيء ما مختلف تماما؟"
يرجع فوكو السؤال: “كيف نفكر في تشكيل العقلانية من غير العقلاني؟”، إلى سؤال أوسع بكثير، طرحته الفينومينولوجيا في فترة ما قبل الحرب والذي أصبح أيضا السؤال المركزي للبنيوية، ولكن يمكننا أن نعتبره بشكل أكثر عمومية علامة الفكر الفرنسي في القرن العشرين: "كيف يكون هناك معنى من اللامعنى؟ كيف يأتي المعنى؟" في مقدمة شهيرة للطبعة الإنجليزية من عمل كانغيليم الرئيسي «الطبيعي والمرضي» ، رسم فوكو خطا فاصلا بين الإجابات التي تم تقديمها في فرنسا على هذا السؤال: من ناحية، «فلسفة الخبرة، المعنى، والذات» (سارتر وميرلو بونتي)، من ناحية أخرى، «فلسفة المعرفة، العقلانية والمفهوم» (كافييس، باشلار، كويري، كانغيلام).
لم يبين فوكو فقط أن هوسرل قد قُرئ في السياق الفرنسي انطلاقا من هذين الخطين الفكريين "المتباينين" والمتعارضين سابقا، لكنه عندما أعاد صياغة هذا النص، بعد ست سنوات، عاد بنفس المعارضة إلى انفصال أقدم بين "بيرجسون وبوانكاريه، لاشيلييه وكوتيرا، مين دي بيران وكومت". ومع ذلك، يمكننا القول، بالتبسيط، إن هذا التعارض قد استمر بين الحيوية والوضعية، بين اللاعقلانية والعقلانية، أو بكل بساطة، حسب وجهة نظرنا المحددة، بين المقاربتين الرئيسيتين لتحليل المفاهيم الموجودة منذ ديكارت والتي تتمثل في دراسة المفهوم من ناحية حسب علاقته بالذات، كشكل من أشكال العقل الذي يدرك الأشياء، ومن ناحية أخرى وفقا لوظيفته التمثيلية، وبالتالي علاقته بالأشياء. ومع ذلك، كما أشار آلان باديو، فإن هذا التعارض بين فلسفة المفهوم وفلسفة الوعي ليس في الواقع واضحا أو محددا. إن تبسيط المشاركة الفوكوية لا يسمح لنا بأن نضع، مثلا، مفكرين مثل دولوز، وهو حيوي ولكنه عدو لكل فلسفة الوعي، أو دريدا، المفتون بمشكلة المثل الرياضية عند هوسرل وبالفكر البنيوي، ولكن في نفس الوقت ناقد عنيد للعقلانية والمفاهيمية.

لكن هذه الصعوبة تنطبق بشكل خاص على كانغيلام الذي، رغم تأكيده على التعارض بين سارتر وكافييس، وبينما كان ينتمي إلى لإطار الباشلاري للبحث الفلسفي حول المفهوم والعقلانية، فقد امضم مع ذلك إلى التيار الحيوي، من خلال إعلانه بين الأربعينيات والخمسينيات (من القرن الماضي) عن وجود استمرارية بين فلسفته البيولوجية والبرغسونية، مع دعم "مقاومة الماركسية والوجودية لتشييء الحياة ووسمها بميسم الرياضيات". والأكثر من ذلك، فإن معارضة فلسفة كانغيلام لفلسفة الذات هي التي تطرح مشكلة. لأنه إذا كان التاريخ الإبستيمولوجي يشكك في الدور التقليدي للذات المعرفة ويمحو صورة الذاتية الإبداعية لصالح تحليل الشبكات المفاهيمية، فيمكننا أن نتذكر أن كانغيلام يعتبر، من وجهة نظر فلسفته في الطب، بمثابة منظّر عدم إمكانية اختزال التجربة الذاتية للمريض في مواجهة تشييئ المعرفة الطبية. إن المبدأ الأساسي لعمل كانغيلام الأساسي، "الطبيعي والمرضي"، هو في الواقع الأولوية التي يجب أن تعطيها فلسفة الطب الجديدة للتجربة الحياتية للمريض في ما يتعلق بخطاب الطبيب اللاإنساني والمطبع، وذلك لتفادي تذويب التفرد المرضي في تباين كمي طبيعي.

تمهيد
من المعلوم أن التقدم سنة الحياة وان العقل البشري يسعى بكل جهوده الى المساهمة في التقدم بالإنسان ومن البديهي ايضا ان يتمسك كل البشر بحقهم الوجودي في التقدم من اجل الرقي والازدهار ولكن توجد عدة عراقيل خارجة عنهم تمنعهم من ذلك وتظهر عدة موانع قاهرة تحول بينهم وهذه الفضيلة الحضارية. فإذا كان التقدم المادي للغرب مجرد همجية جديدة ووهم حضاري بالنظر الى الفشل الذريع التي منيت به الرأسمالية وتحولها إلى ظاهرة امبريالية استعمارية للإنسان والطبيعة والحياة وسقوط اقنعة العولمة وتكذيب وعودها الجوفاء فإن مبدأ التقدم الروحي الذي تمسكت به الحكمة المشرقية يظهر كبديل واقعي له. لماذا تم اعتبار التقدم الغربي مجرد اسطورة؟ وكيف يمكن المراهنة على الطابع الروحي للتقدم الانساني؟

أسطورة التقدم المادي
"إن الخطوة الجماعية للنوع البشري تسمى التقدم. قال فيكتور هوغو: "ان التقدم يشتغل".
لقد كانت أسطورة التقدم مشتركة بين الجميع قبل بضعة عقود. أتذكر، في الستينيات، كان ذلك عصر طائرة الكونكورد الأسرع من الصوت، وأول تلفزيون ملون، والترانزستور، وأول أجهزة الكمبيوتر، واكتشاف خصائص الحمض النووي على يد جاك مونو وفرانسوا جاكوب وأندريه لوف (جميعهم ثلاثة فائزين بجائزة نوبل في الطب عام 1965)، وأول عملية زرع قلب أجراها كريستيان بارنار عام 1967 في جنوب أفريقيا، وأول خطوة للإنسان على القمر عام 1969، وما إلى ذلك. كان الإيمان بالتقدم عامًا، وكان مشتركًا في الاعتقاد بأن زيادة المعرفة يجب أن تساهم بطبيعة الحال في التقدم الأخلاقي للبشرية. ومن المؤكد أنه في نفس السنوات، جاء الهيبيون أولاً، ثم حركات 68 مايو، لزعزعة هذه الأفكار الراسخة لبعض الوقت. لكن هذه السنوات نفسها شهدت تطور الزراعة المكثفة، وخصخصة البذور، والاستخدام المكثف للأسمدة مثل النترات والفوسفاط، وما إلى ذلك والمبيدات الحشرية، وما إلى ذلك، دون أي ضمير.هل علمنا أن هذا يعني بداية تدمير التنوع البيولوجي؟ تعريض الظروف المعيشية على الأرض للخطر؟ وكان الاعتقاد في التقدم. . العودة بالزمن إلى نهاية القرن الثامن عشر. تراودني فكرة خاصة حول كوندورسيه، عالم رياضيات، فيلسوف، سياسي، آخر ممثلي حركة التنوير، وهنا أيضًا دوّن ملاحظات، محمولاً بإيمانه الثابت بالإنسان، رسمًا لصورة تاريخية لتقدم الروح الإنسانية:" من بين أهم التطورات في الروح الإنسانية لتحقيق السعادة العامة، يجب أن نعد التدمير الكامل للتحيزات، التي أنشأت بين الجنسين عدم مساواة في الحقوق قاتلة للشخص نفسه الذي يفضله بأسباب واهية لتبريره الاختلافات في تنظيمهم الجسدي، والتي يود المرء أن يجدها في قوة ذكائهم، وفي حساسيتهم الأخلاقية، لم يكن لها أصل آخر سوى إساءة استخدام القوة، وقد حاولنا عبثًا منذ ذلك الحين ثم نعذره بالمغالطات".

الأستاذ مراد غريبي:

 ما هو رأيك في اهم بوادر الاهتمامات الفلسفية بنشوء الاديان، وانت تناولت أفكار فيورباخ حول هذا الموضوع، نود تلخيصها لنا. وهل لا زالت الاسبقية الراجحة في الايمان الديني للفلسفة أم للاهوت؟ وهل كان للطبيعة دور ديني قامت به؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

بداية أود التنبيه هنا الى أن افكار فيورباخ في كتابه أصل الدين هي قراءة فلسفية تعتمد الطبيعة والذات في منهج تصوفي تأملي، وما هو مستجد حديثا ظهور علم متخصص في نشأة وتطور الاديان يدعى (علم الأديان) وهو علم:

1.لا يأخذ باجتهادات التفلسف في نشأة الاديان،

2.لا يأخذ بمدونات اللاهوت الذي لا تسعف ادعاءاته اكتشافات آثارية واركيولوجيا التاريخ،

ولا يأخذ حتى بالمعجزات الدينية.

 لكن مع هذا تبقى آراء فيورباخ الفلسفية حول نشوء الاديان تمتلك من الاثارة الفلسفية الشيء الكثير الذي لا يتوفر عليه علم الاديان باعتباره علما لا يقوم على نظريات تجريدية غير تجريبية ولا على فلسفات أو تنظيرات غير مدعمة باسنادات اركيولوجية وتنقيبات حفرية. الفلسفة تقول ما تعجز عنه بقية الاجناس الفكرية قوله أو التعبير عنه لكنها ليست علما طبيعيا خاضعا للتجربة.. الفلسفة ام العلوم لكنها ليست علما.                    

الأستاذ مراد غريبي:

إذن ماذا عن الطبيعة ونزعة التدّين البدائي؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

يقول أحد الفلاسفة المعاصرين في معرض حديثه عن تعالق الدين واللغة عند الفيلسوف بروديكوس (ان الانسان البدائي والذي بدا له أن كثيرا من الظواهر الطبيعية معادية له، ومع ذلك كان معجبا جدا بالهبات التي تزوده بها الطبيعة لتسهيل حياته ورفاهيته)، وفي تعبير ظريف ليوربيدوس قوله: أنه يتوجب على الارض أن تثمر شيئا لإطعام قطيعي سواء اكانت الطبيعة راضية أن تفعل ذلك أم لا. كانت ولازالت الى يومنا هذا الأم المرضعة لبقاء النوع البشري من الانقراض. هذه الطبيعة المادية في مجموع تكويناتها وتنوعاتها الارضية، لم تكن طبيعة جامدة (روحيا) بمعنى الثبات والسكون الفيزيقي الذي يعدم تساؤلات ما وراءها، تساؤلات الانسان الكائن النوعي في ذكائه المتفرد به عن باقي المخلوقات والكائنات، (عقليا - روحيا) خياليا تأمليا ميتافيزيقيا في ما وراء ظواهر الطبيعة المادية. كان هو الهاجس الذي لازم الانسان طيلة مساره الانثروبولوجي.