تقديم:
لقد درج الباحثون في معالجتهم لإشكالية العقل والنقل، على مقاربتها من زوايا نظر إيديولوجية ضيقة، لا تسعف في الوقوف على جوهر المشكلة، فإما من ينتصر للعقل ويضيق النقاش في الجدل حول أسسه و مبادئه، وإما من ينتصر للنقل فيحتج على الأول بما يدعيه من مشروعية وقداسة لنصوصه بدعوى امتلاكها للحقيقة.
لكننا في هذا القول، سنحاول مقاربة المشكلة من زواية نظر مخالفة، تروم أساسا النظر إلى إشكالية العقل والنقل، الفلسفة والشريعة، إلى كونها في الجوهر مشكلة صراع بين العقل و الخيال بين ماهو معقول وماهو متخيل بين الحقيقة و المجاز، بين الخاصة والجمهور، كل ذلك من خلال نصوص فلسفية للفارابي وابن باجه وابن رشد أخذناها من تواليف مختلفة وأسسنا بها تصورنا للموضوع.

" إذا كان للأسف صحيحا أن السياسة ليست شيئا آخر سوى ألم ضروري للمحافظة على الإنسانية، فإن هذه قد بدأت فعلا في الاختفاء من العالم"1
لقد لمع العديد الفلاسفة في مجال الفكر السياسي ويمكن أن نذكر من الحقبة الإغريقية أفلاطون في محاورتي الجمهورية والسياسي،  وأرسطو في كتاب السياسة ورسالة الأخلاق إلى نيقوماخوس والفترة الحديثة نيكولا ماكيافيلي في كتاب الأمير، وسبينوزا في رسالة السياسة والمقالة السياسية التيولوجية،  وتوماس هوبز في اللويثيان وجون جاك روسو في العقد الاجتماعي والمفكر ألان في كلام حول السلطات، وكذلك عمونيال كانط في مشروع السلم الدائم وهيجل في كتابي مبادئ فلسفة الحق والعقل في التاريخ.

أي واقع نعيش فيه اليوم ، لقد أصبحنا حائرين بين عوالم عديدة يصعب الفصل بينها ، بين العالم الداخلي للإنسان، و عوالمه الخارجية المركبة و المعقدة ، وهذا التركيب و التعقيد راجع أساسا إلى اللعبة المتوحشة التي يمارسها الجنس البشري لعقود .
  إن أي محاولة لفهم ما يقع ألان من تبعثر و فوضى  في عالمنا الخارجي ، لا يمكن ان يفسر من وجهة نظرنا المتواضعة ، إلا من خلال مجهودات العقل البشري للسيطرة على كل جوانب الحياة من حولنا .
هنا سنطرح السؤال التالي : ما غاية الإنسان من التقنية ؟ هل من أجل  الفهم والسيطرة على الطبيعة ؟ أم أن غايته منها هي السيطرة على الإنسان نفسه و توحيد سلوكه و أنماط عيشه ؟
لقد كان الهاجس الكبير الذي سيطر على المجتمع الغربي في العصور الحديثة هو السيطرة على الطبيعة في مختلف جوانبها، و تسخير خيراتها و مواردها في يد الإنسان، بعد أن كانت مصدر الرعب الذي يهدد وجوده .

الفلسفة تعرية والصحافة تغطية، الأولى تعري الواقع محاوِلة الكشف عما يخفيه، وعاملة على إماطة اللثام على ما يمكن أن نعتقد فيه أبدا، بينما الثانية تصور لنا الواقع كما هو دون زيادة أو نقصان، الأولى تعري الواقع عن طريق تأويله، فتقول إن الانسان هو مقياس كل شيء، وإن كل قيمة أو حقيقة يؤمن بها هذا الكائن إنما منبعها ما تقدمه له من نفع لا غير. فتعدو كل حقيقة قيمة مؤقتة ليس لها من الإطلاق شيء. أما الثانية فإنها تنقل لك الواقع كما يحدث، جاعلة منه حقيقة ثابتة لا تقبل الشك بتاتا، ثم تخبرك ضمنيا أنها تلتزم الحياد تجاه ذلك، بل إنها تعتبره من أخلاقياتها القبلية.

        لكن وعلى النقيض من ذلك، قد تلتقي الفلسفة والصحافة في شيء مهم، ألا وهو السؤال؟ تخيلوا معي فلسفة دون روح التساؤل، وتخيلوا معي أيضا صحافة دون أسئلتها، بيد أن بين هذا التشابه اللفظي اختلاف يكاد يصل حد التضاد، والذي يكمن أساسا في طبيعة السؤال المتعلق بهما معا، لذا قد نتساءل عما هي حدود العلاقة بين السؤال الفلسفي والصحفي؟ وهل يمكن أن يكون هذا الأخير فلسفيا حينما يبحث عن حقيقة ما ـ هذا إذا كانت توجد حقيقة ـ أم أن غرضه يكاد لا يتجاوز الإخبار فقط؟

طه عبد الرحمن

لعل الصيغة التي جاء بها عنوان هذا المقال تختزل مساره المنهجي حيث ستكون البداية بالحديث عن انصراف الدكتور طه عبد الرحمن عن فيلسوف قرطبة ليليه بيان انتصاره لمن يوصف بأنه "حجة الإسلام". وقبل الشروع في تفعيل هذه الخطاطة المنهجية، يجدر بنا الإشارة إلى النص المرجعي المعتمد في هذه المحاولة البحثية. يتعلق الأمر بواحد من "حوارات من أجل المستقبل" المضمومة في كتيب صادر سنة 1999 عن "منشورات الزمن". في التقديم الذي يتصدر هذه الحوارات، يشير طه عبد الرحمن إلى أنها أجريت في بادئ الأمر مع ثلاث صحف مغربية هي "العلم" و"الاتحاد الاشتراكي" و"الأحداث المغربية"، ومع ثلاث جرائد عربية وهي "القدس" و"المستقلة" و"الشعب"، بالإضافة إلى القناتين التلفزيتين: الأولى والدوزيم.

لدينا ثماني حوارات وثمانية منابر؛ بمعنى أن محاورنا خص كل منبر إعلامي بحوار واحد من هذه الحوارات. وإذا افترضنا أن الفيلسوف طه أتي في تقديمه على ذكر وسائل الإعلام التي تعامل بها وفق الترتيب الذي اتخذته حواراته في كتيبه، جاز لنا أن نستنتج أن الحوار الذي يهمنا هنا وهو بعنوان "رشديات" كان من نصيب جريدة "المستقلة"، علما بأنه لم تتم الإحالة، في بداية كل حوار أو في آخره، إلى المؤسسة الإعلامية التي نشرته أو أذاعته.

" الفلسفة هي النظر في مواضيع ما تزال المعرفة الدقيقة بها غير ممكنة"
- راسل برتراند – الفلسفة وقضيا الحياة-
مازالت الفلسفة المعاصرة في طور التشكل والنشأة والظهور دون أن تصل إلى درجة واضحة من التكوين والتطور والاكتمال. ومازال تاريخها لم يكتب بعد وذلك لأن المؤرخ يشتغل على أشياء تمت وصارت في عداد الأموات، بينما يشتغل الفيلسوف على التجارب الحية ويخوض في مسألة ينابيع الحياة ومصادر الذكاء والمشاكل المعرفية ويحاول صياغة الأسئلة الأساسية للراهن.  لكن ما المقصود بالفلسفة المعاصرة؟ وأين تختلف عن الفلسفة الحديثة والوسيطة ؟ وهل تخلصت نهائيا من الميتافيزيقا؟ وماهي مناحيها النقدية؟
تبحث الفلسفة المعاصرة في مشكل الوجود بصورة عامة والوجود الإنساني بالخصوص وفق مقاربات فنومينولوجية وتكشف عن أزمة العقل عند بحثه عن ميتافيزيقا العلاقة وتتبنى رؤية مفتوحة عبر الوعي والقصدية والبيذاتية وتعمل على توفير الإمكانية الملموسة للدروب الفكرية المؤدية نحو الحياة الحقيقية.

حنة أرندت

ما فتئ الناظر في الأوضاع العالمية إلا ويرصد جملة من مظاهر العنف في الحياة الاجتماعية والسياسية، هذه الظاهر التي لازمت الحضور الإنساني طيلة سيرورته التاريخية، سواء تعلق الأمر بالحقل الديني أو الثقافي أو السياسي، هذا ما جعله محطة تفكير عميق، وفي تناول مجموعة من العلوم الاجتماعية والإنسانية. 
اختلفت المقاربات الفكرية والمعرفية في تحليل هذه الظاهر الأنتربولوجية في الإنسان، بين القبول والرفض، بين الطبيعي أو الثقافي، بين الموجه والغير موجه. راصدة تارة أسبابها المباشرة وغير المباشرة وتارة أخرى مظاهرها و تجلياتها.

حاولت المفكرة الألمانية حَنّة أَرندَت المتخصصة في الفلسفة السياسية من موقعها، أن تواجه هذه الظاهرة المتفشية من وجهة نظر خاصة بها، حيث عملت على تقديم جملة من الأسئلة الجريئة حول الموضوع وجعله تحت مجهر تحليلي ونقدي. إذ تم تناول هذه الأفكار في عمل فكري وسمته بـ "في العنف"[1]. تتساءل في بدايته عن هذه الدينامية العالمية حول العنف، حيت تقول : كيف يمكننا أن ننتزع أنفسنا من عبثية فكرة العنف المتجسدة في انتشار الرغبة في التسلح وتطور تقنيات وآليات العنف؟

يعتبر الإنسان أسمى الكائنات، كونه يتسم بملكة العقل والتفكير وهو الوحيد الذي يجسد تفكيره في ممارساته اليومية بطريقة واعية ومنظمة ، غير أن تطور التفكير البشري مر بعدة مراحل حيث إن كل مرحلة تحمل في أحشائها بذور فنائها الشيء الذي جعل الفكر البشري دائم التقدم والارتقاء باعتباره قائما على مبدأ هدم القديم وبناء الجديد، من هنا يمكن أن نطرح الإشكال التالي ما الذي يعني لنا أن نفكر بأنفسنا ؟هذا الإشكال تتفرع عنه جملة من الأسئلة من قبل  ما هو التفكير ؟ ما هي أنواعه ؟ وما هي أساليبه؟ ماهي موضوعات التفكير  ؟ هل يمكن الحديث عن عوائق التفكير في الذات ؟ كيف تمكن الفلاسفة من الانتصار للتفكير العقلاني ؟  .

  إن التفكير في أعم تعريفه يعني جملة من العمليات العقلية التي يقوم بها الكائن البشري لحل المعيقات و المشاكل  التي تعترض سبيله .يذهب لالاند في موسوعته الى تعريف التفكير " بنحو عادي أكثر يقال على كل الظواهر المعرفية (في مقابل المشاعر و المشيئات ) عندئذ يكون الفكر مرادفا للعقل وللعاقلة .[1]" كما يذهب جميل صليبا "أفكر في الأمر تفكيرا أي أعمل العقل فيه ، أو رتب بعض ما يعلم ليصل إلى المجهول . وفكر في المشكلة أعمل الراوية فيها ليصل إلى حلها . والتفكير عند معظم الفلاسفة عمل عقلي عام ، يشمل التصور ، والتذكر ،والتخيل والحكم والتأمل ، ويطلق على كل نشاط عقلي" .[2]

قبل الدخول في صميم الموضوع المختصر في العنوان أعلاه، يجدر بي أولا التعريف ببرتراند راسل.
هو فيلسوف وعالم منطق وشخصية عامة بريطانية، ولد عام 1872 ومات سنة 1970. درس الرياضيات والفلسفة في جامعة كيمبريدج وتخرج فيها العام 1894، ودرس فيها كما حاضر في عدد من الجامعات. عرف عنه إسهامه الكبير في تطوير المنطق الرياضي الحديث، وحاول مع الفيلسوف وايتهد أن يستكملا الأساس المنطقي للرياضات من خلال كتابهما المشترك “أسس الرياضيات” (Principia Mathematica).
فضلا عن ذلك، ألف راسل عددا كبيرا من الأعمال الفلسفية عن مشكلات العلم الطبيعي، وكان غزير الإنتاج فكتب في الأخلاق والسياسة والتربية وغيرها. وقد ترجم بعض من كتبه إلى لغة الضاد، منها “تاريخ الفلسفة الغربية” و”حكمة الغرب” الذي أعتمد عليه بالأساس في كتابة هذا المقال، بالإضافة إلى سيرته الذاتية و”مبادئ الرياضيات” وغيرها. نال جائزة نوبل للآداب في العام 1950. هذا، وقد اشتهر بمواقفه الداعية إلى السلام ونزع السلاح وتدمير الأسلحة النووية، لأجل ذلك سجن مرتين.

" نحن نعيش في عالم نائم علينا أن نوقظه بالحوار مع الآخرين. وما إيقاظ العالم سوى شجاعة الوجود في أن نوجد ونعمل ونبحث ونخترع ونبدع ونخلق"
غاستون باشلار، شاعرية أحلام اليقظة.
تطرح المعرفة العلمية الكثير من القضايا والانشغالات من جهة المناهج والمفاهيم والقيم التي تبشر بها وتنتج هذه الاشكاليات من خلال احتكاكها بأنماط المعرفة الأخرى سواء المنتشرة في المجتمع أو في  دوائر الثقافة والدين والسياسة وتتنزل ضمن إطار تاريخ الأفكار والتجارب الصناعية والأدوات التقنية. فماهي طبيعة العقلانية العلمية؟ وما الفرق بين التناول الابستيمولوجي والتناول الفلسفي للمعرفة الواقعية؟ وكيف وضع غاستون باشلار الخطوط العريضة للابستيمولوجيا؟ وما المقصود بالفلسفة الصامتة عند دسانتي؟ وأين يمكن تنزيلها ضمن النشاط العلمي؟ لماذا اشتغل غرانجي على صلة الواقعي الافتراضي؟

سعى المفكر عزمي بشارة في هذه الجزئية من كتابه: الدين و العلمانية في سياق تاريخي إلى بيان أن الدين ليس عبارة عن خزعبلات أو حكايات خرافية أو مجرد تصورات فلسفية خاطئة يحملها الفهم الشائع للبشر، كما أن ظاهرة الإلحاد و ما يجبلها من مقولات لا ترقى إلى أن تكون نظرية علمية قائمة بذاتها، كما ينفتح بشارة على المقاربات الفلسفية التي جاء بها الفيلسوف الألماني عيمانويل كانط، و التي تؤكد أن موضوع العقل مغايراً تماماً لموضوع الدين، بحكم أن المفاهيم الجوهرية أو بالأحرى النومين لا يدان للعقل البشري المجرد حذقه بوسائله و آلياته الفهمية فهو يوجد خارج الفاهمة البشرية التي لها قيومية معرفة الظواهر الفيزيقية المجردة التي تدرك بمنطوق العقل أما المفاهيم النومينية فهي من المفاهيم التي اضطرت العقل إلى القول بها، تلافياً لمشكلة النقائض ( تكافؤ الأدلة في البرهنة على الأشياء الماورائية الغيبية) وكذا تمهيده للتأسيس لفلسفة أخلاقية مبنية على أخلاق الواجب لذات الواجب[1].

ويبقى المضمون الحقاني الذي يسعى إليه العقل العلمي مرتهنا بالأمل ، من منطوق الأسئلة الكانطية الشهيرة : ماذا أستطيع أن أفكر؟ ( المرتبطة بالعقل المجرد) ، وماذا أستطيع أن أعمل؟ المرتهنة بالعقل العملي الأخلاقي، و ماذا أستطيع أن آمل؟ ، المرتبطة بالعقل الديني (سؤال الأمل : هناك غائية نهائية نعمل لأجلها). ومع ذلك فالفكر الفلسفي الإنساني منذ الأزل تناول موضوعات مرتبطة بالدين ذاته، كما عمد بشارة إلى استحضار المقاربات الدينية للفيلسوف فريديريك هيغل الذي جعل الظاهرة الدينية مرتبطة جوهرياً بالعقل المطلق، ومؤكداً في النهاية إلى أن قضية الفصل بين المعقول و الإيماني لا يكفي لحذق الانسجام و التفاعل الثقافي و التاريخي و الإتيقي بين الدين و الفلسفة.