تحطيم الأصنام هي حرفتي ، ذلك أنّه ما أن ابتُدِعَتْ أكذوبة عالَمِ المُثُل حتى تمَّ تجريد الواقع مِن قيمتِهِ ، و مِن معناه ، و مِن حقيقتِهِ. (نيتشه - مقدمة كتابه هذا هو الإنسان)
منحتنا ما بعد الحداثة مساحة مفتوحة لنقد المراكز التقليدية، ولكن غالبية النقد تركزت على الرجل دون المرأة، وهذه النظرة الأحادية محاولة عكسية في صناعة المراكز واستبدال مركز بمركز آخر، وكل مركز هو نموذج ومثال، يمكن أن يصبح عالما من المثل، عالم تستمد منه القواعد والمقاييس والنظريات والقيم أو اللاقيم، فمعه يعرّف الخير وضده يعرّف الشر.
تأتي مقالتي هذه لتوجيه الأنظار حول شمولية الثقافة النسوية والقولبة الثقافية التي تعمل عليها دراسات النقد الثقافي ذات النتائج المتطابقة والمتشابهة مع اختلاف موضوعاتها وهذا التطابق في النتائج من أخطر تعميمات النقد الثقافي والدراسات النسوية التي يمكن التدليل عليها بالاطلاع البسيط على الرسائل والأطاريح التي كتبت تحت مظلة النقد الثقافي، إذ جمدت الباحث في درجة معينة ومحددة مسبقا لا يمكن بعدها بلوغ نتائج مختلفة عما يريده النقد الثقافي والنسوي. وأصبحت كل الدراسات الثقافية نمطية لا خصوصية فيها لثقافة أو حضارة بل هي تعميم يحمل أيديولوجيا البعد الواحد، فتأتي القيم جاهزة ومصوبة باتجاه واحد لا ، ومعروفة مضامينها ومحتواها مسبقا فيكفي قراءة كتاب واحد ليغنيك عن قراءة بقية الكتب والمؤلفات التي اعتمدت منهج ونظريات النقد الثقافي كما جلبه لنا الغذامي، فكتاب الغذامي يكفي قارئه ويغنيه عن بقية مؤلفات النقد الثقافي العربي.
السؤال الذي يجب طرحه الآن هو: هل يكفي تحويل المجتمعات والثقافات الأبوية إلى مجتمعات وثقافات أمومية في نشر السلام الدائم والعدالة والحقوق والاعتراف بالهويات المختلفة ونبذ العصبيات العرقية والطائفية، مع وجود مجتمعات وثقافات أبوية مجاورة أو مقاربة لنا تلتزم بالحفاظ على قيم القوة وتحافظ على الاختلافات العرقية والدينية، وتقدّس العائلة والتقاليد المتوارثة؟
الجواب العقلاني والمنطقي: أن الأمم والدول والحضارات التي تنبذ قيم القوة وتستبدل قيم الأبوية بقيم الأمومة الأنثوية ستتعرض للانحلال والانكسار والضعف ثم الهشاشة حدّ التدمير الذاتي لنفسها إن لم تدمر من الخارج، وإلّا ما الذي جعل الثقافة الأمومية -التي يعتقد علماء الانثربولوجيا وعلماء الحفريات التاريخية والحضارية القديمة أنها كانت سابقة للثقافة الأبوية- تنمحي وتختفي في مقابل صروح وآثار خالدة تدل على قوة الحضارة الأبوية وتطورها، لأنّها الأقدر على تفعيل الصراع وصناعة التاريخ. فمهاجر شرقي يحمل قيم الثقافة الأبوية ينتقل إلى أوربا ذات القيم الأمومية الأنثوية قادر على تكوين عائلة تحمل جيناته وثقافته المحافظة، يمكن أن يشكّل في المستقبل مع مجموعة من أبنائه ومهاجرين آخرين ثقافة أصلية قوية تغزو ثقافة البلد المضيف وتدحرها وتحلّ محلها، وهذا الخطر يدركه المحافظون في أوربا وأمريكا، لذا هم الآن يخوضون حربا سياسية و إعلامية وثقافية ضد الهجرة، وبدأت الأحزاب اليمينية والمتطرفة تظهر على ساحة الصراعات الانتخابية وتشن حربا شعواء ضد المهاجرين العرب والأفارقة، لأن هؤلاء يأتون من خلفية قيمية محافظة وأبوية تقليدية لا تندمج بسهولة مع ثقافة الغرب الأمومية.
لا ينفع في عالم قائم على الاستغلال والصراع من أجل الوجود قيم الضعف، بل لابد من أجل السلام الدائم الاستعداد الدائم للحرب، فتوازن القوى بين روسيا وأمريكا وحده ما يمنع الحرب، والسلاح النووي بين باكستان والهند هو الرادع لحرب تبقى وشيكة دائما، أما العرب وقد تشتتوا وضعفوا فإنهم في حالة حرب داخلية دائمة، فالقوة التي لا تخرج تدمر نفسها، والعرب الآن في حالة تدمير ذاتي لنفسهم لأنهم لا يمتلكون الأداة التي توجه قوتهم نحو الخارج ليسلموا في الداخل، والسبب الرئيس لبقاء العرب واستمرار حضارتهم ولغتهم وكيانهم المستقل هو إرثهم الحضاري والقيمي العظيم الذي صنعوه أيام مجدهم وقوتهم، فالعالم لايزال ينظر إلى هذه المنطقة على أنها أرض السومريين والبابليين والفراعنة وكذلك هي سوريا واليمن وغيرها من الدول التي كانت مهد الحضارة والثقافة والعلم، وإلى المجد الذي بلغوه أيام كانت بغداد عاصمة الدولة العباسية، ولولا هذا الإرث القيمي العريق لما بقي للعرب باقية ولتحولوا إلى مجموعات وقبائل شتى، مع حالة الضعف والخنوع التي بلوغها منذ سقوط بغداد بيد هولاكو وإلى يومنا هذا، فهم غير قادرين على خوض حرب خارجية بقدرات ذاتية، وعدم قدرتهم على امتلاك وسائل القوة يجب تعويضها بقيم القوة من أجل البقاء. فأمريكا في حالة حرب خارجية دائمة لذا فهي الأقوى ما دامت كذلك، و لأنّها تستنزف اقتصاديات الدول الضعيفة، والثقافة الأمريكية لا زالت ثقافة أبوية تتبنى القوة وقيم الرجولة، وإمبروطورية هوليوود لا زالت تصدر قيم القوة والبطولة وتصور أجساد الأبطال الأمريكيين على أنها صلبة وقوية وضخمة تشبه صفات الرجل السوبرمان البطل المطلق والأعلى. بينما بدأت أوربا العجوز بالانحلال والتفكك، والسينما الأوربية عبارة عن صناعة لتصدير القيم الأمومية المتطابقة مع طروحات النسوية والنقد الثقافي فالتركيز فيها على تحرير الأجساد والمهمش التقليدي، وهي ذات منحى ساخر وتهكمي في معارضة للعقل والنظام، وقد أدركت فرنسا هذا الضعف وقد تحاول تداركه بتوسيع حروبها الاستعمارية في أفريقيا، كما تحاول دولا أخرى توسيع رقعتها الاستعمارية على حساب الجسد العربي المريض.
ملاحظة/ أو تنويه: إنني لا أقصد من نقدي للمجتمعات والثقافات الأمومية والنقد النسوي والنقد الثقافي أنني ضد المرأة أو ضد ما بعد الحداثة ولكنني أنطلق من المساحة التي وفرتها ما بعد الحداثة في نقد نفسها، لنقد تجميدها وتحديدها وتصنيم مبادئها، فالتصنيم والتحديد والنتائج المسبقة هي من الأمور التي ثارت عليها ما بعد الحداثة، فكيف بما بعد الحداثة وقد أصبحت مناهجها أسيرة للأهداف والنتائج المسبقة التي تفرضها مناهج ونظريات النسوية والنقد الثقافي؟!
كما وأنني أجعل من منهجية نيتشه في الهدم والنقد وقلب القيم والخروج على السائد منهجا في النظر والتطبيق.((والآن هي ذي مطرقتي تضرب بحنق على جدار سجنها...نيتشه –هذا هو الإنسان)).
ليلى والذئب وما بعد الحداثة
يعد المقال الآتي نموذجا تطبيقيا لنقد ما بعد حداثي، موجه لمركزية صاعدة هي المرأة في مقابل مهمش لا زال يهمش وهو الحيوان. المقال منشور في جريدة (الصباح الجديد) العراقية بتاريخ 18-حزيران/يونيو- 2017. وقد توجهت في مقالي والذي عنوانه(ليلى والذئب وما بعد الحداثة) إلى نقد المرأة (ليلى) باعتبارها هي المركز في مواجهة الهامش وهو الحيوان (الذئب). وهي محاولة تسعى إلى توفير شيء من الموضوعية الحقيقية وخلق حالة من التوازن في النقد. فليس الرجل وحده هو المنقود في ما بعد الحداثة بل والمرأة كذلك في دائرة النقد.
نص المقال:
اعتدنا في الصغر وعندما كبرنا أيضاً، أنّ ليلى هي تلك الفتاة البريئة التي تعيش مع جدتها في الغابة، لتمثل لنا أيقونة الخير والجمال. في مقابل الذئب المتوحش والشرير ممثلاً لأيقونة الشر والقبح. ولم يكن ليتبادر لنا مواجهة أو معارضة مركزية مثل الخير والشر(الإنسان/الحيوان) بمقولات وقوانين الحداثة وفلسفتها العقلانية المهووسة بالسيطرة والتحكم بكل شيء بما في ذلك الطبيعة والحيوان ورغبتها بترسيخ النظام والتراتبيات والطبقية والصراع كما عكسته فلسفة الجدلية (الديالكتيك)- سواء الهيغلي المقلوب على رأسه، أو الماركسي الواقف على قدميه- والتي أسست لسرديات كبرى يقينية لا تقبل الشك. علما أن رائد فلسفة الشك (رينيه ديكارت) الفيلسوف والرياضياتي الفرنسي وأبو الفلسفة الحديثة عاصر النصف الأول من القرن السابع عشر (و. 31 مارس 1596 – ت. 11 فبراير 1650)، بينما ظهرت قصة ليلى والذئب أو (ذات الرداء الأحمر) في موطنها فرنسا في نهاية النصف الثاني من القرن السابع عشر لمؤلفها (شارل بيرو) سنة (1698). وكل تلك المدة الطويلة من الزمن وعلى الرغم من أنّ (شارل بيرو) شارك (ديكارت) أرض الشك والفلسفات الحديثة والحداثية إلاّ أنّ قصته بقيت خارج دائرة الشك والتحقيق وبلغت مرتبة الحقيقة التاريخية ودخلت البيوت واستقرت في العقول وتسلقت ذاكرة الجدات والأُمهات ووعيهنّ لينقلْنَها ويلقنّها أحفادهنّ وأولادهنّ متسللة عبر أحلامهم إلى لا وعيهم ووعيهم فيما بعد ..
هكذا تكتسب الحكاوي والقصص الخيالية والأحاديث والأقاويل درجة الصدق فتصبح فيما بعد حقيقة تتداولها الألسن والكتب ويُكتفي فيها بالرؤية من جانب واحد يقصي كل جوانب الرؤية المتبقية والممكنة وعند تلك اللحظة يختفي الآخر أمام حضور وسلطة ذات ساردة متلاعبة لا تعطِ للآخر حقه في مشاركة السرد ووجهة النظر. وهو الدور الذي نهض به (حفيد الذئب) المقصى من دائرة الرأي ليكنس غبار الزمن الذي غطى وحجب الوجه الآخر من القصة ووجهة نظر المتهم (الذئب). حتى وإن كانت الرؤية المضادة على سبيل السخرية، (فالسخرية) هي من أدوات ما بعد الحداثة المهمة في محاكاة الواقع أو القصص والروايات أو التاريخ الذي اختطته الأوهام البشرية فنحن أمام حالة من التناص التهكمي الذي لا يبتعد عن منهج الثلاثة الرواد (ماركس وفرويد ونيتشه ) عندما واجهوا العقل الغربي وسخروا من مسلماته ولاسيما (فردريك نيتشه) الفيلسوف الساخر والمتهكم العبقري من كل ما هو ألماني وثابت وصنمي في الفكر والعقل الغربي، الذي أثر في فلاسفة كثر من أمثال ميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل دولوز. وهنا لابدّ أن نؤكد أهمية الشك والريبة والسخرية والتناص واللعب والتأويل في مواجهة النصوص والخطابات الأدبية أو الفلسفية وعدم التوجه المباشر الى الواقع والتاريخ والمسلمات أو ما يدعى حقيقة فقط، بل إلى كل ما يكتب من روايات وقصص وشعر ومقالات ودراسات ونصوص فلسفية وغيرها لأنها مهما فعلت فلن تستطيع أن تدعي أمراً أنكرته على الآخرين، وللأسف ذلك ديدن الكثرة الكثيرة ممن يكتبون لذا فلا بدّ من مواجهتهم بالسخرية والتهكم وهم يدّعون احترامهم للآخر ويتبجحون بترديد المقولات وشعارات ما بعد الحداثة من نصرة الهامشي والآخر والاختلاف.. وينسون أو يتناسون الشعارات والنظريات التي لا تجد لديهم مكانها للتطبيق والفعل. وننقل لكم هنا الرواية المضادة للرواية المركزية ل(ليلى والذئب) ولكن هذه المرة الراوي هو حفيد الذئب ((كان جدي الذئب لطيفا طيبا ولا يأكل اللحوم، وقرر جدي الذئب ان يكون نباتيا أي أن يعيش على أكل الحشائش والخضروات والفواكه. وكانت تعيش في الغابة فتاة شريرة اسمها ليلى تسكن مع جدتها. وكانت ليلى تخرج كل يوم الى الغابة وتقتلع الزهور وتدمر الحشائش التي كان جدي الذئب يقتات عليها. وكان جدي يحاول أن يثنيها عن ذلك دون جدوى، فكانت ليلى تعاند وتقطع الحشائش، فقرر جدي الذئب أن يزور جدة ليلى في بيتها ويخبرها بأفعال ليلى. ولما وصل البيت وطرق الباب، فتحته الجدة، لكنها للأسف كانت شريرة أيضاً، فأحضرت الجدة العصا وهجمت على جدي المسكين دون أن يتعرض لها، فدافع عن نفسه ودفعها بعيداً عنه، فسقطت الجدة وارتطم رأسها بالسرير وماتت جدة ليلى الشريرة.
تأثر جدي الذئب كثيراً لموتها، وأخذ يفكر بليلى.. كيف ستعيش دون جدتها؟! فقام ولبس ملابس الجدة ونام في سريرها، ولكن ليلى الشريرة لاحظت التغيير في شكل جدتها، فخرجت ومنذ ذلك الحين وإلى الآن وهي تشيع في الغابة وبين الناس أنّ جدي الطيب هو شرير وقد أكل جدتها وحاول أن يأكلها أيضا !!)) فـ(حفيد الذئب) يمثل لنا الأمل الما بعد حداثي في اظهار الوجه المغيب من الحدث مهما اعتقدنا باستحالته أو عدمه، وبأنّ الشر والخير قيم متحركة متغيرة طالما أنّ مخترعها الانسان.
وأودّ أن أختم مقالي هذا بمقولة للفيلسوف اميل سيوران ((أعلَمُ أنّ ولادتي مُصادفة، حادثةٌ مُضحكة، وعلى الرغم من ذلك فإنّي ما إن أنسى نفسي حتى أتصرّف وكأنّها واقعة رئيسيّةٌ ضروريّةٌ لمسيرة العالَم وتوازُنه)). مثالب الولادة، تر:آدم فتحي، منشورات الجمل(ص11).