تقديم
     تعتبر تجربة الفلاسفة السنيكيين وجها آخر للممارسة السقراطية للباريسيا وامتدادا للخطاب الفلسفي السقراطي، والصورة المعارضة للفلسفة الأفلاطونية. فهي تجربة مختلفة تقدّم كيفية أخرى في التفلسف وفي إدراك الحياة الفلسفية والممارسة السياسية. فإذا كان سقراط يدعو المواطنين الآثينيين إلى الإهتمام بأنفسهم حتى يتمكنوا من حكم أنفسهم والآخرين بشكل أفضل، وإذا كان أفلاطون يدعو إلى المعرفة وضرورة بلوغ الحقيقة من خلال شرط علائقي للنفس بالإلهي ولعلاقة النفس بوصفها عنصرا للإلهي، فإن الفيلسوف السنيكي يقدم الحقيقة كفضيحة ويجعل من جسده الخاص ومن حياته مسارح للحقيقة من خلال تمفصل قوي بين القول الحق والصريح وطريقة وجود منسجمة مع قيم الشجاعة والحياة العارية. تجد التجربة السنيكية خصوصيتها الحيوية أيضا في ذلك الإدراك الجمالي للوجود مع تلك الرغبة القوية في جعل الحياة، ليس فقط، موضوعا للمعرفة وللصراحة ولكن أيضا كمادة قابلة للتشكيل وكشيء فني، وكذا الإعتقاد الراسخ بوجوب الإشتغال على الذات من أجل بنائها وخلقها كعمل فني.

استهلال:
" كل عبد له في يديه القدرة على كسر سلاسله" - وليام شكسبير-
لو لم تكن فكرة الحرية في المركز، فهي على الأقل واحدة من النقاط الجوهرية التي تدور عليها الفلسفة منذ القديم ولقد زاد ذلك كثيرا في الأزمنة الحديثة وعصر الأنوار ووقت الثورة العلمية والصناعية. أما اليوم فهي تعبر عن عدة طموحات مختلطة وتلخص الكثير من أحلام اليقظة والتطلعات الشبابية الواعدة.
 قد يرفض أحدهم تمتع الآخرين بها ويؤثر بقاءهم في العبودية لكي يحتكرها لذاته ويتمتع بفضائلها لنفسه ولكنها ترفض ذلك وبدل أن يمتلكها تقوم هي بامتلاكه وتنتقل عدواها إلى غيره وتفيض على العالم بأسره. إذا كانت فكرة الحرية تتضمن كفايتها الذاتية وتملك القدرة على التحديد الذاتي فإن العبودية لو قلبناها كما هي في المسار التاريخي والحالة الاجتماعية يمكن الوعي بها والانقلاب عليها ونفيها وتحويلها إلى حرية.

تقديم
    أعطى ميشيل فوكو أهمية للأعمال وللتحولات التي يتوجب على الذات القيام بها حتى تصير جديرة بأن تكون ذاتا صريحة وصادقة وحرة. فقد استنتج من الأبحاث التي قام بها حول كتابات بعض الفلاسفة اليونان والرومان أن العلاقة مع الحقيقة هي مباشرة أخلاقية وتتمظهر في تلك العلاقة المشروطة بين الفعل والقول. إذ أن ولوج الحقيقة وممارستها يفترض إقامة علاقة خاصة مع الذات ومع الآخرين والعالم. كما لا يكفي أن تكون أي ذات كما عند ديكارت Descartes ، بل من الواجب معرفة الذات والإهتمام بها وبنائها، وتمرينها على قول الحقيقة لنفسها وللآخر كما عند سقراط وأفلاطون. ففي الفلسفة السقراطية والأفلاطونية ستظهر قيمة قول الحقيقة وأهميتها بالنسبة للحياة. فهذا سقراط يقدم نفسه على أساس أن مهمته ووظيفته هي دعوة الناس إلى الإهتمام بذواتهم...، إنها مهمة أوكلها الله إليه وهو حريص على إبلاغها بكل شجاعة مجازفا في ذلك بحياته(1). أما بالنسبة لأفلاطون، فقد ربط الإهتمام بالذات بضرورة الـتأهيل لممارسة أعمال ووظائف في المدينة (حكم الآخرين مثلا)، الشيء الذي يتطلب تدخل الآخر/معلم أو مربي (عند اليونان) أو مستشار (عند الرومان) بالإرتكاز على قول الحقيقة والكلام الصريح والصادق والحر.

" تتعرض الفلسفة للتهديد إلى حد كبير في وجودها المؤسساتي بسبب عدم جدواها فيما يتعلق بالعلوم وحقيقة أن أشكال المعرفة الأخرى لم تعد في حاجة إليها" -  بول ريكور.

على الرغم من أن هذه المقابلة مع الفيلسوف الفرنسي بول ريكور قد أجريت منذ سنة 1976 إلا أنها مازالت راهنة وتطرح قضايا تعاني منها الفلسفة الى اليوم وتقترح مقاربات ومخارج ممكنة للانتقال من الوضع المتأزم والاستفادة من الاكتشافات الكبيرة التي تقترحها العلوم الإنسانية.

الترجمة:

" الفلسفة هي التي تعطي براهين ما تحتوي عليه الملة الفاضلة"
  - أبو نصر الفارابي، كتاب الملة،
يحتفل الإنسان أين ما كان في كل خميس من الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر باليوم العالمي للفلسفة ولا يمكن الإجابة بسهولة عن سؤال ما الفلسفة؟ ، لأنها الاختصاص الذي لا يمكن تدريسه بالشكل العادي وإنما يتطلب المرور بالطرق البيداغوجية المناسبة التي تحث على التفكير والتدرب على التفلسف الذاتي، ولأنها ليست مجرد مادة معرفية مثل بقية المواد الأخرى على غرار العلوم الدقيقة والمعارف الصناعية.
لقد ولدت الفلسفة منذ الأصل في هيئة معرفة كلية تشمل كل العلوم وتتضمن جل المعارف والاختصاصات الأخرى ولقد تبلورت فكرا موسوعيا وعدت منبعا رئيسيا للفنون الحرة والصناعات والعلوم والتصورات.

"لم يبق لنا على الأقل إذن باعتبارنا محكومين إلا
 أن نؤكد بالطبع على الحق في طرح أسئلة الحقيقة"
ميشيل فوكو
تقديم
    في آخر حوار لمشيل فوكو(1)، ميّز بين إيتيقا العصر القديم اليوناني والروماني والإيتيقا المعاصرة، ونفى وجود قواسم بينهما. على النقيض -يقول فوكو- حين نأخذ الأخلاق في إطار ما اتسمت به من معيارية، وما تنزع نحوه وتشير إليه، سندرك بأنها قريبة بشكل مدهش، من تعاليم الأخلاق القديمة، إن لم تكن متماثلة، لكنها نسبيا أقل قربا من الأخلاق التي يتم تثمينها حاليا. من هذا المنطلق، يرى فوكو إمكانية اشتغال الأخلاق القديمة ولو بكيفية مختلفة بين طيات أسلوب للأخلاق المعاصرة. تبدو رغبة فوكو في استعادة شكل فكري أصيل أو تجربة معطاة، أمرا مطلوبا بالنسبة لتفكير يريد استئناف انطلاقته وتوسيع أفاقه. في هذا السياق يأتي اهتمام فوكو ب"القول الحق والصريح والحر"، متابعا أشكلة علاقة الذات بالمعرفة والسلطة والحقيقة، ومُنقبا عن المادة الخاصة بنظام المُتع ونظام السلوك، ومُحللا طرق تشكّل الذات عبر التاريخ، وراغبا في الفوز ب"ذاتية جديدة". تطلب الأمر من فوكو العودة بالمشكلة إلى الفلاسفة اليونان والرومان وتحليل مفهوم "الباريسيا Parrêsia" والتعريف ب"الكائن الباريسيانيle Parrèsiaste  "، مع التساؤل عن كيفية تشكل الذات وعلاقتها بذاتها وبالآخرين وبالعالم من خلال خطابات الحقيقة والقدرة على قول الكلام الصريح الصادق والحر. ستجد عملية التشكّل هذه أساسها في مبدإ "الإنهمام بالذات" و"ثقافة الذات" التي ستميز الفلسفة باعتبارها شكلا من التفكير يتساءل حول ما يسمح بالوصول إلى الحقيقة وعيش الحياة الحقة.

مقدمة1[1]:
" ذاكرة الرهيب ضرورية للغاية  
La mémoire du terrible nous est absolument indispensable "2[2]
لم يكن بول ريكور أول من حذر من إخفاق مشروع الأنوار في الحضارة الغربية ومجيء العدمية وبلوغ الإنسان زمن الخواتيم فقد تحسس ذلك بصورة جنيالوجية فيلسوف المطرقة فريدريك نيتشه وسانده مارتن هيدجر ضمن رؤيته الأنطولوجية الأساسية وتفطن إلى المنحدر الخطر عالم الاجتماع ماكس فيبر وأدرك اقتراب النهاية كل من المؤرخين أرنولد توينبي وأوسفالد شبلنغر واتضحت الأزمة في العلوم الأوروبية مع أدموند هوسرل وانتبه يورغن هابرماس إلى مأزق الحداثة التقنية وسقوط العقلانية في مستنقع الآداتية.

" ينبغي أن نتخيل سيزيف سعيدا"
يبدو السؤال عن الحياة هو المطلب الذي يمنح الوجود الإنساني معنى ويقيه من الوقوع في العدم، وأن الرضا بالحال والانغماس في السائد والانخراط في المألوف واجترار المكرر ينتج الشعور بالملل ويؤدي إلى الغثيان، ويجعل الإنسان يطرح على نفسه الكثير من الإمكانيات الغريبة عن عقله والمداهمة لشعوره.
لقد طرح ألبير كامو السؤال الفلسفي الأبرز: لماذا يشعر المرء بأن حياته فاقدة للمعنى؟ وتفطن إلى أن هذا السؤال الوجودي هو من أكثر الأسئلة الفلسفية خطورة وذلك لارتباطه بالسؤال عن معنى الحياة الإنسانية.
ترجمة:
"هناك مشكلة فلسفية خطيرة واحدة: إنها الانتحار. للحكم على أن الحياة تستحق أو لا تستحق ألم العيش ، هو الإجابة على السؤال الأساسي للفلسفة. أما الباقي ، إذا كان للعالم ثلاثة أبعاد ، إذا كان للعقل تسع أو اثنا عشر مقولة ، فسيأتي بعد ذلك. هذه هي الألعاب ؛ يجب علينا أولا الإجابة. وإذا كان هذا صحيحًا ، كما يرغب نيتشه ، فيجب على الفيلسوف، لكي يكون محبوبا، أن يعظ على سبيل المثال ، يدرك المرء أهمية هذه الإجابة ، لأنها ستسبق الإيماءة النهائية. هذه هي البديهيات المحسوسة من القلب ، ولكن يجب تعميقها لجعلها واضحة للفكر.

"الجهد الفكري والعمومي، الذي يبذله الفيلسوف في المدينة عند مواجهته للشر في مختلف أشكاله، يعطيه قيمة كونية ودائمة"
يبدو أن المدينة ليست مدنية بما فيه الكفاية واجتماعها غير اجتماعي وتحضرها أقرب إلى التأخر منه إلى التقدم، فهي غارقة في الظلام وينخرها الفساد وتعاني من الأزمات المتعاقبة ومحاصرة بالرمال العدمية وعقائد التوحش والارتدادات الهمجية، بينما يظل الفيلسوف مغيبا باستمرار على الرغم من حرصه على الحضور وفلسفته متروكة ومهجورة وبضاعتها كاسدة والعلاقة بينهما تتراوح بين طلب النجدة ومحاولة الاحتماء من جهة عندما يضطر الفيلسوف إلى خدمة السلطة القائمة، والانتماء إلى المؤسسات القانونية التي تضمن له الأمان والحماية، ومن جهة ثانية يدخل في صراع مع السلطة المشرفة على تنظيم الشؤون العامة لمواجهة الآراء الضالة ويؤثر الهجرة والمغادرة والانزواء والتوحد ويعلن الثورة في داخله ومن الخارج.

غالبا ما يُوصف فالتر بنيامين بالفيلسوف، لكنكم ستجدون أن أعماله لا تُدرَّس في العديد من أقسام الفلسفة في الجامعات البريطانية والأميركية. قد تجدونها في أقسام اللغة الإنجليزية، والدراسات السينمائية والإعلامية، نعم، إنما في أقسام الفلسفة، فلا. تمت دعوة الفيلسوف الأميركي ستانلي كافيل (Stanley Cavell)، وهو الفيلسوف الذي ألّف كتابا عن كوميديات هوليوود في العقد الثالث والرابع من القرن التاسع عشر، وهو الأمر الذي قد لا تتوقعه من فيلسوف تحليلي، لحضور مؤتمر في جامعة ييل احتفالا بنشر جامعة هارفارد الجزء الأول من المؤلفات المختارة لبنيامين. وكان خطاب الدعوة يتضمن طلبا من الضيوف المرتقبين وهو تقييم إسهامات بنيامين، كلٌّ بحسب مجاله المعرفي الخاص. وهناك أعلن كافيل: ".. إن الإجابة الصادقة على مسألة إسهام بنيامين الحقيقي في مجالي هي تقريبا صفر".
وهذا مدهش في بعض جوانبه، لأن هناك نقاط أُلفة بارزة بين بنيامين وواحد من أكثر الرموز توقيرا في التقليد التحليلي، إنه لودفيج فيتجنشتاين (Ludwig Wittgenstein). لدى كلا الفيلسوفين العديد من المشتركات، لكن أكثر ما يثير الدهشة فيما هو مشترك بينهما هو الارتياب المتشارك من النظري، والاهتمام بالبصري. وتقول صديقته حنا أرندت في مقدمتها المهمة في "الإشراقات" (Illuminations) إن "بنيامين لم يكن شديد العناية بالنظريات، أو "الأفكار" التي لا تضطلع فورا باتخاذ أدقّ شكل ظاهري ممكن".

"نجح الفيلسوف في جذب رجل من الحشد إلى الأعالي... وأن يرتفع إلى اعتبار العدالة والظلم"  –أفلاطون- محاورة ثياتات-
مهما كانت الفلسفة التي يتحرك ضمنها المرء فهي تنتمي إلى هذا العالم وترتبط بالضرورة بذوات إنسية، ومهما كان الفيلسوف الذي يفكر وينظر ويقارن ويلتزم ويفعل فهو مسؤول عن أقواله وأفكاره وأفعاله عند اختراقه أطر هذا العالم وتجاوزه حدود المعرفة وضربه عرض الحائط قوانين المدينة ودنوه نحو آفاق بعيدة. على الرغم من الاستهجان الكبير الذي يتعرض له الفلاسفة من الجمهور وبعض المناوئين المعاندين مثل رجال الدين والعلم والمال والخبراء الجدد في البرمجيات ومنظومات الاتصال إلا أن الفلسفة موجودة بقوة في برامج التعليم وتدرس في مراحل متقدمة وتمتلك أقساما مستقلة في كليات الآداب، وتقدم كدروس عامة في كليات العلوم ومعاهد التربية والصحافة والطب، ولكنها غائبة بشكل ملحوظ عن كليات الهندسة والتقنية. الفلسفة مادة صعبة وتتكلم لغة غامضة وتعتمد مناهج معقدة وتوظف مجموعة من المفاهيم المجردة، ولذلك ظهر تعارض بينها والمجتمع وناصبها العامة العداء، وحاولت السلطة السياسية توظيفها لصالحها وخارج إرادة الفلاسفة ورغبتهم في التغيير نحو الأفضل وإيمانهم بالتقدم وطرحهم السؤال الأساسي للحياة.