anfasse.orgالحنين يكبر في نفوس الثلاثة، مرّت شهور ستة، ولم يستمعوا فيها لثغاء الخراف. ولا لهديل الحمام، كانت مدّة طويلة بالنسبة لهم.
 الربوة التي يفترشون حشاشها، منذ الصباح الباكر. تطل بشموخ على السهول المحاذية للوادي. ترتفع رؤوس سنابلها، تنظر في اشتهاء إلى رقصة الربيع، على الربوع المرصعة بأشجار الصنوبر والعرعار. وناي الرّعاة يشدو خلف التلال.
الثلاثة، يجلسون في احتماء صخرة، تنتصب حدا فاصلا لمعبر النهر. تكلّله زهور القرنفل، وشقائق النعمان، تتمايل راقصة على نسيم الصباح. وطائر المستوون يغرّد بصوته الجميل. الكوخ الوحيد القابع هناك، على مسافة قريبة من مكان جلوسهم. هو ما يتّخذونه مسكنا لهم. منذ أن حلّوا بهذه القرية النّائية والقابعة في جوف  جبال الريف. يندس بين أشجار باسقة، ويطل على خلجان مائية، تجري دون توقف.
كل الأكواخ الأخرى، توجد وراء التّلال. وحده كوخهم، أقيم هنا في هذا المكان. يضم تحت سقفه أجسادهم الثلاثة. ويحتمون فيه من لسع البرد، وقيض الحرّ.
شخشخة البنادق، تنطلق، تصل أسماعهم متقطّعة. فبدوا ينظرون في وجوه بعضهم البعض. وكانت أول طلقة دوت، تعلن عن بدء رحلة القنص. وبها سيكون اليوم، هو أول يوم يفتتح فيه موسم الصّيد. إن  هذا الصّباح سيكون مخصصا لاقتناص الخنزير البري. والذي سيفقد الكثير منه مرقده في هذه الغابة. بطلقة واحدة وبتصويب دقيق، سيصبح وليمة لعشاق أنواع هذه اللّحوم.

anfasse.org"ان أصعب مهنة هي أن تكون رجلا"
"ناظم حكمت"
إنها الثلوج...
إنه البرد ..إنه الليل ...
و إنه يسير...
عاكفا على وحدته يسير يستنزفه البياض ..يحاصره السواد...
كل شيء يغري بالموت...
لا حياة..
لا ما يشبه الحياة..
لا ما يبعث على الحياة..

anfasse.orgأخيرا قررت أن أتخلى عنها ولا أولي وجهي أبدا شطر مضانها. يكفي ما مضى. صراحة كنت مغفلا، واستطاعت أن تكبلني بغواياتها أكثر من اللازم. اقتحمت عالمي، ولم تفارقني أبدا وأنا لم أزل بعد طالبا مغلوبا على أمري، لا أملك إلا ما أسد به رمقي. مع ذلك كانت تتقاسم معي ميزانيتي الضئيلة، وتتنقل معي في حلي وترحالي. وكانت لا ترفض أن نتناوب عليها أنا وصديق لي. تصوروا.. يا لخستي مع ذلك بقيت لصيقا بها. آه.. كم كان يحلو لها أن ترمي بثقلها على صدري أو على صدورنا وتغرقنا بأريجها المميز. كلما داعبتها بأصابعي وأطبقت عليها بشفاهي تزداد حرائقها وتتقلص بين يدي. وبمجرد أن انتهي منها أطوح بها بعيدا وأنا نادم على ما قمت به فلا تأبه لذلك. أحيانا كنت اطرحها أرضا بقوة وأدعصها برجلي، لكنها تأبى إلا أن تلتصق بي،

anfasse.orgبين من هدمت حرب تموز بيوتهم، وقذفت بهم الي العراء والشوارع، كانت هناك سيدة وحيدة بملابس الجدات العتيقة الفضفاضة التي تعكس ضعف حالها، تتخذ لها موقعا بين ركام البناية، وتنتظر بغير أن تكون علي عجلة من أمرها، نجاح الباحثين في العثور علي ما يبهجها من بقايا المتاع . لا يرافقها أحد من العائلة في مهمة الانتظار اليومي . تجلس علي كرسي بلاستيكي بني تكفل متطوعون بتأمينه لها، بعد تسوية الأرض تحت قوائم الكرسي مخافة أن يميل ويقع بها، فقواها وجسمها الثقيل لا يسمحان لها بالوقوف، فكيف بالانحناء والتفتيش بين الركام، كما تفعل نسوة نشيطات حولها. ومع الكرسي بمسندين حظيت بزجاجة ماء لمقاومة عطش آب، وبقبعة قماشية شبابية زرقاء اتقاء للشمس الحارقة، ما أن تضعها علي رأسها حتى تخلعها وهي تغالب الضحك، فإذا كانت لم تلبس برنيطة في صباها، فهل ترتديها الآن كما تتساءل مع نفسها . ولو وضعتها علي رأسها ، فكيف ستتعرف الجارات إليها وماذا سيقلن عنها ؟ .
لم يبد عليها كبير قلق، كبقية العائلات اللبنانية المنكوبة، التي تنظر انتشال شيء ما ذي قيمة من حطام البيوت . لقد عثر متطوعون لها في أيام بحث سابقة، علي عدد من النثريات : إبريق بلاستيك أزرق، مكنسة، فردة حذاء نسائي، مريول مطبخ، مرآة مكسورة، مشط، حقيبة مدرسية قديمة، ساعة منبه محطمة، صابونتان، وسادة، حبات بطاطا، صوفة مخلعة، ستارة، ملعقة كبيرة واثنتان صغيرتان، وأشياء من هذا القبيل كانت تبهجها وتتشوق لها، رغم إدراكها أن بعض تلك الأشياء لم تكن صالحة في الأصل للاستعمال، فكيف وقد انضغطت تحت الركام واختلطت بتراب أبيض، ومع ذلك فهي تهفو للعثور علي المزيد .

anfasse.orgالطائرة تبتعد. تعلو وهي لا تزال تبتعد. بنهم مبرح تلتهم الارتفاعات. بشغف كبير يزدرها الفضاء الذي لا يزال على الدوام يتسع ويتسع. وصلت بلا تعب إلى جوف ثالث سماء.. وارتقت، وظلت تغوص. ثم جاوزتها إلى أقصى طرف في رابع سماء.. وهناك استقرت. مع هذا لم تحترق من شهب ولم تشتعل من نيازك. كفّت عن الغوص في ما بقي فوقها من سماوات بعيدة.. وبات واضحا أن أبوابها بالبعد أوصدت. ثم عن الأبصار اختفت، تماما اختفت.. كأنما إلى غير رجعة. كان المسافرون مزيجا متباعدا. بعضهم أوربيين.. البعض من الأمريكتين.. بعضهم آسيويين. وواحد منهم كان كثير البياض، عيناه ملّوّنتان، منظره يشبه إلى حد كبير أولاد الأجانب. لكنه في الحقيقة فلسطيني بحت، من مدينة القدس، على وجه التحديد من حي الشيخ جراح.. اسمه الرباعي كما هو مكتوب في بطاقة الهوية، سالم عمر صلاح اليبوسي. ومهنته محامي.
 جاءت جلسة سالم مريحة وملهبة لحلو ذكرياته ومرّها، منعشة للبارد والساخن من أحاسيسه. كان في أدب عارم يجلس إزاء الطاقة الزجاجية الصغيرة.. التي تشف له عن فضاء كثير منفوش في الآفاق. فور جلوسه هرول إلى عينيه المشغولتين بالنظر إلى هنا، حيث وجوه بعضهم حزينة ملبدة بفراق مالح وحامض، وفيها عبوس.. والتحديق إلى هناك، حيث وجوه كاللقاء منتعشة فيها ابتسام.

anfasse.orgكنت أراها قبل كل فجر، بهيأتها المقوسة وساقيها "الأفركين". تتوكأ على مكنستها وتحمل على ظهرها كيسا من البلاستيك الأسود، كذاك المستعمل لزبالة المستشفيات. تتوقف كل بضع خطوات لتلتقط أنفاسها. تستقيم من انحناءتها الأبدية، تجيل عينين غائرتين في جوانب الحي، ثم تنوء بحملها وتتابع السير.
أراها تأتي من أقصى الدرب. تزحف كحيوان جريح يلتصق بالأرض. تتوقف عند أكوام الزبالة على جانبي الرصيف، تهش عنها قططا سائبة، تجسها برأس مكنستها، قبل أن تلتقط منها ما تراه ذا قيمة، وتدسه في كيسها البلاستيكي الأسود. وحين يغالبها محموله، تضعه عن ظهرها المقوس وتجره على الإسفلت.
تمر تحت شرفتي حيث أدخن آخر سيجارة لي قبل النوم. تتوقف لترفع لي نظرا محدقا. وقد تفك المنديل عن رأسها، تشد به شعرها الأشيب المنكوش، تتنهد بنفس مسموع، وتكمل مسيرها. أحيانا تفوتني غير مبالية. لكنها تنتبه على وقع كحّاتي، فتلتفت إلي بنظرة من يتذكر شيئا نسيه في الطريق، تشرد قليلا في مكانها، ثم تتابع زحفها نحو البيوت لتنظف أدراجها.

anfasse.orgأوّلُ أيام الشتاء. أجلس خلف نافذتي مستنشقا طعمَ الغيوم. للغيم نكهة الحبق المذوّب في الحليب. سأحتفل بأوّل أيّام الشتاء – تلك عادةُ الطير الكناري و ذئبِ الجبال – أطفئ ضوءَ الكهرباء و أشعل شمعة ... يُضيء المكانُ ! أعبّئ كَأسَيْ كريستال نبيذا فاخرا. أشرب كأسِي و كأسَ الخريف الذي قد مضى. أسحبُ قـُرصًا ليزريا من جوف مكتبتي: كونشيرتو التشيلـّـلو الأوّل لهايدن. أضعُ القرصَ على الجهاز. تنحني إبرةُ التشغيل في رهبة. تتدفـّق موسيقى البيان / يلتمعُ البرق ............
لا شيءَ يحدث الآن !
وحدي أنا هاجعٌ خلف نافذتي. لا شيءَ يعكـّر صفوي، مثلَ قوقعةٍ مضمومة على مجاهلها. أنا هادئ هذا المساء. أرائكي الخمسُ هادئة ٌ، عوارض السقف، وسائد القطن، مكتبتي و طاولتي و لوحة الزيتِ ( مات صاحبها). أنا الآن صاحبها....
لا شيء يحدث الآن !
مازلتُ خلف نافذتي. أراقبُ برجَ الحمام عند السطح. لو كنت حمامة (أقول في سرّي). لا شيء يعكـّر صفوي.أدندنُ اللحن الحزينَ محافظا على رشاقة الأسلوب، فيحملني الإيقاع صوْب غابةِ سنديانٍ داكِن. الغابةُ حائط أشجار و نباتٍ. لا بابَ لأدخله أو دربَ لأسلكهُ، فالغابة محض جدارٍ. لكنّ الأمرَ بسيط جدا: آخذ جرعَة من نبيذٍ فاخر، فيتـّضحُ الطريق (شبه دربٍ ضيّق تحفـّهُ الأجمات). أخوضُ في الأعشاب و الطحْـلب المغمور بالضوء و الأملاح مقتفيا خطوةَ عابرٍ سابق – لا أعرف إن كانت خطوة إنسان أو حيوان بري - ...... ........ لا زلتُ أمشِي.

ANFASSEما إن بدأت وتلامذتي أكل حبات الكرز التي ضيعها أبو فياض بسلتها حين تيهته الحرائق التي التهمت العاصمة وأتت على الأخضر واليابس فيها، حتى سمعنا دقات خجولة على الباب..أسرعت وفتحته.. سلمتني الورقة المطوية وهي تقول: يقول لك أحضر مجلس التأديب حالا..اترك تلامذتك وتعال..
ـ هل أترك سلة حبات الكرز ورائي؟ تساءلت في السر..
ـ لا..أجبتني في السر أيضا..
عدت إلى المكتب..حملت السلة وخرجت..وتركتهم  يبحلقون في الباب مستنكرين..
دخلت مكتب المدير..قابلني وجه عمر مباشرة..                                                                                
ــ سبقتني ياعمر.. قلت..                                             
 ابتسم عمر ولم يقل شيئا..
نظر وهو ينزل من الحافلة إلى الناس أمامه..ومشى.. كان التعب باديا على وجهه..وكان الناس أمامه يتحركون ببطء..يتسلقون الطريق الترابية الضيقة التي أخذت تصعد به إلى القرية..الأشجار صفراء والمنازل يملأها الغبار..

مفضلات الشهر من القصص القصيرة