تاهت نظراتها فوق أمتعتها المركونة أمامها و كأنها ذكرياتها التي كومتها في جانب مظلم من أعماقها محاولة سجنها، التفتت لتلقي نظرة أخيرة على شرفتها التي طالما احتضنت ضحكاتهما و همساتهما و كانت أيضا شاهدة على جلساتهما الحميمية غيرما مرة.. فتدحرجت فوق خدها دمعة سارعت إلي تجفيفها بظهر يدها كما لو كانت تعنفها. حملت حقائبها و مشت و كأنها تهرب من ضعفها، من خوفها الكبير من أن يخونها شوقها فتعود أدراجها، لتمضي من جديد يومها في انتظار عودته في المساء ليرمي لها فتات عواطفه فتلتقطه و هي سعيدة بل راضية بأقل من ذلك. أخذت تمشي فوق أشواك حيرتها التي تخدش أفكارها و تترك بها ندوبا وجراحا، يحاصرها الندم على سنوات أمضتها في إلتقاط الفتات و انتظار ابتسامة من سيدها تعكس لها رضاه فتضاء حياتها.
أخيرا وصلتْ سيارة "البيكوب" إلى آخر منعرج من المنعرجات المسكوكة مثل أسورة هندية حول الجبل الشامخ..وتنفس إبراهيم الصعداء وهو يلتفت إلى زوجته زينة التي تجلس إلى يمينه كالصنم..بدا له وجهها ممتقعا وقد اختفت عن وجنتيها تلك الحمرة التي كانت تلازمهما ليلا ونهارا..ولكن جمالها البدوي الساحر لم يتأثر بهذه الساعات الأربع المتواصلة في رحلة جهنمية مرهقة..أدرك أن سفرها الأول هذا سيكون صعبا ومريرا بالنسبة إليها هي التي لم تغادر قمة الجبل منذ نعومة أظفارها..واستغرب كيف استطاعت أن تغالب الدوار الذي لا بد أن يصاب به كل من ركب مع دّاعلي سيارته "البيكوب" المهترئة والتي يستغرب الجميع من أين لها هذه القدرة العجيبة على تسلق الجبال والنزول منها يوميا دون أن تصاب بعطب.. التفت نحو دّاعلي القابع إلى يساره فإذا هو قد سوّى من جلسته بعد أن كان طوال المنعرجات اللامنتهية يمسك المقود بيديه المعروقتين وقد انحنى نحوه قليلا كأنه يتأهب لأي طارئ قد ينبثق فجأة خلف كل منعرج..رآه يتكئ إلى الخلف بظهره المقوس بعد أن أمسك المقود بيد واحدة ، ثم رفع قدمه اليسرى فوق لوحة القيادة ، وبدا كأنه متكئ فوق حصير..
يومٌ مصهود، تخلع فيه جلدك وتتنصّل من نفسك. جوٌّ كاتم يدفع الروح إلى الحلقوم، ويجعل الحياة غير متحمّلة بالمرة. حتى الصمت، الذي يهفو إليه المرء يغدو جرسَ تنغيص لا يهدأ طنينه في الأذن. جو نموذجي لارتكاب جريمة. هذه هي الحقيقة. أيامٌ من البرد اللاسع والأمطار، ثم فجأة، يهجم كل هذا الحر الدبق ك"مازوت" على إسفلت، الثقيل كالرصاص. ليحافظ الواحد على خفة الملاك فيه عليه أن يدخل بيته بأسرع ما يستطيع. أن يتحاشى كل الآخرين. أن يخلع حذاءه وملابسه (وحتى جلده إن قدر !) ويستلقي على فرشته. أن يغمض عينيه وحواسه عن العالم ويركز "نظره" على أقصى نقطة في العتمة، تماما كما يفعل "اليوغيون". أن يخلي ذهنه بالكل، ويغسل باله من يومه اللايطاق ذاك.. وينام.
شمس بلون القهوة.. وسماء تتكور كأنثى مولعة بالحب، أصابتها شهوة الانفجار. أجواء مفعمة بالخراب، رسمت المكان كترنيمة قديمة حطت رحالها، وباتت جزءاً متوحداً مع العتمة. في الظلمة، تبرز لوحة غريبة، وحدها اللوحة مصدر كل ألوان القهوة. مصاعدٌ خشبيةٌ تعتليها ثكنات وأكواخ متناثرة لها لون القهوة أيضاً. وفي زواياها يقبع رجال ونساء ذوي هيئات غريبة، بعضهم يقرأ وبعضهم يصطاد والعجوز ذو الجديلة الحمراء، يلقى بصنارته في الرمل؟ تساءلت: يا إلهي، ماذا يفعل؟
حين قرأ الرد ،على تعليق له لقصيدة النثر، في ركن المشاركات الجديدة، الذي طالما انتظره بصبر فارغ، شعر بامتلاء يهزه من الداخل، وراحت به الأفكار بعيدا، وحاصرته صور الماضي، وطوقته أطياف الذكريات البعيدة ،،كان الرد قصيدة قصيرة: جميلة دهشة أحرفك حملتني على عالم شعري جديد لأتوضأ بماء الحلم ولكني كنت أعلم بأن القصيدة تورث القلق وأن الشعر ينصب شباك النار
عاد إلي البيت وعلى وجهه غضب كاسر طمس كل الأسارير والأخاديد، ما عدا تجاعيد شرع ينحتها الزمن أسفل الذقن، تضفي على القسمات مزيد صلابة وقسوة، دون أن تمحي معالم الطيبة والوقار. وضع على المائدة كيسا صغيرا يحتوي قطع جبن وحليبا؛ فطور أبنائه في الصباح، ونزع قميصه. كان السكون يعم البيت. تفقد غرفة الصغار فألفاهم نائمين. ثم توجه إلى غرفة نومه.. رفع ستار الباب.. رأى زوجته نائمة أو متظاهرة بالنوم، فهي لا تصدر أي شخير. منذ مدة اعتادت أن تنيم أطفالها وتنام باكرا حين لا يكون ثمة داع للسهر والسمر. لاشك أنها تتفاداه.. فقد صار لا يربطهما إلا الجنس أو النكد. تذكر قول المرحوم أبيه ذات مرة أن الزوجة كالثلاجة تهدئ الرجل إذا عاد مشتعلا. وابتسم بجبهته وهو يضغط الأضراس على الأضراس.. هيهات يتجمد اللظى بالثلج.. ومن أين للمسكينة بالثلج؟.. نفس الحياة والضغط.. نفس الزنزانة واليحموم. حك أنفه بملء راحة كفه وأسدل الستار واتجه إلى مجلسه في ركن البهو. كان على الطاولة صحن أكل مغطى بورق الألمنيوم. مزق الورق وتناول لقمات خفيفة على عجل أسكت بها مغصا في معدته، واستند بظهره إلى وسادة. عدّل التلفزة على قناة إخبارية، وظل ينظر إليها بعينين ساهمتين.. يستمع للأخبار ولا يسمعها. حشرجات كثيرة تطن في رأسه، ودبيب نمل حاد يسري في أعماق صدره، ينفثه زفرات ساخنة تصاحبها نحنحات تخدش السكون.
يتأنى، يقتفي أثر خطواتها الثقيلة، يصعد العقبة الأخيرة، يحبس الأنفاس من مصاعدها، يتجشم عناء المكوث جائعا طوال ساعات بالقرب من الشلال الذي حيَّاهُ برذاذه المُنفلِتِ من البركة المتطاير على أبنية واطئة… حرك الماء برجليه فيما قبضت كفه اليمنى على جذع التصقت فروعه بالماء.. الهدير حلق به في أجواء مفعمة بالأحلام، رآه جذعا بلا أفنان، يأخذ عصا صغيرة ويلقي بها إلى البركة، يسمع صوتا ثم يرى دوائر تتسع فوق سطح البركة… تسع ثم تختفي … قبل ذلك بساعتين، وجد نفسه يبتعد عن المدينة الكبيرة مُنقاداً لشبح يتزين بأكاليل المطر، سبق له أن تابعها بعينيه المسحورتين، التفتتْ إليه المرة تلو الأخرى، منحته ابتسامة ثالثة ورابعة قبل أن تتعثر في أحد الحُفر بالقرب من أكبر دار سينما بالمدينة ، كان هو يسير كعادته على حافة الطوار المقابل، ضحكت عيناه وشعتا بالفرح وقد ابتسَمَتْ هذه المرة ابتسامة طويلة الأمد، شم هواء كثيرا… زفر بسعادة ثم شد على ذراع صديقه، تمنى لو أن شعرها لامس خده تواني قليلة فقط حتى يضع عليها بعضا من الياسمين، توقف برهة، تلذذ برؤيتها منتصبة بالقرب من النافورة وهي تلمس رخامها بأناملها… راودته أحلام وردية وأخذته بعيدا إلى غرفة صغيرة معتمة وسرير أنيق موشى بحرير تعبق فيه رائحة الورود وتنبعث من الجنبات موسيقى هادئة، قال لصديقه بعد أن عض على شفتيه: