"الكَلامُ عَن الطـُّفـولة يفْترضُ طُفولة ًفي الكَلام"
الشاعر والباحث المغربي: محمد أنوار محمد.
بدأتُ أكتشف بعض تفاصيل الحياة وأنا معلق بظهر والدتي..كنت أقضي نهاري كله وأنا مشدود إليه بطرف من القماش حسبته جزءا مني لفرط ما التصق بجسمي..لم أكن أرى من هذا الوجود إلا ما تسمح لي به المساحة الممتدة بين عنق والدتي وكتفها..كنت أحيانا أتطاول وأدفع بقدميّ في الهواء لألتقط مشهدا يستهويني..وأحيانا أكاد أحس أن والدتي تنحني قليلا لتمكنني من المشاهدة.. لا أدري لمَ كانت تصر على ربطي إلى ظهرها ، رغم أنني أستطيع أن أتحرك باستقلالية تامة عنها..ربما هي عادة متوارثة في قريتنا..وربما هي تعود إلى خشية الأمهات على أطفالهن من لدغات العقارب وسمومها القاتلة..إذ كثيرا ما يذهب الأطفال الذين يلهون في غفلة من أمهاتهم ضحية هذه اللدغات.. لذلك نادرا ما ترى امرأة لا تحمل طفلها على ظهرها حتى وإن تجاوز مرحلة الحبو..كل النساء اللائي يزرننا يأتين محملات بأطفالهن..بالأمس حين زارتنا جارتنا "أم الخيات" استرقتُ النظر إلى ظهرها..كانت ابنتها هي أيضا تشرئب نحوي في فضول..خلتُ أنها ابتسمتْ لي..ورأيتها تمد إليّ يدها وكأنها تهم بقول شئ..وحين ابتسمتُ بدوري كانت أمها قد استدارت فلم يعد يبدو منها إلا قذالها..سمعتُ والدي مرارا ينهر أمي ويأمرها أن تتركني أمشي على قدمي..كان يقول لها ساخرا أو غاضبا:"واتـِّي ما غاد تحيديش عليك هاذيك الحدبة؟راه الطفل كبر!" لا أخفيكم أنني كنت مرتاحا في وضعي ذاك..وشعرت أن والدي يغار مني..أو يحسدني على هذه المتعة..
من عادة أمي أن تستيقظ باكرا..فأشغال البيت لا حد لها..كانت تلتقطني من مكان نومي وأنا بين الغفوة واليقظة..فأراها منحنية حد الركوع تلقي بي على ظهرها كخرقة بالية ثم تحكم شد القماش إلى صدرها..وأحس أضلاعي تنشد إلى أضلاعها حتى إخال أننا سنصبح كيانا واحدا..ثم تنطلق نحو أعباء البيت التي تتكرر كل يوم..تبدأ بإيقاد النار أولا..فأحس بالاختناق جراء الدخان الكثيف الذي يتسلل ببطء شديد إلى الخارج من خلال كوة صغيرة في أعلى المطبخ..ومع ذلك كنت أستمتع برائحة الفضلات المجففة للبقر حين تلتهمها النيران فيستحيل لونها البني الغامق إلى حمرة يشتد أوارها بفعل النفخ المتكرر من فم والدتي..وتعود إلى خياشيمي تلك الرائحة العطِنة والمحبوبة في آن ، لفضلات البقر حين تسرع أمي إلى التقاطه ا من الأرض بمجرد ما تلفظها أمعاء البقرة ، فتحملها بيديها ، والبخار ما يزال ينبعث منها ، وتلصقها على الحائط حيث تبقى هناك أياما حتى تيبس وتصلح لإيقاد النار.. كانت تتنبأ باللحظات التي ستتخلص فيها البقرة من فضلاتها..وهي تحرص عليها حرصا شديدا لأنها مصدر مهم من مصادر الطاقة في قريتنا..عرفتُ قيمة هذه الفضلات ومكانتها لدى أمي يوم أحسستُ بها تعدو في اتجاه البقرة التي تخلصتْ للتو من فضلاتها..عرفتُ بعد حين أنها كانت تسابق الدجاجات التي تهافتتْ بدورها على تلك الفضلات فبعثرتها بأرجلها ذات اليمين وذات الشمال وهي تنقب بداخلها عن حبات شعير استعصت على الهضم..أدركت الغصة الشديدة التي استشعرتها أمي حين لم تجد ما تجمعه من تلك الفضلات ، فأنحتْ باللائمة على الدجاجات التي انتهتْ من وليمتها وراحت تحك أطراف مناقيرها على الأرض غير عابئة بما خلفته من خسائر..
ثم أنعشتني رائحة الحساء وقد تصاعد دخانه من القِدر الأسود الرابض فوق الفرن الطيني..وستتلوه بعد قليل رائحة الخبز وهي تتسلل إلى معدتي كما تتسلل خيوط الضوء من الطاقة الوحيدة في المطبخ..كنت محظوظا لأنني أول من يتناوله في البيت..فقد تعودتْ أمي أن تقتطع من أول خبزة تنضجها كسرة تلقي بها إليَّ وأنا رابض فوق ظهرها أترقب تلك اللحظة..كان له طعم خاص في فمي..لا أدري لماذا اقترن طعمه ، كلما أطلتُ الاحتفاظ به بين أسناني الطرية ، بمذاق حليب العنزة السوداء التي أعتبرها أمي من الرضاعة..كم كانت نظراتها إليَّ تروقني وأمي جالسة القرفصاء تحلبها..كانت تلتفت نحوي وتنظر إليَّ بعينيها النجلاوين فأحس فيهما حنانا وعطفا يملآن جسمي دفئا وطمأنينة..ورأيتها يوما تمد نحوي رأسها ، وأمي منهمكة باستدرار ضرعها ، فأخرجتْ لسانها ومسحتْ به على زغب رأسي وأنا مستسلم لها بين الرهبة والامتنان..تماما كما كانت تفعل مع جدْيها الصغير عندما فاجأتـْها أمي ذات صباح وقد بدأت تخرجه من بطنها..تدلى رأسه الصغير بين قائمتيها الخلفيتين قبل أن يسقط على الأرض..استدارت نحوه بخفة وشرعت في مسح زغبه الناعم ولحس ما علق بجسمه من بقايا دم وفرث..لكنه لم يعمر طويلا..فقد وجدته أمي بعد ثلاثة أيام ، وهي تهم بحلب البقرة ، مرفوسا تحت قوائمها.. نحَّته جانبا ثم جلست تحلبها برفق..كان قبالتي تماما..نظرت إليه مليا فانتابتني رغبة شديدة في البكاء..بقيَتْ عينه مفتوحة..وبدا لي وجهه الصغير كأنه يبتسم لي..كان منظره جميلا حتى وهو ميت..ومنذ ذلك اليوم وأنا أشرب كمية مضاعفة من حليب العنزة السوداء..وأحظى في نفس الوقت بعطفها الذي تعبر عنه نظرتها كلما سلـَّمَتْ ضرعها الذي ازداد اكتنازا لأنامل أمي الماهرة في اعتصار حليبه الدافئ اللذيذ..
بعد انتهاء أشغال المطبخ الصباحية تبدأ أمي جولتها التفقدية للماشية ، أو ما تبقى منها على الأصح ، قبل أن يخرجها أبي إلى الحقل..كانت تبدأ بالثور الرومي الذي يحظى لديها بمكانة خاصة لأنه هدية خالي بمناسبة ميلادي..ولكن والدي لم يفرح بتلك الهدية كما فرحتْ بها أمي..لأنه كان على خلاف شديد مع خالي بسبب مشاكل الإرث..كان يقول لها:"كون كان فيه خير كون جاب ليك (كرفة)* تـُلـد وتعطيك حليبة وزبيدة..أما لعجل آش من فضل فيه؟"ولم أره يعتني بالثور قط..لذلك ظلت أمي تحرص على تنظيف مربضه المتواري عن الأنظار ، وتهَيئ له أكلة النخالة المنقوعة في الماء..وتأخذ خلسة من المخزن كمية من الشعير تنثرها فوق التبن الموضوع أمامه بكل عناية..وكثيرا ما كانت تنظف وركه مما علق به من فضلات..وتم سح على رأسه وهي تتمتم بترنيمات تتردد فيها كلمة"خويي واخويي"..صحيح أنه لا فضل فيه بالنسبة لنا كما قال والدي ، ولكن فضله على القرية كان كبيرا..فكل سكان القرية ، أو بقراتها على الأصح ، تعرف"عجل امي رقية"..كان من سلالة هولاندية مستوردة..يملأ العين باكتنازه اللافت للنظر والتوزيع المتناسق للونين الأبيض والأسود على جسمه ، وقرنيه الممدودين مثل رمحين حادين..وكان فحلا بحق..لا يخطئ مبـيض البقرة أبدا كما قالت "حليمة الزهوانية" يوم ساقت بقرتها إلى بيتنا ، على غرار بقية نساء القرية ، وهي تخفي في حزامها قالب سكر تتشفع به للغرض المعلوم..يومها فكت رباط الثور بنفسها ، ثم دفعت بقرتها إلى مربضه..لم تغلق الباب كما كانت تفعل النساء الأخريات اللائي تعلو وجوهَهن حمرة الخجل فينسحبن بسرعة ، بل ظلت واقفة حتى رأت الثور يقع على بقرتها فأطلقت زغرودة طويلة أغلقت بعدها الباب وعادت نحونا ووجهها يطفح سعادة وبهجة..لامتها أمي على حماقتها فردت عليها باستخفاف :"واخويتي..وراه عرس هذا!"
عندما تنتهي أمي من تنظيف المربض الخاص بالثور بكل العناية التي يستحقها ، تبدأ في حلب البقرة..ويثير المشهد فضولي حين أرى العجل المولود حديثا ينازعها ضرع أمه بكثير من العناد والإصرار..كانت أمي تتركه يرضع لبعض الوقت لأنه بذلك يساعد على استدرار الحليب من الأثداء ، ثم تصرفه بعبارتها المعهودة"دمّر يا..دمّر!" وهو يغالب في الرجوع إلى مكانه..وقد رأيته غير ما مرة يندفع بإصرار نحو هدفه حتى كاد يسقطنا أرضا أنا وأمي..بل إنه في إحدى ال مرات ، وإمعانا منه في العناد ، تسبب في حرماننا من حليب أمه عندما أهرق الإناء المملوء على الأرض ، فاكتفينا يومها بحليب العنزة السوداء..عندما تنتهي أمي من "معركتها" مع العجل العنيد ، تحمل ما انتزعته من حليب إلى داخل البيت فتصفيه بواسطة قطعة ثوب شفاف وتحفظ نصفه في حلاب طيني كبير تغطيه بطبق من الدوم تستعمله عادة لتنقية حبوب القمح والشعير ، وتصب النصف الآخر في القِربة المصنوعة من جلد الماعز والمعلقة في حبل طويل يتدلى من سقف المطبخ..ثم تـُحكم إغلاق فم القِربة بالخيط الذي تحرص على الاحتفاظ به كلما جردت قالب سكر من غلافه..ويبقى الحليب هناك إلى أن يروب ، فتجلس جلستها المحببة أمام القربة وتمخضها على مهل وهي تردد ترانيم حزينة من محفوظاتها الجميلة..وأنا خلفها أهتز كلما دفعت القربة فأسمع حركة الحليب بداخلها تتناغم في إيقاع رتيب بين عملتي الدفع والجذب.. ثم تعود إلى الحوش لتجمع ما وضعته الدجاجات من بيض كيفما اتفق قبل أن تلتهمه الثعابين التي تـُقـاسمنا أجزاء من بيتنا..كثيرا ما كانت تتسلل من شقوق الحيطان أو تنبجس من جحورها كجداول مائية منسابة..أسمع أمي تقول حين ترى واحدا منها :"احنا بالله أب الشرع معك"..وتقف مكانها حتى ينصرف إلى حال سبيله..لم تكن قط تؤذيه أو تعترض سبيله..كانت تعتبره واحدا من سكان البيت..لذلك كان هو أيضا يراعي حرمة جيرانه ولا يضايقهم بل ينسحب ، كلما رآهم ، بلباقة وشرف..ولعل أسوأ اللحظات عندي هي حين تشرع أمي في كنس الأرض..كانت تستعمل مكنسة قصيرة من الدوم ، فتضطر إلى الانحناء طوال الوقت.. ويكون وضعي أنا غير مريح لأن رأسي يصبح مثل ثمرة مدلاة ، ولأن الغبار المتصاعد من الأرض يغطي كل رأسي ووجهي.. أستنشق بعمق هذه الرائحة المنبعثة من الأرض فتخترق كل مسامي لتستقر في رئتي وتختلط بدمي..ويصبح هذا العبق المفعم برائحة الحياة جزءا من كينونتي..أمي تحب أيضا هذه الرائحة دون شك..تحب هذه الأرض كثيرا.. رأيتها غير ما مرة تعمد إلى تفتيت جزء من الحائط وتأخذ منه قبصة صغيرة تضعها في فمها وهي تدندن بأغنية ذات مقام حزين لا أفهم منها سوى كلمات:" أرضي امي وبويَ.."تستغرق عملية الكنس زمنا طويلا لأن الباحات التي يتشكل منها البيت شاسعة..لذلك كثيرا ما يأخذني النوم في تلك الأثناء سيما وأن حركات أمي ، أثناء الكنس ، تهدهدني باهتزازاتها الم تتالية..
ومن اللحظات الأثيرة في بيتنا فترة ما بعد الزوال ، خاصة عندما تزورنا إحدى القريبات ، أو إحدى الجارات..وغالبا ما تمتد هذه الزيارات حتى غروب الشمس..فتكون فترة للاستراحة من أشغال البيت وعناء العمل..كنت أعرف أنني سوف أستمتع ، عندئذ ، بعطر القهوة المنسمة بالشيح والقرنفل وبهارات أخرى أصبحت جزءا من ذائقتي وإحساسي..كنت أتأمل إبريق القهوة وهو يغلي ببطء فوق نار هادئة ويتصاعد منه خيط رفيع سرعان ما يتبدد في فضاء المكان الواسع ناشرا عبقه المميز بين الأرجاء..وعلى نسماته تغزل الجالسات ، وقد تحلقن على مقربة منه ، أحاديث عن وقائع شهدتها القرية أو مناسبات يترقبنها بلهفة كبيرة..وكثيرا ما تحضر في أحاديثهن حكايات "حليمة الزهوانية" وآخرها ما حدث لها مع فقيه القرية الذي راودها عن نفسها ذات مساء وهي عائدة من الحقل..فرشق ته بحجر أصم شجت به رأسه الكبير الأصلع ، وأحدثت فيه جرحا عميقا ظل ينزف منه دم غزير حتى استحال جلبابه الأبيض الناصع إلى خرقة حمراء قانية..ولم يظهر له أثر بعدها في القرية..ولم يعرف أحد وجهته بعد ذلك..
وعندما يأتي المساء وتستسلم القرية في هدوء لظلمة الليل ينتابني إحساس غريب بالخوف ، ويتملكني شعور قاتم بالوحدة والعزلة ، سيما وأن الجلبة التي ظلت تشعرني بالأمن والطمأنينة طوال النهار ، تخفت تماما في هذه اللحظات مع مجئ الظلام..فلا تسمع إلا نباحا بعيدا لكلب أثاره أمر مريب أو نهيقَ حمار داعبت خياشيمه على حين غرة رائحة أتان قريبة..عند ذاك أزداد تشبثا بظهر والدتي وألتمس دفء الأمان في هذا المكان الذي أصبح بالنسبة لي هو كل عالمي وسبيلي لاكتشاف تفاصيل الحياة من حولي..
---------------------------------------------------------------
*(كرفة) : البقرة الفتية التي لم تلد بعد.
المصطفى السهلي – سلا الجديدة – المغرب -