شمس بلون القهوة.. وسماء تتكور كأنثى مولعة بالحب، أصابتها شهوة الانفجار. أجواء مفعمة بالخراب، رسمت المكان كترنيمة قديمة حطت رحالها، وباتت جزءاً متوحداً مع العتمة. في الظلمة، تبرز لوحة غريبة، وحدها اللوحة مصدر كل ألوان القهوة. مصاعدٌ خشبيةٌ تعتليها ثكنات وأكواخ متناثرة لها لون القهوة أيضاً. وفي زواياها يقبع رجال ونساء ذوي هيئات غريبة، بعضهم يقرأ وبعضهم يصطاد والعجوز ذو الجديلة الحمراء، يلقى بصنارته في الرمل؟ تساءلت: يا إلهي، ماذا يفعل؟
حين قرأ الرد ،على تعليق له لقصيدة النثر، في ركن المشاركات الجديدة، الذي طالما انتظره بصبر فارغ، شعر بامتلاء يهزه من الداخل، وراحت به الأفكار بعيدا، وحاصرته صور الماضي، وطوقته أطياف الذكريات البعيدة ،،كان الرد قصيدة قصيرة: جميلة دهشة أحرفك حملتني على عالم شعري جديد لأتوضأ بماء الحلم ولكني كنت أعلم بأن القصيدة تورث القلق وأن الشعر ينصب شباك النار
عاد إلي البيت وعلى وجهه غضب كاسر طمس كل الأسارير والأخاديد، ما عدا تجاعيد شرع ينحتها الزمن أسفل الذقن، تضفي على القسمات مزيد صلابة وقسوة، دون أن تمحي معالم الطيبة والوقار. وضع على المائدة كيسا صغيرا يحتوي قطع جبن وحليبا؛ فطور أبنائه في الصباح، ونزع قميصه. كان السكون يعم البيت. تفقد غرفة الصغار فألفاهم نائمين. ثم توجه إلى غرفة نومه.. رفع ستار الباب.. رأى زوجته نائمة أو متظاهرة بالنوم، فهي لا تصدر أي شخير. منذ مدة اعتادت أن تنيم أطفالها وتنام باكرا حين لا يكون ثمة داع للسهر والسمر. لاشك أنها تتفاداه.. فقد صار لا يربطهما إلا الجنس أو النكد. تذكر قول المرحوم أبيه ذات مرة أن الزوجة كالثلاجة تهدئ الرجل إذا عاد مشتعلا. وابتسم بجبهته وهو يضغط الأضراس على الأضراس.. هيهات يتجمد اللظى بالثلج.. ومن أين للمسكينة بالثلج؟.. نفس الحياة والضغط.. نفس الزنزانة واليحموم. حك أنفه بملء راحة كفه وأسدل الستار واتجه إلى مجلسه في ركن البهو. كان على الطاولة صحن أكل مغطى بورق الألمنيوم. مزق الورق وتناول لقمات خفيفة على عجل أسكت بها مغصا في معدته، واستند بظهره إلى وسادة. عدّل التلفزة على قناة إخبارية، وظل ينظر إليها بعينين ساهمتين.. يستمع للأخبار ولا يسمعها. حشرجات كثيرة تطن في رأسه، ودبيب نمل حاد يسري في أعماق صدره، ينفثه زفرات ساخنة تصاحبها نحنحات تخدش السكون.
يتأنى، يقتفي أثر خطواتها الثقيلة، يصعد العقبة الأخيرة، يحبس الأنفاس من مصاعدها، يتجشم عناء المكوث جائعا طوال ساعات بالقرب من الشلال الذي حيَّاهُ برذاذه المُنفلِتِ من البركة المتطاير على أبنية واطئة… حرك الماء برجليه فيما قبضت كفه اليمنى على جذع التصقت فروعه بالماء.. الهدير حلق به في أجواء مفعمة بالأحلام، رآه جذعا بلا أفنان، يأخذ عصا صغيرة ويلقي بها إلى البركة، يسمع صوتا ثم يرى دوائر تتسع فوق سطح البركة… تسع ثم تختفي … قبل ذلك بساعتين، وجد نفسه يبتعد عن المدينة الكبيرة مُنقاداً لشبح يتزين بأكاليل المطر، سبق له أن تابعها بعينيه المسحورتين، التفتتْ إليه المرة تلو الأخرى، منحته ابتسامة ثالثة ورابعة قبل أن تتعثر في أحد الحُفر بالقرب من أكبر دار سينما بالمدينة ، كان هو يسير كعادته على حافة الطوار المقابل، ضحكت عيناه وشعتا بالفرح وقد ابتسَمَتْ هذه المرة ابتسامة طويلة الأمد، شم هواء كثيرا… زفر بسعادة ثم شد على ذراع صديقه، تمنى لو أن شعرها لامس خده تواني قليلة فقط حتى يضع عليها بعضا من الياسمين، توقف برهة، تلذذ برؤيتها منتصبة بالقرب من النافورة وهي تلمس رخامها بأناملها… راودته أحلام وردية وأخذته بعيدا إلى غرفة صغيرة معتمة وسرير أنيق موشى بحرير تعبق فيه رائحة الورود وتنبعث من الجنبات موسيقى هادئة، قال لصديقه بعد أن عض على شفتيه:
جولة مسائية في مدينة الرماد،الرأس طبعا عامر،بالكوارث وبأشياء أخرى، مصروف الجيب على المقاس كالعادة.المساء بارد والسماء كما في كتابات العبثيين غائمة ومكفهرة،كل ذلك يغري المعدة بالإنحشار داخل محل لبيع المأكولات الخفيفة ولو تطلب الأمر الإنتظار في طابور طويل.هنا بمكن للمرء أن يسمع الأخبار والتعاليق وأشياء أخرى،بعد ذلك لا يتنازع داخلك اثنان حول وجوب اقتحام شارع بئر انزران،هناك تصادف وجوها تعرفها وابتسامة مغرية من إحداهن لكنك تشيح ببصرك عنها كأي مغفل فقط لأنك لا تملك ما يكفي من نقود لدعوتها للنزهة في أقرب مقهى،في الأخير تنهال بجسدك على الكرسي لتشرب كوب السائل الأسود المر وحدك، تدخن قليلا لتظل صامتا وأيضا لتبدد الضيق العميق..وراءك أحاديث تصلك منها بضع كلمات لكنها مبتورة غير ذات أهمية على الإطلاق..كأنما الكلمات تفقد جوهرها حينما تنطق أو لأن ما يقال و حتى ما لا يقال عبث في عبث مادام العالم لا يتغير...
أصحو فجأة من نومي، دون سبب محدد، أستجدي النوم بأن أعد الخراف في خيالي وهي تقفز فوق سور خشبي، أعد من واحد إلى مائة، ولكن دون جدوى، أشعل النور، وأبحث عن ساعتي، إنها الواحدة صباحا، لا زال الوقت مبكرا على الصحو. إنها ليلة بيضاء جديدة، لا أدري لماذا أعاني الأرق هذا الأسبوع، أبحث بين كتبي المبعثرة في كل أرجاء الغرفة عن شيء يسليني، أفتح ألبوم صوري وأتصفحه صورة صورة، أقوم من فراشي بعد أن فقدت الأمل في عودة النوم إلى مداعبة أجفاني. صمت مطبق يلف المكان، أحس برغبة عارمة في الحديث إلى أي كان، تستهويني الفكرة فأسارع إلى هاتفي النقال، أطلب رقم حبيبتي فأجد هاتفها مقفلا، أقلب صفحات مذكرتي:من يا ترى يمكن أن أتصل بهفي هذا الوقت دون أن يلعنني في سره .. لا أحد سيتحملني غيرها .. أرمي مذكرتي بعيدا.. ما العمل في هذه الليلة السوداء؟ وكيف أقضي وقتي حتى الصباح؟ أعود مجددا إلى فراشي أطفيء النور..أعد من واحد إلى عشرة ومن عشرة إلى واحد، لكن هذا النوم اللعين يرفض أن يأتي.. لا أدري لماذا أصحو عندما ينام الناس وأنام عندما يصحون ! تعود زملائي طيلة هذا الأسبوع.. علي وأنا نائم على سطح مكتبي، وتعودوا أيضا أن يحاصروني بأسئلتهم الملغومة. - أين قضيت ليلتك أيها العفريت؟
عيون تبكي.. صدور تشهق بالحزن وتغلي بالكره والثورة، أفواه تلهج بالدعاء وبعضها بالسباب والجميع رجالا ونساء.. شيوخًا وأطفالا أخرجوا من بيوتهم، يحملون مايقدرون عليه من أمتعة تاركين ممتلكاتهم التي أفنى البعض منهم عمره ريثما تسنى له الحصول عليها.. أغلق الغزاة الأبواب خلف ملاكها، ودخلوها مستوطنين.. وقف الأهالي في الشارع ينتظرون الحافلات التي ستنقلهم خارج الحدود، وعيونهم تسجل الصور الحية الأخيرة لمدينتهم.. (عكا) كم أنت جميلة وحبيبة إلى القلوب.. ماأصعب لحظة الوداع.. تبًا لهم، هاهم يطردوننا من ديارنا، والدمع يسقي الوجوه نارا. وصلت الحافلات.. أسرع الجميع للصعود إليها رغمًا عنهم.. كانت تنتظر دورها لصعود الحافلة.. لم يبقَ غيرها.. امتدت الأيدي لمساعدتها.. لم تستطع ولوج الباب لضخامة جسدها... الباب لايتسع لها.. حاولت الدخول بكتفها اليساري أولا ثم اليميني.. فشلت أيضًا.. أسرع شبان العائلة لحشرها في الباب.. كاد جنبا الباب يأكلان من جسدها.. لم تفلح المحاولة، والجنود الغزاة يرون ذلك ويضحكون..