anfasseنزل عليه النبأ كالصاعقة..بقي مسمَّرا في مكانه كأنما شلت أطرافه..من أين له تدبير المال الكافي في انتظار تسوية المشكل الإداري الذي يعرف جيدا تعقيداته البيروقراطية وتشعباته المسطرية..نهره الموظف من خلف الشباك :
- اتصلْ بصندوق التقاعد لتعرف سبب حجز معاشك..ودَعْ مَنْ يليك في الصف يتقدم..
التفت إلى الذي يليه في الصف فإذا هو في مثل سنه ، وإن كان لا يزال يفيض حيوية ونشاطا..جر خطاه المتثاقلة في اتجاه الباب وهو يلعن في سره هذا الحظ التعس الذي ما فتئ يلازمه..توجه نحو البناية التي تضم مكاتب صندوق التقاعد ، وشرح للموظفة في مكتب الاستقبال مشكلته ، فأحالته على المكتب المختص..قال الموظف بعد أن استنطق شاشة الحاسوب أمامه :
- تنقص ملفك شهادة الحياة..لا يمكن أن يُصرف معاشك دون توفر هذه الشهادة..
رد بلهجة لم يستطع معها إخفاء ما يغلي في صدره من غضب وثورة :
- ولكنني حي أرزق..ها أنذا واقف أمامك..هل هناك شهادة أكثر مصداقية من هذه؟
رفع إليه الموظف عينين كعيني لبؤة متوثبة للانقضاض على فريستها :

anfasseما دام شقائي محتوما فلماذا أعيش؟ وقف السؤال في نقطة من الوعي تأبى السير إلى الماضي. فتسمرت رجلاه قرب النافذة وأحكمت يداه القبض على الحافة بقوة وحزم. هل يريد الإنتحار حقا، أم أنه يختبر الحالة فقط؟  إلتفت إلى الداخل فصد بصره ظلام ثقيل يسكن الغرفة ويتمدد عبر الباب ليبتلع ما بقي من أعضاء الشقة. صحيح أن الألم يحز في قلبه الساعة، لكن ليس الألم ما يدفع به إلى هذا الموقف الجنوني. هكذا قرر وهو يكابد شعورا قويا لا يقاوم بأنه يهوي إلى أعماق سحيقة. وتخايلت لعينيه صورعدة من الماضي. رأى وجه أمه الشاحب قبل موتها بساعات، لاح له شبح أبوه وقد احتقن به الدم وشارفت روحه على الصعود، ونزلت على وعيه بقوة صورة أخيه الذي أصيب بالإيدز وقد علته الأورام وانتفخ وجهه كإسفنجة.
    جر نفسا عميقا وأغمض عينيه محاولا جمع تركيزه المبعثر في نقطة واحدة. ولكن التركيز تأبى عليه، ولما شعر بأن محاولته تبوء بالفشل، عاد ينظر إلى فكرة الإنتحار بشيء من الإهتمام البعيد عن الخوف أو التهيب. وكأنما يتأمل قصة بطلها شخص آخر تماما. فتح عينيه ورمى ببصره إلى أسف العمارة حيث لاح له شبح ضخم لشجرة مورقة تنتصب في الرصيف بجانب العمارة. لقد مر عليه عمر طويل وهو قابع في هذا البيت! لقد قدح هيكل الشجرة زناد ذاكرته من جديد وتخايل لعينيه ذاك اليوم الذي قدم فيه مع أهله إلى هذه العمارة، حيث كانت تلك الشجرة لا تزال شتلة صغيرة لا تكاد تبين إذا نظر إليها ناظر من النافذة. إنه يوم بعيد موغل في الماضي. ولكنه قريب من مراكز الإحساس والتصوير.

anfasseحدثني صديقي ابراهيم فقال إنه أطعم قطه بقايا وفيرة لسمكة عظيمة ، أتى بها في ذلك اليوم لوجبة غذاء الأسرة التي تضم الأب والأم وابناً وابنة .وأنه اعتاد رعاية القط بكل ما تيسر من طعام وشراب ومأوى. لا يؤمن له حقاً كحال الأجنبيين الأطعمة المعلبة المخصصة للقطط التي تباع في المولات ومحلات السوبر ماركت الكبيرة . وتفسيره لذلك أنه لا حاجة لقطه العزيز بطعام معلب محفوظ ، فهو أي القط ( أجل القط وليس القطة كما أكد صديقي المتقاعد ) يشارك أهل البيت قوتهم اليومي ، وينال نصيبه كواحد منهم مع مراعاة أنه نهم أكول ، شهيته مفتوحة وعينه فارغة .، ولا راد  لنهمه في ظروف الوحدة التي يعيشها ،فهو أي القط المحترم يتيم ، وقد عاش أحوالاً مروعة شهد عليها صديقي بنفسه . فقد افترست أمه الرؤوم شقيقاً له أي مولودها وبعد ولادته بأسبوعين ،وهو ما لا يملك صديقي تفسيراً له ، سوى المصادقة على القول المأثور عن القطط ثم الثورات التي تأكل أبناءها . وهرب قط ثان شقيق له من هول ما راى ولم يعد . ولم يلبث كلب ضال أن تسلل إلى الحديقة ذات ليلة بلا قمر ،وافترس بدوره القطة الأم . أما الأب ، القط الأب فلا علم لصديقي بشأنه شيئاً . فالقطط تتلاقى وتتكاثر بغير ارتباطات زوجية مقدسة ، ودون إخلاص يذكر للزوج في حال وجوده . وبهذا فإن القط ، قط صديقي الذي أسماه ألون ، هو فوق يتمه ووحدته سليل أسرة شقية مثلومة الشرف وضيعة المحتد . منكودة ومنكوبة . ولم يعد له من راع وحام ونصير في الأرجاء الفسيحة ، سوى صديقي ابراهيم الذي يتعاطف معه ويحدب عليه ما وسعه ذلك .

anfasseضحكت وقد بدت أسنانها المنتشية كأزهار البنفسج فى فصل الربيع
توارت للوراء قليلاً وقد أسدلت عصابة سوداء لتخفى نصف وجهها الأسفل
لتظهرعيناها المكتحلة كبقعة حبرعلى صفحة بيضاء
أو كعصفور الجنة محلقًا على خلفية من السحب الحبلى كالعهن الابيض
ازاحت قليلاً غطاء وجهها فارتجف حين بدت شفتاها المكتظة بخلاصة عصائر الدنيا
كان يعشق نكهة الفراولة ربما لأنها الأقرب شبهاً إلى شفتاها أو إلى وجنتيها
ودارت فى رأسه الأفكار عن مخزون العسل المصفى وبقايا الخطيئة الاولى
وابتسم حين بدأت تردد على مسامعه رقم هاتفه الجوال وكان قد سألها إن كانت تذكر رقم هاتفه
فرددت الرقم كاملاً وهى تتمايل كأنها أعواد الياسمين يداعبها قطر الندى لتعلن بداية العهد الجديد

anfasseهداء إلى فارس القصة القصيرة د.يوسف ادريس فى الذكرى الثامنة عشر على رحيله"
كان وقت الغروب يخيم على أرجاء البلدة الصغيرة
جمع من الناس على رصيف القطار المتجه جنوبا ً
والأمتعة المتناثرة على الرصيف المتهدم تجعل السير مهمة صعبة
كانت هى تجلس فى مكان منعزل وكأنها ملكة ترعى شئون العامة من برجها العاجى
اقترب هو يحمل أمتعته التى لا تخلو مما أعدته أمه قبل كل رحلة سفر
توقف القطار للحظات فاندفعا للداخل مع جموع المسافرين
بصعوبة بالغة وصلا الى مقاعدهما والتى كانت متجاورة
جلست فى صمت وجلس هو يتأمل ما أفاض به الرب
كان الباعة الجائلون يخترقون ذلك الصمت
ينثرون الحلوى أو دبابيس الشعر وأشياء لا تخطرعلى بال

anfasseتصاعدت الحناجر هادرة تلعلع في المكان. نظر إليها وهي مازالت ترفع عقيرتها بالشعارات الرنانة الطنانة وسط زغاريد زميلاتها.
قال لها:
 - ما رأيك لو ننقل المظاهرة خارج هذه الأسوار؟
دون أن ينتظر ردها جرها من يدها. غير بعيد عن الأسوار، وهما يفترشان العشب تناوبا عن الصراخ واللهاث ورفع الشعارات. فرغم أنها بدت متحشرجة مختلفة، إلا أنها كانت في نفس حدة وقوة الأصوات التي تصلهما من هناك. وفي حمأة احتجاجاتهما الهذيانية سألته:
- ما الفرق بين الصراخ هنا في الداخل والصراخ هناك في الخارج؟

anfasse- أعترف .... و لم لا ؟؟؟
- سأعترف، أو بلغة اليوم، أمارس نقدا ذاتيا. أنا وأعوذ بالله من قولة أنا، مشروع كاتب فاشل مع سبق الإصرار و الترصد.
- أدخن بشراهة كبطة منقوعة بالماء، أو قل : كمصنع ارتأى ربه أن يكون في خدمة بيئة سليمة...
- ها . . ها . . ها . . أراك تلوي شفتك العليا متهكما ، لا يهم . . المهم يا صاحبي أن تعلم، جازاك الله و أيدك، أن أصعب أوقات الإنسان حينما يتراءى لنفسه كديك منفوش أو كلب أجرب في أحسن الحالات، و قد جربت و لا فخر الإثنين . . .
- قبل أن يتمم كلامه (أقصد صاحب البذلة السوداء  التي انمحى لونها و ذا الشعر الأشعت) كان بلحراكة قد تنحنح :
- " يا بسم الله، على بركة الله."
- و أدار محرك سيارته (الرونو 18) البيضاء كسحابة صيف، و سلك الطريق الجنوبية.
- جلست بقرب الرجل الذي بدأ حكايته الآن، و قد تعتعه السكر، و كل ما يسكر فهو خمر، و كل خمر فهو حرام، حتى ذلك الذي يعبه صاحبنا من حين لآخر.

anfasseالتقط من بين كل تلك الأوراق المتزاحمة على المائدة تلك الورقة المنكمشة التي من المفروض أن تلقى في القمامة. فتحها محملقا بين سطورها دقائق حسبتها دهرا. سطور أعرفها كما قلمي. كلماتها تفر حينا وتركض حينا آخر وبين الإقبال والأدبار ، تتلاشى الكلمات على جسد تلك الورقة العارية في منافي من صمت وسكون.
في ذلك المكان البعيد عن كل الأوطان، وقفت تلك الكلمات عند مفترق الطرق، كما لو كانت جليدا. كلمات كانت تحلم بالمدى، شاردة، حاسرة القلب، تصطك بين جبال الموج التي تضرم فزعها الغافي وتيارات التيه تقود حروفي لتختفي في ظلام بارد كالصقيع. سواد حالك يحضن الليل وينام في زوايا السكون فاقدا كل شيء. سواد محفور في حنايا القلب، يجامل ويؤلم وينخر ويتعب وفي الظلام وشاح بكل الألوان.
هكذا كانت تلك السطور مجنونة في متاهات الشرود، تتهافت في زحمة الأفكار المنكسرة، تئن بصوت مبحوح عن المساءات الماسية، وعن ظل منكسر، ووحدة مرتجفة وعن تنهدات تبكي ألم الغموض، والصمت المتواطئ في جحود وشذوذ وفراغ.
أهو الألق من القلق أو ارتباك الخوف من المجهول؟ أهو الماضي المخلوط بالحاضر ورهبة المستقبل أو سفر بين طرقات المنافي التي لا تنتهي  أو فقط حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة