abstrait12إني اراهم هناك ..على تلة هادئة..يعفرون وجه السماء بغبار قطعانهم ..يمدحون الله بموال ..مشدود إلى أوتار القلب ..يصفرون..يغنون ..يركضون خلف الحِملان الوجلة ..يمتليء الوادي ثغاء ..وحين يتعبون ..ينتقون من قعر الوادي حجارة ملساء..يصُفونها ..ويوقدون عليها النار ..حين تتقد الحجارة يطهون عليها خبزهم..ويُعدون شايهم ..ينتشون بما جادت عليهم به ..يد الإله الحانية .. يتمددون ..يتقلبون كأنما التل فر اش اثير..تبرك الشياه حولهم .. يهدأ كل شيء ..
إني اراهم هناك..بعد أن مالت الشمس إلى المغيب ..يتلاومون ..يركلون أشياءهم غيظا ..القطعان تفرقت ايادي سبأ..يممت كل شاة إلى حيث الكلأ الوفير .. ركضوا بجنون في كل اتجاه.. يلملمون شعث القطيع .. صفير و صياح وثغاء يُحيل المدى سمفونية صاخبة .. تجمعت الشويهات بعد إنهاك و غضب ..جدت المسير صوب القرية ..كتائب من الصوف الأبيض تكسر رتابة المشهد ..

abstrait11تعبت من أحاديثها الضيقة، وتعبت من مرافقتها المضجرة، كل ساعة تعيد نفس القصة على مسامعي.... تزيد فيها مرة... وتنقص مرة أخرى... تصنع من نفسها بطلة أسطورية ثم تنتهي في موشحات عقيمة جدا: الحب يا أخي نار من لهب، تأكلك إذا رميت بنفسك فيها...  وما أن تصالحها تمنحك السلم والذهب.... أوصيك والوصاية لا تقتل ولا تحيي... امنحه كل شيء، ولا تستسلم له ببطء، الحب يجب احترامه ...
وأنا أجيبها: لا عليك سأفعل ما تطلبين بالحرف الواحد .
عندما وصلنا إلى البيت، ارتحت من موال النساء هذا قليلا. أحضرت طبقا من الفاكهة بشتى الأصناف والألوان، قشرت موزة وناولتني إياها وهي تبتسم ابتسامة حريمية وتقول: نسيت أن أقص عليك قصة. قمت منتفضا من مكاني كأني سمعت زئير أسد، ثم توجهت إلى غرفة النوم، وضعت الرداء على عيني وغبت في رحمة النوم .

coulerBougiesانتبهت أشجانُ من نومها مذعورةً, صوتُ ارتطام وجلبة بالخارج, نورُ الغرفةِ قضى نحبه بقيلولة التيار, تحسستْ وقع الأصواتِ, مناشرُ الغسيل تصطك وتذروها الرياح, زخاتُ المطر تطرق النوافذ كمن يعاقب.
تأففتْ قائلة: وليلة ممطرة طويلة...نهضتْ متثاقلة الأعطاف, تتحسس هدى أقدامها مستعينة بيديها, بالكاد استطاعت أن تنير شمعتها, ألقتْ نظرة على صغيريها...أكرم و رماح, الصغير يضمُّ صدرُهُ أقدامَه منكمشاً, أتراه البرد أتى عليه ؟ أم احتياجه لأبيه وحنانه المسلوب؟ تمددتْ بجانبه ...أشعرته بقربها وحنانها, أحكمتْ غطاءه, انتبه الصغير لشذا أنفاسها, وبلا قصدٍ طوقتْ ذراعُه عنقها, راحتْ تعبثُ بخصلات شعره, تحاول منحه أماناً تفتقده, وحين استغرق فى نومه ....أزاحتْ يده برفق وانسلتْ إلى مضجعها, لفها القهر والبردُ, خاصم النوم مقلتيها, اتخذتْ زند الأرق وسادةً, أسندتْ السريرَ إلى ظهرها, تمنتْ أن يكون لقلبها وعينها أفواه لتصيحَ من فرط ما تحمل من آلامٍ, ضرب النومُ ستاراً بينه وبين مآقيها, أرختْ الجفونَ وراحتْ تقلبُ سنواتِ عمرها, شعرت بانصهار الحياة من جبينها بفعل مجتمع لا يرحم, خيطُ الليل يلفظها فى هوة الوحدة, وأنين الدمع يكسو محياها, دمعاتٌ تتدلى من رموشٍ ذابلة, كأن الكلَّ يعلن حداداً على وأدِ أنوثة هذا الجسد, ترتعش أنفها ويضطربُ عرنينُها متخلياً عن بعض الكرامة ليشارك فى تأبين مشاعرها, لا تسمع أشجان إلا هديراً بداخلها كمدِّ البحر وجزره.

47استيقظت على مضض، فقد نامت مع ظهور أول خيط نور، التفتت إلى زوجها النائم بسلام، تأملت ملامحه الملائكية و هو يغط في نوم عميق، ربتت على شعره في حب و نهضت ، فمنذ زواجهما الذي مرت عليه السنة، كانت تحب أن تنهض قبله لتختار له ما سيرتديه، تجهز فطوره بحب و اهتمام كبير ثم توقظه، لكنها اليوم تشعر بعياء شديد بسبب توالي ليال من الأرق و التفكير.
توجهت إلى الحمام و هي تجر رجليها جرا و كأنهما باتتا عاجزتين عن حملها، نظرت إلى صورتها المنعكسة في المرآة و تأوهت، عيناها اللتان أسرتا زوجها من أول لقاء و أوقعته في شباك حبها، قد نشر التعب النفسي الذي تحسه بظلاله السوداء حولهما و غزت تجاعيد رقيقة جوانبها.. لتمتص بعضا من سحرها، أطلقت زفرة عميقة تعتق بها آلامها المسجونة بداخلها و التي تحاول جاهدة كتمها عن زوجها.
يا إلهي ارحمني و اهدني إلى حل يبعد عني أذرع ذاك الأخطبوط البغيض، لكم بت أكرهه.

manalhamdiوصلته الصور محمّضة وهو يقضي العطلة في العقبة مع زوجته. غمرت الابتسامة وجهه وهو يقلّبها بين يديه. اقترب من زوجته يريها إياها، فأمسكت تعاينها: طفل تسير فوقه دبابة أمريكية في العراق، نار مشتعلة في جثث آدميين لبنانيين، عراقيون وفلسطينيون في مجازر جماعية، ثم صورة أخرى لجثث انهالت عليها حيطان منزل هدّمته قاصفات ودبابات إسرائيلية. محمّد الدرّة وهو يموت رميًا بالرصاص.
لم تستطع رؤية المزيد من هذه الصور. أدارت وجهها متحاشية النظر إليها:
"يا إلهي، كيف التقطتَ هذه الصور؟!"
ردَّ بفراسة جندي: "هذا عملي؟ أرسلوها لي من عمّان لأراها. ليس أيُّ صحفي يستطيع التقاطها. خاطرتُ بحياتي وأنا أزجُّ نفسي في هذه المخاطر لأكون الأول فيها. دمي مُستباح ككل هؤلاء، وهم يلقون بالحجارة على الأعداء!".
"وأنتَ أيضًا كالجنود القَتَلَة. هم من يتيحون لك فرصة التقاط هذه الصور النادرة!" 
همّت بالمغادرة عندما سألها بخيبة أمل:

49انقذفت للخارج. كان هو عينه يمشي في خطوي كظلي. يلاحق إيقاع سيري. يطاردني بلا هوادة!. ثم دهمني سيل أسام : ابن جلجل ، ابن المثنى، ابن شملال، ابن تومرت.....ابن القفطي. سيل لا ينضب، وأنا تياه في ليل شارع خال. كيف أمكن لرجل أن يعدم وجاهة الألقاب منذ فجر التاريخ، ويقضي حياته يدون أعيان الأسماء حسب حروف الهجاء بدءا من الهمزة إلى الياء؛ دون أن تطوقه طبقاتهم، ولا تواريخ وفياتهم ؟!. الحي القريب ضوؤه يلوح باهتا، وسيل آخر يندفع: ابن بسام، ابن زائدة، ابن الهبارية، ابن الفضل، ابن باشاد، ابن التعاويذي...ابن قلاقس...ماذا صرت ؟. لائحة أسماء، أم نسابة جديدا؟!. اختلطت علي الأشياء. توقفت أتحسس أعضائي؛ أتثبت من السلامة، ثم عرجت على اليمين. وسرت أتطلع إلى الدور العصرية المتراصة من حولي. بدا جليا أن المعماري الذي كان أول من خطها على أوراقه؛ مغرم بالدوائر. كل واجهة تدوير إسمنتي مصبوغ، والواجهات تختلف في تشكل أحجام الإسمنت عليها. أقواس هندسة الدوائر تعطي انطباعا باقترابها منك؛ ولو أنها بعيدة، أو عالية. إحدى الشرفات يتدلى منها نبات أخطبوطي يضفي هسيسا، ويعبق برائحة ليست كريهة، وليست طيبة أيضا، أو هي طيبة إذ لا يمكن أن تكون إلا كذلك، وهي تعم الشرفة.  فذاكرة الشم لا تحتفظ لها بأثر،  ولم يسبق أن ضمختني على أية حال.

62كان الطاهر حجرا في جوفه قلب ، كان يكتسب قوته بالتدحرج بين الطبقات المتطاحنة  ، وعندما يزداد الضغط حوله يتطاير عنه شرر سرعان ما يتلاشى ويخبو ، وقد تنز من جبينه قطرات؛ يحسبها البعض ماء؛ ويراها البعض عبرات .
تلمس و قرأ في فترة تشكله شيئا من طبائع الأشياء؛ مغتنما اختلاف نظرات الخلق إليه ، واقتناع البعض بعدم صلاحيته للبناء أو الترميم  ، وولع البعض بسحر الطفولة ، جميل  ولين فقير  وحماه مظهره من ضعفه .
و في رحلة التحول  تحمل حز المدي ، و دوران الألسنة على مختلف المواضع الملساء الظاهرة من جسمه ، وتحمل قذارة المتيممين في الكُتاب عندما حمل إليه ؛ بعدما أصاب وباء مواشي ملاك الأرض، وتعلقت آمال السادة وأحلامهم بهامات السنابل المشرئبة التي راحت تعمُر و تتذهب كي تسجد تسبيحا لربها قبل أن يفتك بأعناقها وتكون نعمة للأشرار... و للأخيار، ولأنه لم يعد يصلح لشيء بعد هلاك البهائم جيء به إلى المقام ليخدم نازليه... مطيعا ،صامتا، منصتا ، متحفزا لتلبية الأوامر، حريصا على  امتصاص  ما استعصى على الفناء من رحيق العقول حتى مهر في تهجية النصوص ، ثم أدمن قراءة قصاصات الجرائد المرمية التي تلف فيها حاجات الناس وأشجانهم الميتة ، ثم الرسائل ، ثم الكتب ،ثم تظاهر بأنه أدمن العطالة أقرب الصفات إليه ، وأنسبها لضعفه و وضاعة أصله، وأصبحت القراءة تفتك بجزء كبير من وقته فتزيده فقرا ، ولكنه كان يجد لذة تجعل الماء بجوفه يضطرب ، تنسيه التفكير بوضع أحسن، وتعزيه .

134... في شُقّة ما في الطّابق الثّالثِ يفتَحُ الشّاشة َ، وحتّى النّافذة َ ،ويُطِلُّ على الكون.في وسط الطّابقِ تندسُّ الشقّةُ. والطّابِقُ في أعلى عِمارة أصلُها ثابتٌ في شارِع كثيفِ البؤْسِ، مدفون في الوحشةِ. والمدينة ُ محفوفة ٌ بالضّبابِ، غارسةٌ في الرّطوبةِ ،يلُفُّها عَفَنٌ كبيرٌ. ويخترِقُها عبرالأحشاءِ والأزقّةِ وخلايا الأمكنةِ صمت محضٌ .. والشّاشة  في أيّامِ الرّاحاتِ الأسبوعيّةِ والعُطَلِ تذبحُ الصّمتَ المتطايرَ من الجدران والنّوافذ، ومن أمكنة عدّة.. ومنذ الفجرِ، بعد أن يفْنى صوتُ المؤذّنِ وتنمحي غمغمة المُصلّين الخارجين من العبادةِ ويتلملمُ الكلمُ الطّّيبُ بريدا إلى السّماءِ، وتئِزُّ سيّاراتٌ خافتة ُ الأزِّ على الطّرُقاتِ الموحلةِ ، تنفتِحُ وردة ُ الضّوءِ وتنقشِعُ الظّلماتُ بطيئا، يهرعُ الصّمتُ إلى الشّوارِعِ ويستوْطِنُ المكانَ .ويُلْحِدُ المدينة َ على امتداد سويْعات من الفجرِ المتثائبِ موتٌ فجٌّ،، لا ينْهبُ منْ سلطتِهِ إلاّ وقعُ حوافِرِ الأحمرةِ والبِغالِ تنقُلُ على العرباتِ المجرورةِ صناديقَ الخضرِ والغِلالِ باتّجاه السّوقِ والدكاكين المجاورةِ  لكنّه نهبٌ مخلوسٌ خفيفٌ.. والصّمتُ والموتُ متعانقان إلى وقت متأخر نسبيا في النّهار.
على الكونِ يُطِلُّ من شُقّتِهِ. أصابعُه على الزر. والقنواتُ تنساقُ إليه سريعا. وأصابعُه لا تسكنُ عن الضّغط والدّوسِ إلا هنيْهات متفاوتة في الطّولِ والقِصرِ: زرّ:موسيقى.زرّ: صخَبٌ.زرّ: تلاوة. زرّ: رقصٌ أهوج. زرّ: خبرٌ عاجل. زرّ:عرْي. زرّ: قتْلٌ . زرّ: زعماء وخطابات. زرّ:اعتصام ما بعد العام. زرّ: شيوخٌ وُعّاظ. زرّ: إرهابٌ. زرّ: سيّارات مفخّخة ٌ. زرّ: أخبارٌ شتّى. زرّ:نعْـــــــــــــــيٌ:أنباءُ الموتِ تُطِلُّ من زوايا الحياة ... ...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة