نظرت أمل إلى وجه أمها البشوش مطولا، تلك التقاسيم الجميلة المنحوتة في كل خلية من خلاياها، كتمت زفرة كادت تزعج سكون هذا المساء، و حولت أنظارها إلى السماء حتى لا تلتقط نظرات أمها الثاقبة، التي تسبر دوما أغوارها، قلقها و آلامها.
تعودتا الجلوس في شرفة منزلهما كل مساء تحتسيان فنجان شاي بالنعناع تحضره الأم بعناية و تستمتعان بنسيم مسائي منعش محمل بعبير مسك الليل، فمنذ وفاة الأب الذي عانى كثيرا من مرض سرطان الكبد، و هما لا تفترقان، فمعاناة مرض الأب قربت بينهما و مصيبة فقدانه جعلت عزاء كل واحدة في وجود الأخرى.
آه أمي لو تعلمين، رددت في أعماقها و دموعها تكاد تفضح آهاتها، فمنذ أيام و هي تحس بألم شديد في المنطقة العليا من الجزء الأيمن من البطن و الذي يمتد إلى الظهر وحتى الأكتاف إضافة إلى فقدانها الشهية و شعورها بالإعياء و التعب، فقد كانت تلك نفس الأعراض التي ظهرت عند والدها، حتى طبيب والدها و صديقه كان قد نصحها بإجراء تحاليل دورية خوفا من أن يكون المرض وراثيا، و منذ ذاك الحين و هي تطالع عن المرض و أعراضه حتى أصبح هاجسا يهدد هدوء حياتها، و ما تحسه الآن يغذي مخاوفها، ترددت كثيرا في زيارة طبيبها حتى لا تواجه حقيقة تدمر حياتها و حياة أمها لكنها أيضا لم تستطع تحمل سم الشك الذي سرى في دمها يفتك بسلامها. و أخيرا انتصرت قوتها على ضعفها و توجهت للعيادة الطبيب حيث قامت بفحوص دقيقة و أجرت جميع التحاليل المطلوبة و التي ستعرف نتائجها غدا.
رحماك ربي، قالتها و عيناها شاخصتين إلى السماء في توسل، مؤكد أن النوم لن يزور مقلتها و أن السلام هجر عالمها إلى غير رجعة.
لم يكن الموت ما يقلقها بل والدتها، كيف ستقوى على خسارة ابنتها الوحيدة و هي التي لازال ألم الفراق يسكنها و لم تنفك تبكي فقيدها برغم مرور سنوات، كيف ستواجه الحياة وحيدة حزينة، لم تعد تقوى على تحمل أفكارها و خافت أن تخونها العَبَرات فاستأذنت والدتها بحجة أن يوم غد يوم حافل بالعمل و عليها النوم مبكرا لتستطيع مواجهته، ثم دخلت غرفتها بعد أن قبلت أمها و احتضنتها كما تفعل كل مساء لكن هذه المرة بحنان امتزج بالمرارة، أطفأت النور لتعانق ألمها و تطلق العنان لمخاوفها تبحر في سواد ليل ممتد بلا نهاية.
أحست بخطوات أمها تقترب و صوت الباب يفتح، دفيء قبلة على جبينها، يد حنون تربت على شعرها و لسان رطب بدعاء كانت في أمس الحاجة إليه، و ما إن أغلق الباب حتى انهمرت دموعها الحبيسة تغرق عالمها في بحور الحزن ليحملها النوم أخيرا لشواطئ السلام.
تسللت خيوط نور من نافذتها تداعب وجهها معلنة ميلاد يوم جديد، ففتحت عيناها لاستقباله، ثم تذكرت مأساتها فقفزت على قدميها لتحضر نفسها لسماع حكم القدر.
ذهبت لمختبر التحاليل لتسلم تحاليلها ثم توجهت لعيادة الطبيب حيث تأكدت مخاوفها، فقد أظهرت التحاليل وجود ورم سرطاني في الكبد، ليطفئ الوجود أنواره من حولها، استيقظت من غيبوبتها تحت تأثير محلول قوي ينفذ لأنفها فيجبرها على العودة إلى الأضواء، فتحت عينيها لتستقبلها نظرات شفقة و مواساة في عيني الطبيب و المساعدة، و طبيبها يردد على مسامعها كلمات تشجيع و مواساة لم تكن تنفذ لأعماقها، حملت حقيبتها و خرجت لا تلوي على شيء، و لا تعرف إلى أبن ستقودها خطواتها..فقد كانت ترغب في المشي لعل التعب يهدها فتنسى ألمها.
و جدت نفسها بعد أن أعياها المشي على شاطئ البحر اقتربت من أمواجه و هي تتمنى لو تملك الشجاعة لرمي نفسها بين أحضانه و تنهي فصل الشقاء هذا. أسْقَطَتْ حقيبتها و سقطت في استسلام على الرمال مجهشة في البكاء و هي تضرب بقبضتيها بقوة و تصرخ لماذا؟ لماذا؟
كيف ستخبر أمها التي سرعان ما ستعرف الحقيقة عندما تبدأ حالتها في التدهور؟ كيف ستقوى على تحمل ألمها و ألم معاناة أمها؟ كيف ستستقبل أمها الخبر؟ مائة سؤال دون جواب..
علاجها سيكلف أموالا باهظة، و كل ثروتهما صرفت من أجل علاج أبيها، فليس لها سوى مرتبها الذي كان يغطي احتياجاتهما و المنزل الذي يقطنانه، فمن أين لها المال للعلاج؟ ولا التأمين الصحي أو حتى الجمعيات ستغطي كلفة العلاج المرتفعة، إذن فليس عليها سوى الاستسلام لقدرها و انتظار ساعتها، و ستخفي الخبر عن والدتها حتى تجد حلا لمشكلتها ليس أمامها من خيار آخر.
قطع رنين هاتفها حبل أفكارها، لا شك أنه مديرها يستفسر عن غيابها. أخرجت هاتفها من حقيبتها و نظرت إلى الرقم مستغربة أن ترى رقم طبيبها و صديق المرحوم أبيها.
ـ ألو نعم.
ـ أمل أرجو أن تأتي لعيادتي صغيرتي فقد اتصل مسؤول مختبر التحاليل لإخباري أن نتائج تحاليك قد وقع بها خطأ وهو يبلغك اعتذاره و أسفه، وقد سلموني نتائج تحاليلك و هي طبيعية.
نعم صغيرتي أقسم أنك بخير لا تعانين من شيء و أتمنى أن تمري لزيارتي الآن للتأكد بنفسك ، قال في محاولة لامتصاص آخر شكوكها.
لم تعرف ماذا تفعل، أتضحك أم تبكي؟ أتحزن أم تفرح؟ أتلوم من تسبب في يأسها أم تحمد الله على النتائج الطيبة، توجهت للأمواج التي كانت تداعب أقدامها منذ قليل تواسيها، و رمت بنفسها بين أحضانها لتغسل عن عقلها شكوكها و هواجسها وتطهر روحها من الأحزان.