كان هنا بالأمس القريب يداعبني، يلاعبني، يشاغب كي لا يفرض الصمت سلطته على فناء الدار، وفي زوايا الغرف الثلاثة.
بهي الطلعة حين يباغتني وهو يصيح : بابا.. بابا.. جئت من مدرستي "الحلوة" يفاجئني وأنا تائه بين السطور، التفت بغتة تحت تأثير صوته الرنان متسائلا: وأخوك أينه؟ !
يصافحني مقبلا بحرارة وابتسامته تعلو شفتيه: أخي هاها! أخي اليوم كان عريس الدرس لما فك لغزا عجزنا جميعا أن نجد له حلا. صفقوا له، صفق له الجميع...
غاب فجأة ليتركني ألوك الألم والسهو والتيه عبر ذاكرتي التي تخصصت في جمع كل ملامحه، واستجلاء كل قسماته التي نسيها في دواخلي وأعصابي وكل أماكني السرية. أحن إليك، لقد نسيت بين يديك الصغيرتين بصماتي، ونسيت بين شفتيك قبلاتي وأنا أحضنك كلما عدت من "حلو" مدرستك كل ظهيرة وعشية ونسيت ... ونسيت...
أراك من خلف المسافات وقد اشتد عودك، وسما فرعك الذي فاجأتني به بعد عودتك وأنا أراك تسلم الكرة في السلة بالطريقة الأمريكية الاستعراضية. كم من الوقت الذي انساب بسرعة بين هيئتك الصغيرة وأنت تحضن أخاك التوأم في أعياد ميلادكما بشقة عبد المومن وبين الآن وقد شط بك المزار لتحل بأرض الإفرنج مبعدا بمسافة ساعتين ونصف طيرانا.
أتنفّس الحزن شهداً... رسائل من قلبي إليك... - نص : ضحى عبدالرؤوف المل
أتنفّس الحُزن شهداً والصمت باتَ لذة شفاه، قد لا نحيا لنلتقي وقد لا يأتينا يوم غد كما نهواه!.. فاصنع من حُروفك سُفن خلاص تَحمل لي عطراً نقياً كَي أضــم الكون كُلّه في عَينيّ، فسر الخلاص تُـــــــــجسّده وسادة فيها سرّ تجسدي وسرّ رضاي. حَـــــــبيبي.... قَتلتني تنهيدات صدرك ورخيم صوتك نادى في لَيل شَغوف يا نَهد الحياة.. يا نجمة رسَمها القدر على الجباه.. على سماواتي.. على وجه عَجوز ارتحل عـــمره وذوى صباه.. فَــــهل يحق الصمت والروح تَـــلهث لرؤياه؟.. أم ان كَـــــلمتي تتأهب لتعانق شغف عَـــينيه؟!.. غمرات رباك جَـــنات تمرح فيها العيون وتفرح لها قلوب الحسان وفردوسٌ تحيا فــيها زهور الياسمين لتطوقني بعطرها.. بشذاها مرفرفة كفراشات وبين يَـــــديها أبجدية رسل خلاص هبطت على الأوراق وحياً في كلمات، فلا لغة سوى صمت حُب يعتريه الذهول والصدق يتوق لبوح يمجده بريق مقلتيك... يا حَــــبيبي.... أقدارنا دغدغت أعمارنا، فأمست نعيماً لقلب لا يرضى سواك حَــــــبيباً استفاق!.. احتضن ليلاً!... دندن نجواه!... أغواني!... رفرف بنوارس تناديني!.. عَـــرفته عيون ونطقت باسمه شفاه... .
سلمـى – قصة : نورالدين بوخصيبي
مستوحاة من أحداث واقعية
كنت أشتغل داخل مكتبي هذا الصباح، منهمكا في تصفح مذكرة وزارية أقلبها بين يدي، حين فوجئت بتسلل أنثى داخل المكتب. كان عقربا الساعة الدائرية أمامي يشيران إلى الثانية عشرة زوالا إلا ربع. كان هناك صمت جميل يسود المدرسة كالعادة بعيد انصراف التلاميذ الذين عادة ما يغمر صخبهم كل فضاءات المؤسسة خلال أوقات الدرس. نظرت إلي المرأة و ابتسمت بدلال و شيء من غنج أنثوي لمست به شيئا من التصنع. طلبت منها أن تجلس فلبت على التو. و شعرت فورا أن المرأة تطوي بداخلها شيئا، و أن لها رغبة أكيدة في إفراغ ما تطويه بداخلها من سر.. بدت لي المرأة بزيها العصري الرمادي اللون محملة بأنوثة خاصة قدرت توا أنها لن تكون بدون ثمن.. لا أقول إنها بدت لي جميلة، لكنها تميل إلى الجمال علما أنني شخصيا لا أستطيب مسألة الجمال الجسدي هذه، إذا هي لم تكن مسنودة بجمال روحي أو فكري عميق. تفحصت مسرعا وجهها المستدير الأبيض الميال قليلا إلى السمرة. نظرت إلى عينيها السوداوين و قدرت أن المرأة تعيش جرحا داخليا عجزت عيناها الغائرتان عن إخفائه.
قلت: ما الأمر يا سيدتي؟
قالت و هي تبتسم بتلقائية: أنا أم الطفلة سلمى بالقسم الثاني ابتدائي.
أحــلام قـطّــة – قصة : محمد المهدي
دلفت الغرفة متسللا على رؤوس أصابعي، كانت قطتي نائمة ، لم أشأ إفساد نومها الهادئ، أو حلمها الجميل ، تناولت من على رفّ المكتبة كتابا دون أن أعبأ بعنوانه ، استلقيت على الوثاب ،قلبت الصفحات دون غاية مقصودة، ثمّ شردت في القطة و قد استلذت النوم على الأريكة جاعلة رأسها في حضنها و بين ذراعيها، كانت تحرك إحدى أذنيها بين الفينة و الأخرى لتطرد الذباب . ترى ما الذي يمكن أن تحلم به هذه القطة البريئة ؟ . وددت لو استطعت الولوج إلـى حلمها لأشاركها فيه ، ربما قد تحلم بي و قد صرت ميسور الحال ، أعيش إنسانا كامل الإنسانية يتحسن عيشي،ويتحسن عيشها هي أيضا،وتراني أقتني لها غلب المصبّرات الخاصة بالقطط من السوق الممتازة، و تنعم معي بحمام دافئ كلّ صباح و مساء ، و تنعم بلمسات فاتـــنة هيفاء تدلكها حتى النوم .
الصّفعة – قصة : محمد بقوح
حين انتهيت من إعراب الجملة .. جملة النحس ، و قبل أن أضع النقطة الختامية ، تطبيقا لنصيحة معلمنا الملازمة له في كل حصة دراسية ، نزلت على الجانب الأيسر لوجهي صفعة قوية ، شتت توازن جسدي النحيل ، لتتلعثم قدماي الصغيرتان ، فأسقط كسكير ثمل على أرضية الفصل ، و وجوه التلاميذ واجمة لا تفهم ، دون أن أعلم بدوري لماذا و كيف وجدت تلك الصفعة اللعينة القاسية و المؤلمة جدا طريقها إلى وجهي .. ، أما الشيء الوحيد الذي ظل بريقه عالقا بين ثنايا ذهني ، هو تطاير الطبشورة البيضاء ، التي كانت تئن بين أناملي المبللة بالعرق الساخن ، في فضاء القسم ، لتصيب جبين تلميذ آخر ، كان يتابع فصول درس القواعد في مقعده في الصف الثاني .
و بإشارة من المعلم .. تلك التي أصبحت عند التلاميذ معهودة مع مرور الوقت ، بحكم صدورها المتكرر كل يوم تقريبا ، يحضر بسرعة البرق أربعة تلاميذ كبار في السن ، يتميزون بقوة أجسادهم الضخمة ، لكن أيضا ببلادة فكرهم و كسلهم الذي لا حدود له .
رسائل من قلبي إليك.... – نص : ضحى عبدالرؤوف المل
أيَّـها الراحل نَحو قلبي المُهاجر إليك... إنحنِ للزمان وضمّ قلبي الذي تاه في مَتاهات الحَياة، بعد أن فاضَ به الحُزن وتراكَمت فيه الأُمنيات، كأنّها في كُتب مُغلقة وأفكار مُبعثرة على أوراق لا تزال رمادية اللون، كأنَ الغيث قد انقطع عَنها، فمتى يَــكون الرحيل وكيف؟؟...
حَبيبي... ذاقَـت النفس مَساوئ أفعالها وازداد ألمها حين انبسطت كفّا الحياة لها لتزداد ألماً بما كسبت، فغداً تجفّ زهور الياسمين على عُروشها ويموت الورد...
حبيبي... أنا المثخنة من الرحيل... أنا شهيدة ذاك الطير الأسطوري الـموشوم بالعشق وفي قلبه انغرس خنجر قطّع أوصال الروح حين أزهرت في زمن كالح ميت تتراكم فوق أجفانه أعباء السنين...
حَبيبي... لا تخذلني بعدما كان رحيلي إليك طيفاً!.. روحاً!.. عطراً منثوراً حول زهرة تدور في مَـداراتك، فأنا يا حبيبي أمشي الهوينا في عـــــالم يلفح وجوه المُتعبين ويلملم شتات أنثى كافَحت كدوري مُترنّح بين سنابل القمح، وهي تُغني أغنيات وطن عاد به الزمن الى حيث أباطرة الرومان لتكون روحاً سماوية وفي عَينيها لمحة حبّ حَيّ...
حصة – قصة : مجدي السماك
في ذلك اليوم البارد.. وصل الأستاذ مصطفى إلى غرفة الفصل وكان متأخرا سبع دقائق.. وكانت في عينيه حمّرة غريبة أخفت بياضهما وأطفأت ما فيهما من بريق كان بالأمس يلمع. وما إن دخل في هدوء الزاهدين ووقار الناسكين، حتى وقف أمام التلاميذ بكل ما في هيئته الضخمة من مهابة.. وعلى الفور انطفأت الضوضاء التي أشعلوها وأججوها بضحكاتهم الساخنة البريئة التي كانت تجلجل وهي تعلو لتنقلب بقدرة قادر إلى ما يشبه الفرقعات. ومع هذا نسي أن يقول لهم صباح الخير وانتصب أمامهم وهو عابس كالقضاء المستعجل فبدا جلد وجهه كأنه مدبوغ. ثم بيده اليمنى امسك قطعة تباشير بحجم منقار دجاجة، واتجه بها إلى الزاوية العليا من السبورة وبخط عريض كتب.. حكمة اليوم: من طلب العلا سهر الليالي.. ثم كتب تحتها بخط عريض أيضا: اطلبوا العلم ولو في الصين. بينما كانت كفه اليسرى منهمكة بالذهاب والإياب على فتحة فمه وهو يتثاءب محدثة قرقرة أحبها التلاميذ كثيرا فارتاحت قلوبهم لها وانتشت.. فابتسموا في خجل مكتوم. وتركوا العنان لأنوفهم لتتمتع برائحة عطره التي فاحت.. رائحة لذيذة عبقت الفصل وكانت أقرب إلى رائحة السيريلاك.
جلسة في حضرة امرأة – قصة : بوتالوحت أحماد
"فاتح " هكذا كان يسمى ،وكان يقول أنا فاتح!! الذي فتح الله عليه !
- وهل من فتح الله عليه يسكن براكة !؟ يقول صديقه . يضحك "فاتح "ذو اللحية التي تشبه لحية "ماركس" لكنها قذرة . يقامران ،فاتح يقامر بمقادير من القمح تسولها من البيادر في موسم الحصاد أوإستخلصها من السنابل التي جمعها من "الحصائد " ودقها على حجر كبيرقرب " براكته " . صديقه" سلام" يقامر بنقود حصلها من عمله في أوراش البناء في المدن البعيدة .
يتابع" فاتح " الكشف عن أوراق اللعب ،تتعثر الأوراق بين أصابعه القذرة وتلتصق ، "تفو" يعالجها بأطراف الأصابع المبللة بالبصاق،يخلص الأوراق بعضها عن بعض و يرميها على مائدة مستديرة و واطئة ،يستعملها لفرم أوراق" الكيف" كما يستعملها للأكل أو" الركزة " حين ينتشي بتذخين "الكيف"وشرب "الماحية " .
- هذه المائدة أستعملها لأغراض كثيرة ،كما إستعمل موسى عصاه لمآرب أخرى .
- دع عنك موسى وعصاه ،وخلصنا بكشف الاوراق ،يقول صديقه . من الباب المنفرج قليلا ،تطل الرؤوس الصغيرة الفضولية ، تتلصص على اللاَعبَْْين .