" عجل بالإياب ..آمنة تحتضر ! "
ألقى السماعة من يده وحث الخطى صوب البوابة الخارجية .مستحيل ..آمنة ؟ ..الزوجة و الأم و الحبيبة.. توشك أن تفارقه ؟
ركض كالمجنون غير عابيء بالدمع المنهمر..تداعت الذكريات أمام ناظريه كشريط مسجل..
آمنة غادة الحي..ست الصبايا ..حظيت بحسني الظاهر و الباطن ..وقلما اجتمعا في صبية..كل شباب الحي يخطبون ودها لكنها اختارته لدماثة خلقه وطيب معدنه
حلقت طيور الصفاء فوق عشهما الدافيء الصغير ..كانت آمنة نعم الزوجة الصالحة..القنوع ..وكان هو لا يألو جهدا في توفير اسباب السعادة ..رُزقا صبيين فاكتمل سفر الرضى ..مرت السنون كأنها لحظات ..شب الولدان عن طوق آمنة ..وغادرا العش صوب أحلامهما على الضفة الأخرى ..بكت آمنة أما هو فتجلد :
- هي سنة الحياة ومشيئة الرحمن !
أحمد العروس ينشر نعيه وينتظر التعازي ـ نور الدين العلوي
()...كانت لأحمد لحظات صحو مفزعة. فما كان يمكن لأحمد أن يستمر في تجاهل نفسه واحتقار طموحه على الظهور في الجرائد فقد حدثته نفسه الأمارة بالذهاب إلى الجرائد وعرض نفسه على المحاورين ونشر صورته ولو بلون واحد، يقول لهم «أنا أحمد المشهور بالتخلي عن هموم الناس المنغمس في التفاصيل، أفكر في الجرائد مثلكم.ومثلكم أرى نفسي قريبا من هموم الآخرين البعيدة عن همومي فانشروني في مقال واضح أو أخبروا عني يخلدني التاريخ مثل كلامكم في المزابل، وسحب الاعتبار الأخير وقال «يخلدني في المنازل أو ليس لكم مثلي في القلوب منازل».
وكانت أبواب الجرائد مغلقة تستقبل المعلنين عن السلع من أبواب جانبيه وتأتيها المقالات بالخيوط الهاتفية. وقد تعيث بالمقص في الجرائد الأجنبية. ولا مكان فيها لأحمد العروس ولو استحال مقصا، فكيف وهو يخرج من قشرته إلى جريدة لا تستحي. وقال أحمد العروس المطرود من الجريدة لأحمد المقابل في واجهة محل مغلق ينعم بالأمن فلا ينزل ستارة الحديد« لماذا تهين نفسك يا رخيص ؟ ما ألجأك إليهم يا فاقد البوصلة يا أحمد الذي علمته التواضع فاستكبر وأبى، أتريد أن تعود إلى الجنون ؟»
انسحاب ـ قصة : المصطفى سكم
تتسارع الخطوات إلى مكان غصت به الأجساد ، إحساس غريب بفاجعة تلف الكيان، شقت الجمع بعنف فتراءى لها جسد متدل من غصن شجرة طالما استظلت بظلالها ورسمت على جدعها من بهي الشجن ما كان يحفظه الجسد المتدلي عن ظهر قلب..في برهة تكاتفت فيها صور زمنية مشتركة كتبت بأنينهما وضحكاتهما وأسرارهما ومغامراتهما...دوي صراخها يلفت انتباه الأجساد المتحذلقة على الجسد المتدلي وتهيم في غيبوبة ترفض الخروج منها تسعى اكتشاف سر انفصال الذات عن ذاتها وتمردها عليها و تحايلها إلى أن تخلصت منها ،،من فكر في الخلاص وفك ارتباط الذات بالذات ،أي ذات منهما كانت سيدة القرار وأي ذات كانت موضوعه ، ما كان للقرار أن يكون لولا تواطؤ الذات مع الذات بعد حوارهما واقتناعهما بفكرة الخلاص وتغلب النفس على الروح
تلح الذات على سياحتها في غيبوبتها، تسعى العلو عن الزمان والمكان ، تحيى انفصال الذات وهي التي سعت للتواصل مع الذوات فتتألم لشكواه من جحود الحشد وقد ارتوى من نبع الغريزة وسقيه شوارع المدينة قيئا واغتساله بماء نافورتها فانسلخ الماء عن طبيعته وألبسه لونا ومنحه طعم العلقم ، تسترجع الذات في غيبوبتها شكوى باب المدينة التي ارتدت بيوتها لباسا رماديا كئيبا ،تهاوت سقوفها وانمحت منمنماتها وتآكلت حيطانها وعصف بأعراصها ..أضحت الذات غريبة في مكان نسج بخلاياها وهي عروقه التي ارتوت بدمائها ، كانت ذاته بداية باب المدينة وعمقها ، فضاؤها الذي يتنفس بكلماته الثائرة المستنكرة لإرادة الإقصاء السياسي والاجتماعي .
بداخله مات الإنسان ـ قصة : أماني عصام المانع
دخلتْ البيتَ مسرعة فرحة ، توجّهت على الفور إلى المطبخ ، ضمت أمها بقوة وهتفت :
أخيراً .... أخيراً يا أمي وجدت وظيفة .
لقد ذهبت اليوم إلى المدرسة الداخلية التي قدمت إليها أوراقي منذ أيام ، فأجروا معي مقابلة
قبلوني بعدها معلمة في هذه المدرسة .
لم تعرف كيف تقضي ساعات هذا اليوم ، فغداً ستثبت وجودها ... ستعمل ... ستتخلص من قضبان هذا البيت الذي أسرها والماضي الجريح .
أضاءت شمس الغد يوماً جديداً ، وعلى باب المدرسة تسارعت نبضات قلبها ... تنفست بعمق
ودخلت إلى مديرة المدرسة التي حدثتها عن التلاميذ الذين ستدرسهم قائلة :
_ هؤلاء التلاميذ سافرت معلمتهم بعد أن علمتهم الشيء الكثير ....
لا أخفيك سراً أنهم تعلقوا بها كثيراً ، لذلك حاولي أن تتقربي منهم ....
الميراث ـ قصة : بسمة الشوالي
إلى العراق
جلستْ.
جبين معصوب . ثياب مهملة . دم يجفّ على ندوب تحفّ الوجه.
الصِّبْية يتقافزون صخبا والطّاعمون يتناوبون على مآدب سخيّة . أطباق الأكل صنوان وغير صنوان يسعى بها قِرًى حثيث .
كانت مراسم الإطعام جاهزة ترصد خروج الرّوح من سكنها ، وكان أهله على أُهْبَةِ الفقد وتراب المقابر ينْمَل في نعالهم .
نساء باسِرات الوجوه مرهقات العيون يتحلّقن حولها ملتفعات بصمت خشن ، وقرآن يسترسل تلاوة من مسجّل يُوثِقُ الآذان بخشوع متين تتحوّل فيه وجهة البكاء إلى شفير القبر. لكنّ بعضا منهنّ يتهامسن ورجال آخرون هناك يتهامسون..
- مات مُتْخَما بالمنكر . شرب البارحة حتى اختنق ..
- مسكينة زوجه .. عياله صغار ..
- ماذا عسى يترك لهم نادل في مقهى من بعده ؟
الممغوص ـ قصة : جمال الدين الخضيري
لم يعد يَحتمل كل تلك الآلام التي تعتصر معدته وتُقطّع أحشاءه. تكوّم على نفسه أكثر من ذي قبل وراح يترنح في مشيته. صمم أن يقتحم الضيعة الزراعية ويطرق باب الفيلا، فليقع ما يقع..
تحلّقت حوله مجموعة من الكلاب عاوية تريد الفتك به. صدتهم المرأة الشقراء البدينة من الشرفة التي تُطلُّ منها، ووجهت كلامها للغريب بنبرة مريبة:
- ماذا تريد؟
رنا إليها وهو لا يزال محدودبا بوجه فاقع اللون. أشار إلى بطنه علامة إحساسه بالألم. تسمّرت المرأة في مكانها مدة خُيلتْ إليه أنها سرمدية، محدقة فيه تتأمل انحناءاته وتوجعاته، وتسْلقه بعينيها، وتتملاه كما يتملّى فنان جسدا مسجى أمامه يتوخى رسمه.
كان في أشد الأوقات ضيقا وعنتا. ضيق لم يعرفه حتى أثناء مصارعته للموج مدة يومين على ظهر قارب صغير يتلاعب به موج البحر. وجد نفسه متلفعا بحناديس ليل يركب بحرا لا أمان له، مخلفا وراءه ألامه وأماله. كان لابد له أن يركبه، لم يتبق له خيار آخر غيره بعد أن هدّته الانتكاسات والارتكاسات وتآكلت مؤخرته على كراسي المقاهي. فما أقسى أن تلفظك الأرصفة، وتكون لك مدارج ومعارج في البطالة والصعلكة. أخيرا عقد العزم على المخاطرة، وفي المخاطرة كما يقول النفري جزء من النجاة..
هكذا يعتصرهما البحر ـ قصة : د.عبدالرحمن شاكر الجبوري
عند المغيب تصاعد الضباب فوق قمر الطرقات، و"زهرة عباد الشمس" تجالس "ربيع" عند الاحراش، يعتصرهما برد الشتاء تحت شجرة الحور، يخبآن تيه الحكاية... وتيه الغناء، تبرق عيناهما بردا كقناطر حين تختمر بها المسافات... أسدل الليل جفونه وهو يمطر السهر باللفتات الخجولة... وخطواتهم نحو المدى... بلا منازل.
كانا يسيران، كالعصافير الشاردة تحت المطر... يلوح لهما من بعيد الخوف والصدى لمواويل ليال شتائية حبلى بالرماد...
أيلول، طفل وحشي، يولول قصتهما الغريبة في التقبيل بين الازقة..النوافذ.. سطوح بيوت الصيف العارية ... يروي قصة تعثرهما بعبور السواقي والنوم فوق الندى..
عيناهما الخجلتان من رسم الندى، من صيحات الماضي، تقطرت بين ارصفة القرية الحجرية، وبرد ايلول الحزين ينفخ العيون حنينا... فيتكأن العزلة، وهما يفترقان طرقات الحنين، وهي تندي بأقدامهم ليال السهر، النوافد، الاغاني، وذكريات الدروب العتيقة...
احتضار ـ قصة : حميد بن خيبش
رنا ببصره إلى الثريا..بدت مصابيحها جذلى وهي تتراقص فوق رأسه..اللعنة..حتى هذي الشرارات الغبية تتنفس الصعداء لفراقه ! ..لو أن به بقية من جهد لقذفها بعكازه ..لكن..!
لغط الأقارب من حوله لم يخف منذ الصبيحة..علا صياحهم وهم يُحصون أملاكه للمرة العاشرة..هذا العجوز الوغد لم يُطلع أحدا على حجم ثروته..ضربت الحفيدة بكلتا يديها على الطاولة ..إنها مصرة على الاستئثار بمتجر العطور..فلا دراية لها بتدبير شؤون المعامل أو حظائر الماعز !
لمح في عينيها جشعا غريبا لم يعهده من قبل..كانت الاثيرة لديه دون سائر أحفاده ..لم يبخل عليها بمصاريف الجامعة و تذاكر السفر الموسمية ..آثر البقاء إلى جانبها حتى تمر محنة الإدمان بسلام ! ..أجبر الوغد الذي تسلى بعواطفها على تقبيل قدميها وطلب الصفح ..قبل أن يشيع خبر انتحاره ! .. يا للجحود !