شهدت الفلسفة الأوروبية الحديثة تطورات فكرية هائلة وغير مسبوقة منذ عصر النهضة، حيث كانت بمثابة المرآة التي عكست التغيرات الاجتماعية والعلمية والسياسية الكبرى التي عاشتها أوروبا على مدى قرون. غير أن هذا الازدهار الفكري لم يكن دون ثمن، إذ صاحبته أزمة وجودية عميقة عُرفت بـ"أزمة المعنى"، وهي أزمة تمثل أبرز ملامح التوتر الإنساني مع نفسه ومع العالم من حوله. فقد واجه الإنسان الأوروبي في العصر الحديث معضلات فكرية وفلسفية حادة تمحورت حول القيم، والهدف، والغاية من الوجود، بعد أن تزعزعت الأسس التقليدية التي طالما قدمت إجابات لهذه التساؤلات.

هذه الأزمة لم تكن وليدة لحظة، بل كانت حصيلة مسار طويل من التحولات الفكرية الكبرى التي ابتدأت مع الثورة العلمية التي فككت رؤى الكون التقليدية القائمة على الميتافيزيقا، ومرورًا بعصر التنوير الذي مجّد العقلانية وأطلق العنان للنقد والتشكيك، وصولًا إلى الثورة الصناعية وما صاحبها من تغييرات اقتصادية واجتماعية زعزعت التوازن بين الفرد والمجتمع. كل هذه الأحداث كانت بمثابة زلازل هزت اليقين التقليدي وأسقطت مركزية الإنسان في الكون، مما خلق شعورًا متزايدًا بالاغتراب والعبثية.

وفي قلب هذه التحولات، جاءت أصوات فلسفية كبرى، مثل فريدريش نيتشه الذي أعلن "موت الإله"، مشيرًا بذلك إلى انهيار القيم المطلقة التي كانت تمنح الوجود الإنساني معناه. كما أثارت الفلسفة الوجودية، على يد جان بول سارتر وألبير كامو، تحديات جديدة، مؤكدة أن المعنى ليس معطى مسبقًا بل يجب على الإنسان أن يخلقه بنفسه في مواجهة "العبث". ومع ذلك، تعمقت الأزمة مع ظهور التيارات ما بعد الحداثية التي رفضت فكرة الحقيقة الواحدة أو المعنى الثابت، معتبرة أن كل شيء نسبي ومتعدد.

إن أزمة المعنى ليست مجرد ظاهرة فلسفية مغلقة داخل جدران الفكر، بل هي مأساة إنسانية طالت جذورها أعماق النفس البشرية. لقد بات الإنسان في العصر الحديث يعاني من اغتراب وجودي، وضياع للقيم الكبرى التي كانت تمنحه التوجيه، ومع تزايد الفردانية، والتقدم التكنولوجي، والعولمة الثقافية، أصبحت هذه الأزمة أكثر حدة وتأثيرًا. لم تعد تساؤلات "من نحن؟" و"لماذا نعيش؟" مجرد استفسارات فلسفية مجردة، بل تحولت إلى قضايا ملحة تمس كل إنسان في صميم تجربته الحياتية.

يعتبر التواصل من العلوم الأساسية لبناء أي علم سواء في ميدان اللغة أو الفلسفة أو علم النفس أو السياسة وغيرها، وإذا كان التواصل يقوم في المقام الأول على اللغة، فإن هذه الأخيرة ليست الأداة الوحيدة للتواصل فهناك ادوات أخرى غير اللغة كالإشارات والحركات والصمت، وذلك لأن التواصل لا يقتصر على إرسال الرسائل اللفظية أو القصدية لتحقيق هذا التواصل.

ومنذ القديم اعتمد الإنسان على وسائل متعددة لخلق التواصل، وهو ما لم يدركه الإنسان في ذلك الوقت. وب كل ما يظهر بسيطا للعين المجردة هو نوع من التواصل، والهدف هو خلق تواصل ثقافي شامل، وهو ما حاول هابرماس الوصول إليه من خلال نظرية التواصل، والتي يراهن من خلالها على ضرورة تحقيق مطلب الديموقراطية التشاركية، الذي يساهم في توفير حق الجميع في النقاش العمومي.

بناء عليه ومن هذا المنطلق يمكن طرح العديد من التساؤلات الاشكالية التالية، من قبيل، ما هو دور اللغة في نظرية التواصل؟ وهل خلق فضاء عمومي يساعد على التواصل الفعال بين الأفراد داخل المجتمع؟ وماهي أشكال التواصل التي تحقق غاية التواصل؟ إنها مجموع الأسئلة الإشكالية التي سنحاول الإجابة عنها ضمن هذا المقال.

  • اللغة والتواصل عند هابرماس

قام فكر التنوير على الجمع بين فلسفة اللغة ونظرية العلم والتأويلات الذاتية والتاريخية، والتحليل النفسي، مستفيدا من الإنجازات المعرفية والمنهجية، هادفا إلى تكوين علم تداولي شامل من أجل إحداث ثغرات في علاقات الأفراد مع بعضهم البعض على أسس منهجية، من أجل تحقيق شروط التواصل والحوار في مجتمع متحرر، وقد تحقق هذا الهدف مع الفلاسفة المعاصرين وعلى رأسهم "هابرماس" الذي حاول صياغة قواعد جديدة لفكر متحرر من التسلط والهيمنة والبيروقراطية والرأسمالية... وتدشين مجال الحوار المنفتح على الحرية واللغة بين الأفراد، وهذا المجال هو مجال التواصل اللغوي أو الفعل التواصلي في ظل الفضاء العمومي.

لقد تغيرت عدة مفاهيم في عدة مجالات في سياسة الحوار والتواصل بواسطة اللغة، فالعقلانية التي نادت بها عصور التنوير وتم اختزالها في العقل، اليوم أصبحت تتجسد في اللغة وباللغة، وهذا ما يؤكده هابرماس بقوله: إن ما نسميه "عقلانية " هو أولا الاستعداد الذي ثبرهن عليه ذوات قادرة على الكلام والعمل على اكتساب وتطبيق معرفة قابلة للخطأ"([1]).

كارناب وهيدجر

كارناب فيلسوف الوضعية المنطقية حلقة فيّنا النمسا بزعامة شليك. وبعد انحلال حلقة فينا انتقل كارناب الى الوضعية المنطقية التحليلية الانكليزية حلقة اكسفورد تحت زعامة بيرتراند رسل وجورج مور وعالم الرياضيات نورث وايتهيد وفينجشتين الشاب المتأخر. لقد حاولت المنطقية التحليلية الانكليزية تحليل فلسفة اللغة في اعتمادها محاولة دمج الرياضيات والمنطق فيها وفشلت المحاولة فشلا كبيرا وتراجعت حلقة اكسفورد عن افكارها باستثناء اصدار بيرتراند رسل ووايتهيد كتابا مشتركا لهما باسم (مباديء الرياضيات العامة 1906). هذا الربط الافتعالي في خلق توليفة تجمع الرياضيات والمنطق وفلسفة اللغة كان جاتلوب فريجة فيلسوف اللغة السويسري اوصى بها قائلا اصبح يخجلنا اننا لحد الان لم ننجح في جعل الفلسفة علما يشبه الرياضيات.

انشق كارناب ومعه جورج مور عن حلقة اكسفورد وتبعهم لاحقا فينجشتين متراجعا عن غالبية افكاره في اطروحته (40) صفحة التي نال بها شهادة الدكتوراة من جامعة كامبريدج تحت اشراف بيرتراند رسل عنوانها (تحقيقات فلسفية) عام 1953. وقد حظى هذا الكتيّب الصغير باهتمام فلسفي واثار ضجة كبيرة جدا في عالم الفلسفة. اما المهم بالموضوع هو اتفاق كارناب وفينجشتين وجورج مور فلاسفة المنطقية التحليلية الانكليزية على مقولة مفادها كل ما لا يمكن التعبير عنه بوضوح فالصمت اجدى نفعا منه. وعدم الوضوح اللغوي بالفلسفة لغو فارغ لا يستحق الاهتمام به ولا الوقوف عنده. وذهب كل من كارناب ومعه جورج مور الى المناداة تحت وطأة يأس فلسفي غاضب تاكيدهما مسالتين:

الاولى أن اللغة بريئة من تهمة أنها تضليل العقل وخيانة المعنى. كما ساد بطغيان هيمنة فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى خاصة بعد النصف الثاني من القرن العشرين. في اعتبار فلاسفة البنيوية بزعامة دي سوسير الذي اصدر بيانا فلسفيا قال فيه أن فلسفة اللغة باتت الفلسفة الاولى بعد تنحية مبحث الابستمولوجيا من مركز الفلسفة الاولى الذي شغلته عصورا طويلة من تاريخ الفلسفة.

الثانية وتزعمها جورج مور في إعتماده حسب تحليلي الشخصي كي نخّلص تاريخ الفلسفة من الطريق المسدود الذي ادخلتنا به فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى خاصة في هورمنطيقا بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا. لذا توّجب علينا والكلام لجورج مور كتابة افكارنا الفلسفية بلغة الناس العاديين وأيده بذلك كارناب.

لطالما كانت العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة واحدة من أعقد الجدليات الفلسفية والفكرية التي شهدها التاريخ الإنساني الحديث. إنها علاقة تشتبك فيها أسئلة الوجود، والحقيقة، والتاريخ، والإنسان، والمجتمع في إطار صراع مستمر بين طموح الحداثة إلى بناء عالم قائم على العقل والعلم واليقين، وتمرد ما بعد الحداثة على هذا الطموح، بسلاح الشك والتفكيك والتعددية.

الحداثة، التي انبثقت مع عصر التنوير، مثّلت ثورة شاملة على الأنماط التقليدية في التفكير والمجتمع. سعت إلى تحرير الإنسان من قيود الميتافيزيقا والخرافة، وبناء عالم أكثر تقدمًا واستقرارًا، حيث يكون العقل سيد الموقف، والعلم أداة التقدم، والتاريخ ساحة دائمة للارتقاء نحو الأفضل. لقد مثّلت الحداثة وعدًا بامتلاك الإنسان لمصيره من خلال مشروع ضخم يحمل آمال التغيير الجذري واليقين بالسيطرة على المستقبل.

لكن هذا المشروع الحداثي لم يلبث أن اصطدم بتناقضاته الذاتية ومآزقه الوجودية. جاءت ما بعد الحداثة لتضع كل ذلك موضع تساؤل. فقد اتهمت الحداثة بأنها لم تحقق وعودها، بل أنتجت منظومات قهر جديدة تُخفي تحت ستار العقلانية والعلم أشكالاً أكثر تعقيدًا من السيطرة. رأت ما بعد الحداثة في مفاهيم الحقيقة واليقين والتقدم الحداثية أوهامًا كبرى تخفي خلفها سياسات للهيمنة والإقصاء. جاء نقدها ليُعلن عن نهاية "السرديات الكبرى" التي شكلت أساس الطموح الحداثي، مؤكدة أن العالم لا يمكن اختزاله في حقيقة واحدة، بل هو فسيفساء من الحقائق النسبية والمتعددة.

في هذه المواجهة الحادة بين الحداثة وما بعد الحداثة، تبرز أسئلة جوهرية: هل يمكن للإنسان أن يعيش دون يقين مطلق؟ هل تقدم الحداثة مشروعًا قابلًا للتطور أم أن ما بعد الحداثة هي مآلها الحتمي؟ وما الذي تعنيه هذه العلاقة الجدلية بالنسبة للتاريخ والفكر والثقافة الإنسانية في سياقها المعاصر؟

هذه الأسئلة، التي تمس جوهر التجربة الإنسانية، تجعل من البحث في العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة رحلة فلسفية عميقة، حيث تتصارع الأفكار والقيم والمفاهيم في سعي دائم لفهم الذات والعالم. في هذا التحليل، سنستكشف أبعاد هذه العلاقة المعقدة، محاولين الإحاطة بجوانبها الفلسفية، وتأثيراتها الاجتماعية والثقافية، ودلالاتها على مستقبل الفكر الإنساني.

في صدارة مطلب البعد الثالث المتمثل في الحقيقة الانطولوجية، قال بيليدور إنه لن يعرف كيف يكون من الصعب استيعاب مصطلح “أنطولوجي” المطبق على الفكر الهايدجري. مع ذلك، يبدو لنا من الضروري استخدامه هنا لسببين. من ناحية، يستخدم فيه هايدجر صفة "أنطولوجي" لوصف حقيقة "الموجود كما هو"، وليس من التعسف استخدام صفة "أنطولوجي" لوصف حقيقة "الوجود ذاته"، بشرط فهم هذا المصطلح، ليس في حمولتهة التاريخية والتقليدية، ولكن حصريا في اختلافه عن مصطلح "أنطيقي"، كما هو محدد هنا. ومن ناحية أخرى، لأن هذا التمييز يقترحه هايدجر نفسه صراحة حتى في كتيبه السابق قليلاً: "ماهية العقل". لم يتم هنا فحسب عرض المستويات المختلفة التي ميزناها للتو، بل تمت كذلك الإشارة إليها بأسماء خاصة. للتدليل على ما يقول، استخرج بيليدور من كتيب هايدجر بعض الاستشهادات وفق الترتيب التالي: (1) الحقيقة الحملية (الإسنادية): "الحقيقة
تعني اتفاقا، لا يعدو من جانبه كونه توافقا مع ما هو يظهر في الهوية باعتبارها فريدة من نوعها. (2) حقيقة القضية متجذرة في حقيقة (وجود-مكشوف) أكثر سموا في الأصل، في حالة شاخصة للموجود الذي هو قبل-حملي، ويسمى الحقيقة الكينونية (الأنطيقية)، والتي تستهدف الموجود الذي يتلاقى مع ذاته في العالم. (3) فقط لأن الوجود يكون مكشوفا، يصبح من الممكن للموجود أن يظهر. هذا الكشف الذي يُفهم على أنه حقيقة على الوجود، هو ما نعنيه باسم الحقيقة الأنطولوجية.
يجب ألا ننسى أن الكاتب انطلق من الحقيقة الحملية. وأظهر من أين تستمد هذه الحقيقة مصدرها، ثم استطاع، وهو يبتعد عنها شيئا فشيئا، أن بين بإيجاز لماذا تبدو الحقيقة الإسنادية وكأنها تحقق جوهر الحقيقة، وهو ما قاده إلى الحقيقة الأنطيقية. من خلال البحث عن أساس تمكين المطابقة، وجدنا أن هذا التمكين مؤسس على الحرية. والآن، بعد ذكر المستويين المختلفين المذكورين أعلاه، أي "الأنطيقي" و"الأنطولوجي"، تكون الحرية التي يتحدث عنها "في ماهية الحقيقة" مرئية بوضوح ومحددة، من حيث ماهيتها، من خلال الموقع الذي تحتله في "شبكة الارتدادات". بالفعل، إذا كان أحد المستويين هو مستوى "الموجود كما هو"، وإذا كان الآخر هو مستوى "الوجود نفسه"، فمن الضروري مطلقا أن يكون الوسيط والممر من أحدهما إلى الآخر يتمثل في "دع الموجود-يوجد". هذه العبارة يجب أن تؤخذ بمعناها الصارم، وهذا يعني أنه يجب إعطاء أهمية متساوية لـ "دع" و"وجود". لن يقدم الكاتب هنا والٱن صياغة وافية لهذه العبارة "دع الموجود-يوجد"، بل حسبه أن يتحدث عنها بإيجاز، وهو حريص على تقديم تحليل مفصل في موضع آخر. تمهيدا لهذا الغرض، طرح هذا السؤال: كيف نتفكر كشيء واحد الاقتران بين هاتين الكلمتين، "دع ووجود"؟

هارتموت روزا عالم اجتماع وفيلسوف نقدي الماني مؤلف كتابي “التسارع” (2013) و”الرنين” (2018) الحداثة المخمورة بالسرعة والمتعطشة للسيطرة، حلل فيهما بشكل وثيق النظام الاقتصادي الذي وقعنا فيه في أعقاب مفكري مدرسة فرانكفورت. في كتابه "جعل العالم غير متاح"2020، يحثنا على كسر أوامر الأداء التي تمليها الرأسمالية التي تجعل العالم غير مقروء وأخرس. مقال بارع. منذ البداية، تشير روزا إلى التحليل الفينومينولوجي لعلاقتنا الساذجة بالأشياء: هناك شيء موجود، وأكثر من ذلك شيء موجود. قبل أن ننفصل عما يحيط بنا، نكون كائنات في العالم فيما يتعلق بالحاضر. ومع ذلك، فإن أشكال المطابقة المختلفة تخفف من هذه العفوية، وهذا صحيح بشكل خاص اليوم. في الواقع، إن بيئتنا الاجتماعية، المقفلة بحتمية السيطرة على كل ما هو موجود، تجعل من العالم "نقطة عدوان": وتعني روزا بهذا أن كل ما يظهر يجب أن يكون "معروفًا، ومسيطرًا عليه، ومغزوًا، ومُتاحًا للاستخدام". وهكذا فإن كل ما ندركه، بما في ذلك بعض البشر، يمر عبر غربال منطق التحسين: إذا لم نتمكن من اتباع إملاءات اليوم، فمن الصعب عدم مواجهتها. مستوى السكر في الدم، حجم الصدر، رحلاتنا: يجب أن يخضع كل جزء من وجودنا القصير إلى الحث العام على الأداء. بالإضافة إلى ذلك، تتقاطع الحياة اليومية للمستهلك العادي مع العديد من الجداول الزمنية والعديد من قوائم المهام. التسوق، الطبيب، اليوغا، حفلة عيد الميلاد، المكالمة الهاتفية مع الأجداد: كل شيء يجب الاهتمام به، أو توفيره، أو إخلاؤه، أو التحكم فيه، أو حله، أو إنجازه. ومع ذلك، تذكرنا روزا بأن هذه العلاقة العدوانية تجاه الأشياء ليست طبيعية على الإطلاق. إن "مبدأ بروميثيوس" في اللقاء مع العالم الذي نظرية هاربرت ماركوز يأتي من الرأسمالية الليبرالية الناتجة عن الثورة الصناعية: إذا كان لها مزاياها، فإنها تمنع خلق علاقات أخرى مع العالم، ولا سيما العلاقة الأورفية مع الأشياء، المزيد طريقة حساسة والمثيرة. وهكذا، أصبح الخوف من الانقطاع عن الدراسة والقلق منتشرًا على نطاق واسع: لقد أدت الحداثة إلى توسيع نطاق وصولنا إلى العالم، لكن هذا لا يخلو من الانزعاج. في الواقع، أصبحت البيانات والأفلام والكتب والأغاني من كل بلد في العالم في متناول أيدينا حرفيًا: يمكننا أن نقول عن العالم إنه معلق على ظهورنا.

مثلت مسألة الجسد والنظام مجالا خصبا للتأمل الفلسفي منذ القدم، وأضحى فيما بعد محوراً لمناولات عديدة، تتراوح  بين ماهو تأملي-تجريدي وماهو إنساني-مادي، فكان  دافعاً نحو تثوير وتطوير مناهج البحث في هذا المجال على المستوى التفسيري-التنظيري والمستوى العملي-الممارساتي.

 ويعد الجسد تجربة مُحايثة لعالمنا المعاش باعتبار ما تُسيّجه وتساكنه المفارقات، إذ يروم استجراح مسالك جديدة للحفر في أعماق الذوات البشرية واستكناه أغوار دهاليزها  واستفتاح مغالقها. ومن هنا ظل التفكير فيه أمرا لا يخلو من متعة البحث.. فيتقاطع فيه البيولوجي مع النفسي في ٱتصال حميمي بالإجتماعي-الكوني، وبين هذا وذاك تتبلور سيرورة الوقائع فلا تكُف أبداً عن إنتاج االمعاني الأصيلة لواقع إنساني جسدي فعلي.

تنعكف هذه  الورقة العلمية محاولة منا  لاقتحام أغوار النظام  وفوضى الجسد لأجعل منه موضوعاً للمساءلة تستنطق فيه المسكوت عنه عبر حلقة مثاقفة فلسفية.

إذا كانت الفلسفة الكلاسيكية – وخاصة الميتافيزيقية مع التصور الأفلاطوني – قد عملت على إحداث شرخ كبير بين الثابت والمتغير وذلك في إطار الثنائية الضدية القائمة على الفصل بين النفس والجسد، فإن هذا الباراديغم  سيتجذر أكثر في زمن الحداثة وبالتحديد ضمن الخطاب الدّيكارتي الذي بموجبه تمّ تمجيد العقل وتبخيس الجسد. باعتباره عائقاً إيبيستيمولوجياً أمام الوصول إلى الحقيقة.

إلا أن الفلسفة المعاصرة بمنطلقاتها الإختلافية ستعمل على هدم الثنائيات التقليدية التي قامت عليها تصورات الميتافيزيقا الغربية، وبالتالي ستعيد الاعتبار للجسد وتحرره من براثن التهميش والتحقير. فترتقي به إلى مصاف التمجيد والتهليل ضمن أفق إنتاجي لخطاب متصالح مع كل ماهو حسي-مادي، مما يؤصل قيمة الجسد الذي طالما  ظلّ مسكوتا عنه ومُحاطا بسياج من الصمت المطبق.

حاولت في هذه الورقة التي اشتغلت عليها، والمعنونة ب:الجسد بين المداهنة والمهادنة، أن أوضح بداية  التحديد المفهومي لمصطلحي: المداهنة/المهادنة، لكي يتسنى لنا فهم العلاقة القائمة بين اللانظام والنظام  بمعنى الجسد والنفس. فأبرز الرؤى الفلسفية  تراوحت مواقفها بين من يداهن يناقص وينافي كل ماهو حسي-مادي، وبين من  يهادن ويماجد  ويرد الاعتبار للامفكر فيه والمنسي.

مصطلح (المُداهَنةَ) صِفةُ ذَمٍّ  وخلق قذر، لا يحط فيه إلا من خف في العلم وزنه، أو من نشأ نشأة صغار ومهانة.

أما مصطلح (المهادنة)  فيعني الْمُصَالَحَةُ، الْمُسالَمَةُ، ووَقْفُ القِتَالِ،ويرادفه: الهدنة. فكلمة : المداهنة نقيض المهادنة يعني: حط ، اقصاء، تحطيم وتذليل. في مقابل: تصالح، تواد، تراض، وتمجيد.

استمرارا لما قاله بيليدور في بداية الجزء الأول، أكد على أن الحقيقة كتطابق الشيء (المخلوق) مع العقل (الإلهي) تضمن الحقيقة كتطابق الفهم (البشري) مع الاشياء (المخلوقة). الحقيقة تعني في كل مكان وفي الأساس المطابقة، انسجام المخلوقات مع الخالق، "تناغما" محددا إذن بنظام الخلق. لكن هذا النظام، المنفصل عن أي فكرة عن الخلق، يمكن أيضا تمثيله بطريقة عامة وغير محددة كنظام للعالم. ماذا يحدث بمجرد التخلي عن فكرة الخلق؟ منطقيا، التعريف، من حيث التطابق، وحقيقة القضية، ينبغي الاعتراف من الآن فصاعدا بأنهما بدون أساس. وبدلاً من نظام الخلق المتصور لاهوتياً، ينشأ تنظيم ممكن لجميع الأشياء بواسطة العقل الذي، باعتباره مادة كونية، يمنح لذاته قانونه وهكذا يسلم بالمعقولية المباشرة للخطوات التي تشكل مساره (ما نعتبره "منطق الفكرة").
من خلال التفكير بهذه الطريقة، يلمح هايدجر إلى "فينومينولوجيا الروح" لهيجل الذي رفض أيضا صراحةً التطابق، رفضا يعني بوضوح إلغاء التعريف التقليدي للحقيقة، وجاء هايدجر ليحذو حذوه. من ثمة لم يعد من الضروري أن نبرر على وجه التحديد أن جوهر حقيقة الحكم يكمن في تطابق العبارة.
إن استبدال نظام العالم بالنظام الإلهي يقدم ميزة مزدوجة: يسمح، من ناحية، بالتخلي عن ضرورة وجود أساس لحقيقة القضية في حقيقة الشيء، بتقليص "مكان" الحقيقة (أي قصر الأخيرة على مجال القضية وحده)، وتخليصه من كل تدخل لاهوتي؛ ويسمح، من ناحية أخرى، من خلال الاحتفاظ بفوائد هذا الأساس طي الكتمان، بعدم المساس بسلامة "طبيعة" الحقيقة. ومتى سعينا جاهدين مع فشل ملحوظ في شرح كيفية إثبات المطابقة، إلا ونقوم بافتراضها مسبقا باعتبارها جوهر الحقيقة. بالمثل، تعني حقيقة الشيء دائما مطابقة الشيء المعطى لمفهومه الأساسي كما يتصوره "العقل". ما يسعى هايدجر إلى جعله مفهوما هنا هي هذه الحركة المزدوجة التي من خلالها أضفى تقليد معين المشروعية على تعريف الحقيقة كتطابق (من خلال تأسيس هذه التطابق في النظام الإلهي) ومنح لهذا الأخير بداهته؛ ليتلاشى بعد ذلك لصالح هذه البداهة بالذات، التي تم منذ ذلك الحين الاحتفاظ بها وحدها، على أعتبار أنها تأسست مع ذلك بطريقة سرية على أرضية لاهوتية تدعي أنها تخلصت منها.

تمهيد
منذ أن كتب جون فرنسوا ليوتار سفره المدهش الوضع مابعد الحداثي سنة 1979 ودشن يورغن هابرماس عبارة عصر مابعد حديث في عام 1981، أصبح هذا الموقف أكثر حدة. والآن، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت خنادق ما يسمى بالحرب الثقافية مرسومة بواسطة التوتر بين الحداثة وما بعد الحداثة. ولا تزال هاتان النظرتان العالميتان ــ المختلفتان جذرياً مثل العصور الوسطى والحداثة ــ تتداخلان إلى حد كبير. في هذه المداخلة، سوف نستكشف معنى هذين المصطلحين ــ أصولهما التاريخية، وسماتهما، وبالطبع اختلافاتهما. "إن ما بعد الحداثة تقدم نفسها بالتأكيد باعتبارها معاداة للحداثة". يصف هذا البيان تياراً عاطفياً في عصرنا اخترق جميع مجالات الحياة الفكرية. وقد وضع على جدول الأعمال نظريات ما بعد التنوير، وما بعد الحداثة، وحتى ما بعد التاريخ —يورغن هابرماس، الحداثة في مقابل ما بعد الحداثة (1981).

الحداثة

إن كلمة "حديث" مصطلح غامض يستخدم للإشارة إلى العصر الحديث منذ القرن السادس الميلادي. ولكن في العقود القليلة الماضية، تم تحديد فترة زمنية معينة باسم الحداثة. كما تختلف تواريخ هذه المرحلة الثقافية، حيث يطلق البعض على كل شيء بعد العصور الوسطى اسم الحداثة؛ ويقسم آخرون العصر الحديث إلى ثلاث مراحل:

الحداثة المبكرة: التي تتوافق مع التنوير الفرنسي والثورة العلمية؛
الحداثة الكلاسيكية: التي تتوافق مع القرن التاسع عشر الطويل؛ والنزعة العلموية
الحداثة المتأخرة: التي انتهت في مكان ما بين عامي 1968 و1989.

ولأغراضنا هنا، لا تهم التواريخ الدقيقة لأننا لا نتحدث حقًا عن فترة تاريخية. باتباع تحليل فوكو في مقاله "ما هو التنوير؟"، سنتعامل مع الحداثة "كموقف أكثر من كونها فترة من التاريخ". ولقد تجلى هذا الموقف بشكل واضح في الفترة المعروفة باسم القرن التاسع عشر الطويل والتي امتد من الثورة الفرنسية في عام 1789 إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914. وكان هذا هو الوقت الذي بلغت فيه الحداثة ذروتها وكانت القوة المهيمنة في الثقافة. لذلك يحدد فوكو عددًا من سمات الحداثة بما في ذلك:
التشكيك في التقاليد أو رفضها؛
إعطاء الأولوية للفردية والحرية والمساواة الصورية؛
الإيمان بالتقدم الاجتماعي والعلمي والتكنولوجي الحتمي،
الحركة من الإقطاع نحو الرأسمالية واقتصاد السوق،
التصنيع والتحضر، والنزوح من الريف الي المدن،
العلمانية، ونقد الفكر الديني، الدين المدني،
وتطوير الدولة القومية والديمقراطية التمثيلية والتعليم العمومي،

في القرن الثامن عشر تسيّد الابحاث الفلسفية كل من جون لوك وينسب دالمبير الى ان لوك خلق الميتافيزيقا ونيوتن خلق الفيزياء. اهتم جون لوك بعرض تاريخ العقل الانساني اما نيوتن فجعلنا ندرك الكون على انه مجموعة من القوانين.1

في البدء لم يكن القرن الثامن عشر حكرا على الابحاث الفلسفية على حساب تنحية ابحاث ومخترعات العلم جانبا. فلم يكن ميراث فرانسيس بيكون ولا لايبنتيز ولا جوردان برونو ولا غاليلو ولا ادلر ولا كوبرنيكوس واشهرهم كان ليونهارد اويلر ولم يكن علم الرياضيات مثلا مخليا طريقه لتسّيد الابحاث الفلسفية.

لم يشر لنا تاريخ الفلسفة العشوائي الذي تغلب عليه الجزر المتناثرة والقفزات الكنغرية أنه مسار خطي انتظامي محكوم بحتمية ضرورة التقدم الى امام. تاريخ الفلسفة لم يحتو ويستوعب التنوع ضمن وحدة تجانس الامتداد التاريخي للفلسفة. تاريخ الفلسفة حكمته القطوعات والوثبات الاعتباطية غير المنضبطة خارج المسار الخطي الذي حكم انثروبولوجيا التاريخ البشري ايضا بتعثرات حكمتها الصدف والعشوائية في حدوث غير المتوقع من وقائع.. ميزة القفزات الانعطافية النوعية في مسار انثروبولوجيا التاريخ الانساني كانت اغناء لمسار ذلك التاريخ وتقدمه الى امام رغم العثرات التي جعلته يمر بمراحل ما اطلق عليه المفكر مطاع صفدي مراحل غياب التاريخ بمعنى الانقطاع عن مسيرة التاريخ المتجهة بحتمية التقدم الى امام. القطوعات في تغييب المراحل التاريخية هي التي مهدّت لانبثاق الصدف غير المتوقعة في صنع التاريخ. ( للمزيد من التفصيل ينظر كتابنا العولمة بضوء نهاية التاريخ وصدام الحضارات طبعة الاردن).  

من جهة أخرى لم تكن الفلسفة طيلة تاريخها منذ بدء نشوئها والى اليوم انها كانت تقود العلم وراءها. ومقولة الفلسفة هي أم كل العلوم تحتاج الى ركنها بالظل خاصة بعد خروج العالم من القرون الوسطى ودخوله عصور العلم والنهضة والانوار والحداثة. وتقدم علوم الفيزياء والرياضيات وعلوم الطبيعة بشكل مذهل.

من الاقرار به حقيقة لا تقبل الدحض ان مسار العلم كان يقود الفلسفة وراءه اغلب الاحيان وفي توازي مساره معها احيانا اخرى حيث يقاطعها وهي منقادة مستسلمة له. ويسايرها من حيث تحتاجه ويحتاجها بتكامل معرفي أو تخارجي معا.

يتبنى هوسرل في فلسفة الفينامينالوجيا مقولة الوعي هو موضوع نفسي. ويعزو سبب ذلك الى حقيقة الوعي ليس موضوعا يقبل المشاهدة او الملاحظة الخارجية بل هو حقيقة نفسية تستلزم ضربا من من التحليل القصدي على حد تعبيره الخاطيء.

الوعي اشمل من ان يكون حقيقة نفسية وليس حقيقة عقلية. طالما نعجز عن تعريف ماهو الوعي؟ بذلك نكون اخرجنا ان يكون الوعي موضوعا للنفس وحتى موضوعا مستقلا للعقل لكن يبقى وعينا الاشياء ومعرفتها وادراكها هو وسيلة العقل في تنظيم وتخارج معرفي بين الوعي والاشياء. بعلاقات لا حصر لها مع موجودات عالمنا الخارجي من ضمنها عالم الشعور النفسي...

 ميزة الوعي هو الذاتية الانفرادية في دخول معرفتنا العقلية وخبراتنا مع المدركات. اذا اجزنا لانفسنا استعارة مقولة ديكارت العقل اعدل قسمة مشتركة بين بني البشر فنكون مطمئنين القول الوعي هو اعدل قسمة يمتلكها جميع البشر الاسوياء لكن باختلافات نوعية.

ولا يحتاج الوعي الى ضرب من التحليل القصدي النفسي حسب ما يرغبه تعبير هوسرل وذهب الى ان التحليل القصدي يمهد الطريق كي يستخلص من المعاني الكامنة في كل من الشعور والادراك الحسي والتصور الذهني ماهياتها الفينامينالوجية.

الوعي وسيلة وظائفية للعقل الانفرادي أي ما يدركه (س) من الناس هو غير مايدركه آخرين للموضوع المشترك الواحد. الوعي بمفهومه النفسي كما يطرحه برجسون يعجز عن استخلاص المعاني الكامنة في الشعور والادراك الحسي والتصور الذهني وصولا الى معرفة الماهيات.

هذه القصديات الذاتية السلوكية النفسية التي ادرجها هوسرل يحققها الوعي العقلي وليس الوعي النفسي. هنا نود تثبيت الوعي كمصطلح مفهومي أنه جوهر خاصية النوع البشري حاله حال العقل واللغة والزمن والوجود.