شهدت الفلسفة الأوروبية الحديثة تطورات فكرية هائلة وغير مسبوقة منذ عصر النهضة، حيث كانت بمثابة المرآة التي عكست التغيرات الاجتماعية والعلمية والسياسية الكبرى التي عاشتها أوروبا على مدى قرون. غير أن هذا الازدهار الفكري لم يكن دون ثمن، إذ صاحبته أزمة وجودية عميقة عُرفت بـ"أزمة المعنى"، وهي أزمة تمثل أبرز ملامح التوتر الإنساني مع نفسه ومع العالم من حوله. فقد واجه الإنسان الأوروبي في العصر الحديث معضلات فكرية وفلسفية حادة تمحورت حول القيم، والهدف، والغاية من الوجود، بعد أن تزعزعت الأسس التقليدية التي طالما قدمت إجابات لهذه التساؤلات.
هذه الأزمة لم تكن وليدة لحظة، بل كانت حصيلة مسار طويل من التحولات الفكرية الكبرى التي ابتدأت مع الثورة العلمية التي فككت رؤى الكون التقليدية القائمة على الميتافيزيقا، ومرورًا بعصر التنوير الذي مجّد العقلانية وأطلق العنان للنقد والتشكيك، وصولًا إلى الثورة الصناعية وما صاحبها من تغييرات اقتصادية واجتماعية زعزعت التوازن بين الفرد والمجتمع. كل هذه الأحداث كانت بمثابة زلازل هزت اليقين التقليدي وأسقطت مركزية الإنسان في الكون، مما خلق شعورًا متزايدًا بالاغتراب والعبثية.
وفي قلب هذه التحولات، جاءت أصوات فلسفية كبرى، مثل فريدريش نيتشه الذي أعلن "موت الإله"، مشيرًا بذلك إلى انهيار القيم المطلقة التي كانت تمنح الوجود الإنساني معناه. كما أثارت الفلسفة الوجودية، على يد جان بول سارتر وألبير كامو، تحديات جديدة، مؤكدة أن المعنى ليس معطى مسبقًا بل يجب على الإنسان أن يخلقه بنفسه في مواجهة "العبث". ومع ذلك، تعمقت الأزمة مع ظهور التيارات ما بعد الحداثية التي رفضت فكرة الحقيقة الواحدة أو المعنى الثابت، معتبرة أن كل شيء نسبي ومتعدد.
إن أزمة المعنى ليست مجرد ظاهرة فلسفية مغلقة داخل جدران الفكر، بل هي مأساة إنسانية طالت جذورها أعماق النفس البشرية. لقد بات الإنسان في العصر الحديث يعاني من اغتراب وجودي، وضياع للقيم الكبرى التي كانت تمنحه التوجيه، ومع تزايد الفردانية، والتقدم التكنولوجي، والعولمة الثقافية، أصبحت هذه الأزمة أكثر حدة وتأثيرًا. لم تعد تساؤلات "من نحن؟" و"لماذا نعيش؟" مجرد استفسارات فلسفية مجردة، بل تحولت إلى قضايا ملحة تمس كل إنسان في صميم تجربته الحياتية.