عرفت الفلسفة الحديثة ثلاثة رسائل شهيرة حول التسامح:

الأولى: رسالة في التسامح (بالإنجليزية: A Letter Concerning Toleration)‏ للفيلسوف الإنجليزي جون لوك نُشرت في الأصل عام 1689م. نشرها لأول مرة باللغة اللاتينية، على الرغم من أنه تمت ترجمتها على الفور إلى اللغة الإنجليزية. ظهر عمل لوك وسط مخاوف من أن الكنيسة الكاثوليكية قد تستولي على إنجلترا، وتستجيب لإشكالية الدين والدولة من خلال اقتراح التسامح الديني كحل. هذه الرسالة موجهة إلى صديق لوك المُقَرَّب فيليب فان ليمبورغ، الذي نشرها دون علم لوك.

الثانية: رسالة في التسامح (بالإنجليزية: Treatise on Tolerance) للفيلسوف الفرنسي فولتير نشرت في الأصل عام 1763م. ظهر عمل فولتير في حدث محاكمة جان كالاس سنة 1762م  وهو تاجر بروتستانتي فرنسي اتهم بقتل ابنه مارك أنطوان لمنعه من اعتناق الكنيسة الكاثوليكية . أُعدم كالاس في 10 مارس 1762م، بعد تعرضه للتعذيب؛ ولم يعترف قط بالجريمة التي كانت تفتقر تمامًا إلى الأدلة. أُعدم كالاس إلى حد كبير استجابة لرد فعل الغوغاء الغاضبين وحماسة بعض القضاة المحليين. وهذا هو ما جعل فولتير يشعر بالظلم الشديد في هذه القضية، فقام بحملة خاصة وعامة لتبرئة جان كالاس. من خلال إظهار التحيز والتعصب الكاثوليكي في رسالته. وفي عام 1765م، سَيُقِيلُ لويس الخامس عشر ملك فرنسا القاضي الرئيسي وأعادت محكمة أخرى محاكمة القضية من جديد، وسيتم تبرئة كالاس بعد وفاته، وتعويض أسرته بمبلغ 36 ألف فرنك فرنسي أنذاك، هذا بإختصار سياق "رسالة في التسامح" لفولتير والذي يختلف عن سياق لوك.

الثالثة: رسالة في التسامح لديدرو، باللغة الفرنسية (Sur la tolérance et autres textes) والتي مع الأسف الشديد لم تترجم بعد إلى اللغة العربية عكس رسائل كل من لوك وفولتير، رغم أن عدد صفحاتها لا تتجاوز 110 صفحة، كتبها سنة 1760م قبيل رسالة فولتير، وتعرضت للتهميش حتى سيعاد التعرف عليها سنة 1968م بفرنسا وإعادة طبعها ونشرها من جديد، وكتبت الرسالة أيضاً في سياق فلسفة الأنوار ومهدت له، وكان الغرض منها أيضاً الحد من التعصب الديني الكنسي، هذه بإختصار شديد سياق نشر الرسالة.

نجري بمناسبة عيد الميلاد مونولوجا تقييميا حول عام 2024 من خلال معالجة مجموعة القضايا والمشاكل والازمات بطرح الأسئلة والاستفسارات والانتظارات والتوقعات الفكرية للسنة المقبلة 2025. لقد كان العام المنقضي عام التقدم التكنولوجي المتسارع وزمن التفكك الامبراطوري الامبريالي بامتياز ولكنه أيضا عام الحروب المدمرة وصعود اقصى اليمين المحافظ وتراجع اليسار والمبادئ الكونية والتنازلات القيمية المؤلمة.
1.ماهو أهم سؤال تقييمي يمكن ان يلخص مفهوميا ما جرى من أحداث حاسمة في سنة 2024؟
ما وقع في عام 2024 من أحداث تكنولوجية هامة وتغييرات سياسية حاسمة في المعمورة عامة وفي الوطن العربي بالخصوص قد يعجز الفكر الفلسفي المعاصر عن العثور عن المفاهيم المناسبة التي يمكنها التعبير عنها وقراءة التواريخ وصياغة التصورات. وذلك لأن هذه التغييرات مدمرة وكارثية ولأن الأحداث تبدو مرعبة ومزلزلة لكل المرجيعيات والأنساق ومنها ماهو طبيعي مناخي ومنها ماهو سياسي اقتصادي ومنها ماهو تاريخي ثقافي. وبالرغم من تزايد الحروب وتفاقمها في العالم والوطن العربي وفلسطين الجريحة الا أن الأزمة الصحية والتهديد البيئي والتغيرات المناخية وتراجع الموارد الغذائية والمائية والطاقوية للدول هو الذي يطرح نفسه بقوة على المشهد الاعلامي ويستدعي النقد والتأمل والتدبر. يبدو أننا في طور مغادرة زمن العولمة بعدما اكتوينا بنار توحشنا وفي اتجاه دخول عصر ميتا الحداثة البعدية ولقد شاركت بعض الباحثيين الايكولوجيين في التوصيف بأن البشرية تحيا في زمن الأنثربوسين.فكيف ستؤثر الفلسفة على التطور التكنولوجي بحيث تساعد البشرية على الرد على ظاهرة الأنثربوسين؟

 الموجود و الوجود

ثمة مقولة في الفلسفة الوجودية تذهب الى (ان الوجود يسبق الماهية) طبعا هنا المقصود بالوجود في العبارة هو الموجود الانساني الارضي وليس الوجود الميتافيزيقي المجرد المطلق كمفهوم. وخطأ العبارة الوجودية ان الموجود الانسان وجوده يرتبط بماهيته ارتباطا وثيقا لا فكاك منه ولا تمييز بينهما يدركهما العقل كموضوعين منفصلين. بمعنى لا الموجود الانسان يكون موضوعا منفصلا عن ماهيته التي هي الاخرى ليست موضوعا ايضا. بمعنى حسب تعبير سارتر الانسان كينونة مستقلة موحدة ليس موضوعا.

فالموجود ونعني به الانسان أينما وردت اللفظة في المقال وليس الانسان بالمفهوم الميتافيزيقي(وجودا) إنما يدرك الموجود بصفاته الخارجية فقط وليس بماهيته التصنيعية ذاتيا المحتجبة خلف تلك الصفات. والمقصود بالماهية المصنّعة انها مشروع بناء الموجود لماهيته او جوهره الخاص به.

ماهية الانسان تختلف عن ماهيات الاشياء فماهية الانسان ليست جوهرا ثابتا بل هي صيرورة مشروع بناء الذات من الخبرة التراكمية النوعية المكتسبة بالتجارب الذاتية للموجود. الموجود الذي يدرك ذاتيته كمتعين انطولوجي بكليته الكينونية الواحدة هو ذات موجودية بالصفات الخارجية المدركة والماهية معا. الماهية المدّخرة في كينونة الموجود الانسان هي سيرورة من تصنيع الذات لنفسها يقوم بها الفرد يتعذّر ادراكها لسببين الاول انها أي الماهية جوهر ذاتي فرداني استبطاني صرف والثاني انها صيرورة من البناءات الذاتية التي يقوم الفرد بها.

اللغة
من غير المعقول والمقبول ان تكون اللغة رصفا لكلمات خالية من قصدية المعنى. فتعبير العقل باللغة لا ينتج ما لامعنى له. قصدية المعنى باللغة سابقة على شكلها الانتظامي صوت وشكل حروفي دال على معنى ضمن كلمات. والعقل واللغة تبطل فاعليتهما التفكيرية الادراكية عندما لا يكون هناك موضوعا لهما.

شكل الحرف اللغوي هو خاصية رمزية نحوية ما لم تكتمل بخاصية الصوت الذي هو المعنى. ومتى ما اكتسب شكل الحرف دلالة الصوت الخاص به نجده يتحرر من الرمزية ليصبح دلالة معنى تجريدي.

اشار جون سيرل فيلسوف العقل واللغة الامريكي الى تراتيبية علاقة ارتباط العقل باللغة بقوله هما يتوجهان الى الاشياء معا. العقل يتمثل الشيء ويقصده بالتزامن مع استحضار اللغة له. اي في التعبير عنه. ويعتبر جون سيرل هذا التزامن بين العقل واللغة تزامنا (آنيا).

في مداخلة مع هذه العبارة لجون سيرل أجد حقيقة اللغة غير الظاهراتية هي انها (لازمانية). ليس في إعتماد أن الآنية لحظة وقتية منحلة في تحقيب الزمن الارضي الى ماض وحاضر ومستقبل. (الآنية) حاضرا هي لحظة لا زمنية كما اشار ارسطو لذلك.

بل واذهب اكثر أن اللغة لازمانية لانها تعيش زمانا لا نهائيا ازليا غير محدود بحدود ادراكية ولا يقبل القسمة على نفسه او التجزيء. فالزمن واحد أينما وجد شيء في الكون يلازمه وليس ملازمة وقتية في الطبيعة الارضية وفي عالمنا الخارجي. عليه فأن الآنية لا تدرك بغير زمانية مغايرة لها حتى وإن كانت هي في حالة سيرورة من انحلال انتقالي من الحاضر كتحقيب وقتي الى سيرورة خارج الزمن النسبي الارضي.

تساؤلات تمهيدية

هل الانا (الذات) وهي ليست موضوعا ادراكيا من غير صاحبها ولا تمتلك ماهية خارج وصاية العقل المنفرد وليس الجمعي عليها في الدلالة المعرفية عن مختلف جوانب الحياة وحاجات الجسم. هل الذات حقيقتها الوعي الادراكي الاستبطاني الداخلي كموجود قائم بذاته في ملازمة الجسم لها؟ ام الذات من خلال وعيها لذاتها ووعيها موضوعات العالم الخارجي والعالم الداخلي هي ادراك استبطاني عقلي – نفسي مشترك؟ هل الانا موجود يدرك من غيره أم هو خاصية انفرادية لدلالة وجودها المغاير للذوات الاخرى ومع الاشياء في خاصيتها التفكيرية المجردة؟ أم الانا الذات موجود انطولوجي من خلال تعالقه بالشخصية الهوياتية للفرد تدخل في علاقة تجريد تواصلي مع الآخر ولا تكون موضوعا له على اعتبار الانا ماهيتها المتفردة هي مرجعية العقل المفكر لفرد؟ هل وعي الذات كتجريد إرادي سلوكي فاعل يرتبط بالاستشعارات والاحاسيس الجسمية والنفسية خارج وداخل الجسم في توليفة واحدة.؟ هل يمكننا فصل الذات عن الانا كما هو حال الافتراضية التي تذهب  فصل الفكر عن اللغة او فصل الشكل عن المضمون او فصل الصفات الخارجية عن الجوهر؟ هل يوجد عضو بايولوجي مثل جسم الانسان ينوب عن تمثيله الذات كما يذهب له فيلسوف الوجودية جبرييل مارسيل؟ هل من المتاح أن تنفصل الذات عن الجسم في علاقتها بعالمي الانسان الخارجي والداخلي الاستبطاني وحتى العالم الخيالي؟ الانا والانا الاعلى والهو تراتيبية فرويدية لتجليات الذات النفسية السلوكية حسب حاجة الشعور واللاشعور. من البديهي الانا التي هي الذات التي تعي وجودها بالمغايرة الموجودية مع غيرها من الاشياء والموضوعات كتفكير تجريدي تختص به الذات دون غيرها. يذكر دي بيران (اخطاء الميتافيزيقيين الذين يخلطون بين الانا التي هي الذات النسبية القائمة بالمعرفة وبين النفس التي هي موضوع مطلق للاعتقاد) 1. هذه واحدة من الخلط الذي وقع به جبرييل فيلسوف الوجودية كما سيتوضح معنا بهذه الورقة. فالذات والنفس كلاهما موضوعان مطلقان للاعتقاد.

ولدت حركة التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر. وقد حصلت على اسم التنوير في إنجلترا و الأنوار Aufklärung في ألمانيا. وأشهر ممثليها، بالإضافة إلى عمانويل كانط، ومونتسكيو، وفولتير، ودينيس ديدرو، وجان لورون دالمبر، وجان جاك روسو، وباروخ سبينوزا وجون لوك وتوماس هوبز وديفيد هيوم. تتميز هذه الفترة، التي نسميها "عصر التنوير"، بالرغبة في التقدم في جميع المجالات: السياسية: التشكيك في الملكية المطلقة بالحق الإلهي، الدينية: انتقاد الخرافات والتعصب، الثقافية: الاهتمام المتجدد بالمعارف والعلوم. التكنولوجيا والقضايا الاجتماعية: تراجع الطبقة الأرستقراطية، وصعود البرجوازية. ويمكن تلخيص "برنامج" التنوير على النحو التالي: محاربة الجهل من خلال نشر المعرفة على نطاق واسع؛ وزيادة الثروة من خلال تطوير الزراعة والصناعة والحرف والمهن والتقنيات والأدوات والوسائل والفنون؛ العقل بديل للخرافة. الطبيعة والانسان مكان اللاهوت. ضمان استقلالية الأخلاق فيما يتعلق بالدين؛ جعل فكرة الله مستقلة عن أي دين معين؛ رفض الاستسلام لما يسمى بمراسيم العناية الإلهية. فكيف أجاب كانط عن سؤال ما الأنوار؟ والى أي مدى ترجم الجواب الذي اقترحه روح عصر الأنوار؟

خلفت أعمال الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين أثرا جليا في الفكر الفلسفي و في مجالات أخرى مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا و علم النفس، حتى أن إسهاماته الفكرية قد شكلت محطة تحويلية في الفلسفة الغربية و تمخضت عنها بالتالي الفلسفة المعاصرة كما نعرفها اليوم. لم يبق من المجالات ما لم يبلغه أثر أفكاره، و قد عمل في المنطق و الرياضيات و علم الأخلاق، حتى نال شهرة واسعة رغم أنه لم ينشر خلال حياته إلا كتابا واحدا. عقب وفاة فيتغنشتاين و بزوغ تيارات فكرية جديدة، و كذا تطور علم اللسانيات والعلوم الإدراكية، تطورت الفلسفة على نحو معاكس لأفكاره، حيث انصب التركيز على تجاوز الرؤية التحليلية الصارمة للغة بصفتها وسيلة لتصوير الواقع لصالح مقاربات تتبنى تعددية المعنى و السياق الاجتماعي و الثقافي للغة، و تعطي أهمية كبرى لاحتمالات التأويل و التفسير المختلفة.

إرث فتغنشتاين في الفكر المعاصر

من خلال كتابه الأول الرسالة المنطقية الفلسفية (Tractatus Logico-Philosophicus)، قدم فيتغنشتاين لنا "نظرية الصورة"، و هي نظرية تشير إلى أن للغة دورا وظيفيا ألا و هو تصوير الأشياء[1]. أثرت هذه النظرية بشكل كبير على حركة الوضعية المنطقية (Logical Positivism) – أو التجريبية المنطقية – التي شكلت جزءا مهما من الفلسفة إلى حدود ستينيات القرن العشرين، إذ يزعم فيتغنشتاين من خلالها أن الجملة تمثل الواقع لأنها تشاركه في البنية المنطقية نفسها، أي أن الجملة و الصورة الواقعية لهما نفس التركيب الداخلي. رغم قوتها التحليلية، كانت نظرية الصورة موضوع انتقاد للعديد من الفلاسفة و المفكرين نظرا لمحدوديتها و ضيق آفاقها، و قد أقر فيتغنشتاين نفسه بقصور نظريته تلك في كتاباته و أعماله اللاحقة. أما في كتابه تحقيقات فلسفية (Philosophical investigations)، فقد تخلى عن نظرية الصورة و تبنى بدلا منها فكرة "ألعاب اللغة"، مؤكدا أنه من المستحيل اختزال اللغة في وظيفتها التصويرية للواقع المادي، خاصة أنها ظاهرة اجتماعية و ثقافية تعتمد على السياق و الاستخدام[2]. تشير ألعاب اللغة إلى مختلف الطرق التي تستخدم بها الكلمات و الجمل في الحياة اليومية، و هي التي تخلق المعنى عبر خضوعها لمجموعة من القواعد الغير مكتوبة و التي تمليها على كل منا التقاليد و الأعراف السائدة في مجتمعه. يستخدم فيتغنشتاين التشبيه بالألعاب لوصف اللغة لكي يعبر عن ثراء اللغة و غناها باعتبارها شبكة من الممارسات التي تمكننا من التواصل مع كل من الذات و الغير.

في الفصل الأول، قام بيليدور بتعريف الحرية باختصار شديد، ولكنه ترك توضيح المفهوم لفصل منفصل. أما الآن فالوقت مناسب، ونحن دائمًا في صحبة هايدجر، لنقدم وفقا لفكره تطور الحرية في خطاب أكثر تفصيلا. وسوف نعرض المنهج الهايدجري في ثلاثة أبعاد، ولكن هذه المرة مع اختلاف بسيط عن الفصل السابق. عند تناول الحقيقة، انطلقنا من الحقيقة الإسنادية (الحملية) نحو الحقيقة الأنطيقية، ثم من الحقيقة الأنطيقية، نحو ماهية الحقيقة. وهنا سننطلق من ماهية الحرية نحو الحرية السلبية ومن الحرية السلبية نحو الحرية الإيجابية لنتوجه بمزيد من الأمان نحو موضوعنا الأساسي: ماهية الحرية الإنسانية. وهكذا يتمثل البعد الأول في ماهية الحرية. لقد تم كشف الحجاب عن الحقيقة بلعتبارها حرية. إن الأطروحة التي وفقها ينبغي أن تكون ماهية الحقيقة (يُنظر إليها بشكل عام على أنها مطابقة للعبارة) حرية أطروحة مفاجأة. وبالتالي ألا يعني وضع ماهية الحقيقة في الحرية، أننا نعهد بالحقيقة إلى الاعتباطية البشرية؟هذا سؤال ساخن، بدون شك. أو هل يمكننا في الأساس تقويض الحقيقة بالتخلي عنها لأهواء هذه "القصبة الضعيفة". هذا سؤال آخر ساخن هو الٱخر بالنسبة إلى الحس المشترك. ما فرص نفسه باستمرار خلال هذه المناقشة يخرج الآن إلى النور بمزيد من الوضوح: تجد الحقيقة نفسها عائدة إلى ذاتية الذات الإنسانية. حتى لو كانت الموضوعية متاحة للذات، فهي ليست أقل إنسانية من هذه الذاتية وقد وضعت رهن إشارة الإنسان.
مما لا شك فيه أننا نحمل الإنسان مسؤولية كل أشكال اللاحقيقة التي هي ضد الحقيقة. وفي نفس الوقت نطرح هذا السؤال: بما أن اللاحقيقة هي عكس الحقيقة، أليس من حقنا أن نبعدها عن البحث في الماهية الخالصة للحقيقة التي هي غير ضرورية لها؟ هذا الأصل الإنساني للاحقيقة يؤكد، على النقيض من ذلك، أن جوهر الحقيقة "في ذاتها" يسود "على" الإنسان. هذه الأخيرة تعد بالنسبة إلى الميتافيزيقا خالدة وغير قابلة للفناء، فلا يمكن بالتالي أن تبنى على تلاشي وهشاشة الإنسان. كيف إذن، يتساءل هايدجر، تجد ماهية الحقيقة إقامتها وأساسها في حرية الإنسان؟ تبعا لذلك، تنص الرسالة الهايدجرية على أن العداء للأطروحة القائلة بأن الحرية هي جوهر الحقيقة قائم على بعض الأحكام المسبقة: إن جوهر الحرية لا يحتاج إلى فحص اكثر تقدما بل لا يتقبله. الحمبع يعرفون ما هو الإنسان، لكن لنستمع إلى ما يقوله هايدجر حول جوهر الحرية. إن الإشارة إلى وجود علاقة جوهرية بين الحقيقة كمطابقة والحرية تهز تلك الاحكام المسبقة، بشرط أن نكون على استعداد للقيام بالتفاتة إلى لفكر. إن التفكير في هذا الرابط الأساسي بين الحقيقة والحرية (والذي سيتم عرضه بالتفصيل في الفصل الثالث) يقودنا إلى متابعة مشكلة جوهر الإنسان من منظور يضمن لنا تجربة الأساس الخفي لهذا الأخير (الدازاين)، وذلك وفق طريقة يجعلنا بها هذا التفكير ننتقل على الفور من مجال جوهر الحقيقة، إلى مجال جوهر الحرية. إن النهج الهايدجري، كما يقول برتراند ريو، يعلن عن نفسه دائمًا على أنه تحول، بمعنى عودة، تراجع نحو الأصل والأساس: ميتافيزيقا بعد عكسي أو نوع من التعالي. إنما بالنظر إلى كينونة الموحود نفسه، أي ليس فقط بما يجعله ممكنا في تحديداته الخاصة، ولكن في مبادئه نفسها الخاصة بالماهية والوجود (essentia et existentia) يجب التفكير في مشكلة الأساس.

في الدرحة الأولى، يعيش الرجال بالسلاسل في الكهف وهم مفتونون بهذا الذي يدركونه مباشرة. ينتهي وصف هذه الإقامة بالتأكيد المتمبز: "لأن الرجال المقيدين بهذه الطريقة لا يعتبرون كاللامتحجب على الإطلاق شيئا اخر سوى ظلال الأشياء" (Rep.515c,1-2). وفي الدرجة الثانية نشهد إزالة السلاسل. السجناء الآن أحرار بمعنى من المعاني، لكنهم يظلون حبيسي الكهف. يمكنهم الآن الالتفات فيه إلى جميع الجوانب. يصبح من الممكن بالنسبة لهم رؤية الأشياء المنعكسة نفسها التي كانت في السابق تمر خلفهم، كما نصت هذه الجملة: "هؤلاء الذين لم يشاهدوا سوى الظلال تمكنوا بهذه الطريقة من الاقتراب قليلاً من الموجود (Rep.515d,2). الأشياء نفسها تظهر جوانبها بطريقة معينة، أي من خلال وهج نار اصطناعية خارج الكهف، ولم تعد محجوبة بالظلال التي تعكسها. تستأثر الظلال برؤية من لا يعرف سواها، فتنزلق هكذا أمام الأشياء ذاتها. أما إذا تحرر النظر من قبضة الظلال إلى الإنسان وهكذا يتمكن الإنسان من الوصول إلى المنطقة الخاصة "بما هو أكثر انكشافا" (515د،6) وومع ذلك، يجب أن يقال عنه: "ما رآه على الفور من قبل (الظلال)، سيعتبره أفضل انكشافا مما يظهر له الآن صراحةً من قبل الآخرين".لماذا؟ لأن وهج النار الذي لم تعتده عيناه يبهره. وهذا الوهج يمنعه من رؤية النار نفسها وملاحظة كيف يضيء نورها الأشياء، وقبل كل شيء، يجعلها تظهر. كما لا يمكن للرجل المبهر أن يدرك أن ما رآه لم يكن سوى الظلال التي تعكسها الأشياء على ضوء وهج هذه النار نفسها. وصحيح أن الإنسان المتحرر يرى الآن شيئاً آخر غير ذلك الظلال، لكنه يرى كل شيء في ارتباك عام. وعلى النقيض من هذه الأشياء، تبرز الأشياء، المرئية بفضل انعكاس النار التي لا تُعرف ولا تُرى، في أشكال محددة جيدا.
إنها تتصف أيضا بنوع من الاتساق الملحوظ، والذي يجب، بالنسبة إلى الإنسان المتحرر ان يكون "منكشفا احسن"، لأنه مرئي بشكل واضح. لهذا السبب تعاود كلمة alèthès الظهور عند نهاية وصف الدرجة الثانية، وفي هذه المرة عند صيغة التفصيل alèthèstera، الأشياء "المنكشفة أحسن". في الظلال، يؤكد هايدجر، نجد حقيقة أكثر جدارة بهذا الاسم. ذلك أن الإنسان المتحرر من سلاسله يخطئ مع ذلك في تقدير ما هو حقيقي لأنه لا يتمتع بالحرية، وهي شرط "لا غنى عنه" لحسن التقدير. يمكن إذن أن نلاحظ جيدا أن الحقيقة والحرية لا تنفصلان، طالما أن الكائن البشري المتحرر يمكنه

تمهيد

هل نعيش جميعاً في محاكاة؟ إذا سألت الفيلسوف الفرنسي جان بودريار هذا السؤال، فستكون إجابته نعم مدوية. على الرغم من أن ما يعنيه بالمحاكاة وما تعنيه أنت قد يكونان شيئين مختلفين للغاية (وهو أمر مضحك بالنظر إلى أن المثال الأكثر تأثيراً للمحاكاة – هو افلام ماتريكس - مستوحى بشكل مباشر من عمل بودريار لعام 1981 المحاكاة والسيمولاكر) هذا هو الكتاب الذي اقتبس منه مورفيوس، والذي نرى نيو يخفي أقراص الكمبيوتر التي يبيعها بداخله في فيلم ماتريكس الأول وهو الكتاب الوحيد الذي جعله الأخوان واتشوسكي قراءة إلزامية للجميع في طاقم أفلام ماتريكس. ولكن على الرغم من هذا المثال الشهير لفكرة المحاكاة السائدة المستوحاة بشكل مباشر من عمل بودريار، فإن ما يعنيه الفيلسوف الفرنسي ما بعد الحداثي بمصطلح المحاكاة هو شيء أكثر غدراً وأكثر رعباً مما نجده في أفلام ماتريكس. في هذا المقام ، سنستكشف ما يعنيه بودريار بهذا المصطلح "محاكاة" ولماذا يعتقد بودريار أننا بالفعل محاصرون داخل محاكاة - معزولون بشكل دائم عن الواقع. إن فكرة بودريار عن المحاكاة هي واحدة من أكثر الأفكار الفلسفية التي ستصادفها على الإطلاق - أكثر صلة وإثارة للخوف من فيلم 1984 أو فيلم عالم جديد شجاع. إن المحاكاة والسيمولاكر هي ديستوبيا حاضرنا، ديستوبيا شاملة للغاية ومع ذلك يصعب فهمها لدرجة أننا دخلنا إليها دون وعي. إنها التشخيص الأكثر دقة للمنحدر الذي نجد أنفسنا نسقط فيه بحرية مع رحيل ثقافتنا عن الحداثة إلى المحاكاة غير الواقعية التي تشكل حالة ما بعد الحداثة. فماذا يقصد جان بودريار بالمحاكاة؟ وما الفرق بين المحاكاة والسيمولاكر؟ ولماذا نعيش جميعنا في عالم من المحاكاة؟

الترجمة
مقدمة
"تحاول الفلسفة عمومًا تعريف المسؤولية الأخلاقية بمصطلحات مطلقة، مع الحرص على إبعاد نفسها عن الواقع التجريبي للعالم الاجتماعي. يقدم هذا المقال نهجا براغماتي المنحى يدعو لصالح التقارب بين الفلسفة والعلوم الإنسانية في دراسة المسؤولية والذي يجعل هذا التقارب من خلال إعطاء "ممارسات المسؤولية" كموضوع لها، بدلا من المعايير أو أسس المسؤولية. ويهدف إلى تحليل هياكل التفاعل التي يشارك من خلالها الوكلاء الاجتماعيون في ممارسات ملموسة للمسؤولية. والمقصود من هذا التوجه هو التواصل مع واقع النظام الأخلاقي الذي تتسم به المجتمعات الحديثة المتقدمة، والذي يجب تصوره كنظام مفتوح متحرك، في إعادة بناء دائمة. إنه نظام لم يعد يتم فيه تعيين المسؤوليات بطريقة استبدادية، ضمن أطر صارمة وباتباع معايير محددة مسبقًا ومستقرة، بل يتم التخلي عنها إلى حد كبير لمبادرة الجهات الفاعلة الاجتماعية. إن الكثير مما نحتاج إلى فهمه على وجه التحديد للأحكام والمبادئ الأخلاقية يتجاوز الأسئلة الأخلاقية على وجه التحديد. نحن بحاجة إلى فهم العالم الاجتماعي. العقل العملي ليس محضا.
الأخلاق ليست وحدة متميزة ضمن الفكر الإنساني والأنماط الاجتماعية. لم يتم التنظير لمفهوم المسؤولية الأخلاقية إلا في وقت متأخر جدًا من تاريخ الفلسفة، ولا يزال يعاني بشكل واضح من عجز مفاهيمي. ومع ذلك فقد كان موضوعًا لعدد قليل من المهام التأسيسية التي يسمح لنا التحليل الأولي بتقسيمها إلى اتجاهين رئيسيين. الأول، من الإلهام الكانطي، يضع المسؤولية تحت شروط إمكانية الأخلاق ويعطيها تفسيرًا رسميًا وسلبيًا ومحدودًا. والثاني يجعل المسؤولية حجر الزاوية في أخلاقيات الرعاية ويعطيها تفسيرا واسعا وجوهريا وإيجابيا.
تعاني هاتان الاستراتيجيتان من نفس العيب: من خلال السعي إلى تأسيس المسؤولية الأخلاقية بشكل مطلق، فإنهما تمنحانها امتدادًا غير محدود مما يجعلها منتشرة ومراوغة، دون سيطرة على الواقع الاجتماعي والتاريخي للحياة الأخلاقية. ويتكون هذا الواقع من ممارسات تفاعلية سنسميها "عمليات المسؤولية"، و"الدعوة إلى المسؤولية"، و"تحمل المسؤولية"، والتي يمكن اعتبارها بحق ممارسات أخلاقية ووسيلة للتعبير عن الروابط الاجتماعية وتوطيدها وتحويلها. سنقدم في هذا المقال نقدًا موجزًا للرؤى "المطلقة" للمسؤولية ونقترح نهجًا بديلاً للتوجه البراغماتي الذي يسعى إلى ربط المسؤولية الأخلاقية بالحياة الاجتماعية.