تمهيد:
مبحث الابستمولوجيا  في تاريخ الفلسفة احد الاقانيم الثلاث التي قامت عليها الفلسفة منذ عهدي اليونان والرومان حوالي ستة آلاف سنة قبل الميلاد مع ظهور اول فيلسوف اغريقي طاليس.مبحث الوجود، مبحث المعرفة (الابستمولوجيا) والثالث مبحث القيم (الاكسيولوجيا) يهتم بالحق، الخير، الجمال ويمكننا اضافة المنطق وفلسفة الاخلاق.. وتذكر بعض المصادر ان طاليس زار مصر ودرس الفلسفة في الاسكندرية كما زار بابل لنفس الغرض. ومثله فعل فيثاغورس 570 ق .م حيث درس علوم الرياضيات والجبر والهندسة حين زار بابل والتقى علماء البابليين ونقل العديد من مباديء الرياضيات الى بلاد اليونان لعل في مقدمة هذه المباديء هو استعمالات المثلث انه شكل هندسي يتكون من ثلاثة اضلاع ومجموع زواياه 180 درجة احداها 90 درجة وهي الزاوية القائمة. كما نقل بعض المباديء الرياضية والهندسة والمعمار التي كانت تجهلها الشعوب اليونانية. المهم ليس هذا موضوعنا.

من تاريخ فلسفة مبحث الابستمولوجيا

تقول مصادر تاريخ الفلسفة الى أن هوسرل فيلسوف الظاهراتية (الفينامينالوجيا) عمد الى احياء الميراث الديكارتي العلمي في القرن السابع عشر. وكانت رسالة هوسرل ثورة على شتى النزعات اللاعقلية والارتيابية والعدمية التي كانت تنخر  عظام الحضارة الغربية في القرن العشرين .(نقلا عن د.زكريا ابراهيم).

 عند محاولتنا تقصي بعض النقاط التي تحاول ربط تفكير ديكارت فيلسوف الثورة العلمية كما يحب بعض المشتغلين بالفلسفة نعته بها وهو بريء منها. في كتابه الشهير جدا (مقال في المنهج) اثار جملة قضايا تقوم على مركزية الشك بكل شيء جاءنا كموروث يؤثر بحاضرنا ونتداوله فلسفيا. منهج الشك الديكارتي اثار ضجة كبيرة جدا ليس في عصره بل بعد وفاته عام 1900م بقرون طويلة. حتى مفكرنا الكبير عميد الادب العربي طه حسين تأثر بمنهج الشك الديكارتي فاصدر كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي) الذي اثار ردود افعال بين مؤيد ومستنكر رافض اثناء وبعد وفاة طه حسين. النقطة التي اود ذكرها ان طه حسين اراد تلبيس منهج الشك الديكارتي موروثنا الشعري العربي باعتساف وتبيئة المصطلح مصريا واسقاطه على تاريخ الشعر العربي واصفا اياه بالمنحول وهو في غالبيته جاءنا موروثا عن شعراء العصر العباسي.

التساؤل لماذا لعب شعراء العصر العباسي الاول والثاني هذه اللعبة ومعلقات شعراء عصر الجاهلية عصر ما قبل الاسلام كانت معلقة على استار الكعبة بقرنين على الاقل قبل ظهور الاسلام وحوالي اربعة قرون سبقت مجيء الشعراء العاسيين.!! من وضع هذه المعلقات الشعرية وهل شعراؤها اسماء عباسية منتحلة غير حقيقية؟  بمجيء القرن الرابع الهجري إذ قام عبقرية اللغة العربية والشعر العربي خليل بن احمد الفراهيدي 100 - 170هجرية بوضع بحور الشعر الستة عشر كما قام بتنقيط القرآن الكريم ووضع نحو وقواعد اللغة العربية وتنقيط حروف اللغة العربية ووضع العلامات النحوية الاربعة الضمة والكسرة والفتحة والسكون والتنوين والشدّة على حروف اللغة العربية التي اجملها ب28 حرفا وبعضهم يعتبرها 29 حرفا باضافة الهمزة كحرف له شكل وصوت.

الفلاسفة واللغة
يقول نيتشة رغم مقولته الجدالية الفلسفية الاستفزازية (موت الاله) ان (اللغة من ابداع الله). كما يقول غاديمير (اللغة هي احد الالغاز العظيمة في التاريخ الانساني). ويقول هيدجر(الانسان كائن لغوي وليس كائنا عاقلا). ويقول سيلارز( الوجود لغة). كما يقول فيلسوف اميركي اخر (الله لغة).
اذا اخذنا تفسير عبارة نيتشة اللغة من ابداع الله فلا معنى تسويغي تفسيري في تمرير العبارة سوى استشهادنا بعبارة شيلر قوله ان كل شيء ندركه ميتافيزيقيا كصفات مثالية يخلعها الانسان على معبوده الذي يؤلهه انما نجدها اي تلك الصفات المثالية مجتمعة بالانسان كموجود يلازم الطبيعة يتفاعل معا ويستفيد منها في تخارج انفصالي مستقل عنها.
وهي بطبيعتها الفيزيائية كموجود معطى مخلوق مستقلة انطولوجيا عن الانسان من ناحية التموضع الذاتي فيها او التجانس التكاملي تكوينيا معها.. أنسنة الطبيعة يتمثّل بالاعتياش الاحادي الجانب في علاقة الانسان بالطبيعة فهي الام المرضعة له وهي المصدر في توفير غذائه ومقوّمات حياته.
وقد سبق لفيورباخ الفيلسوف المادي التأملي الصوفي تعبيره أن الانسان بعلاقته مع ذاته ومع موجودات العالم الخارجي والطبيعة هي الاله المتكامل الذي يدركه الانسان بالموجودات التي يحتويها الوجود. الانسان بعد إختراع صناعته لالهه في تأمله الطبيعة وكائناتها وتنوعها البيئي وظواهرها الدائمية منها والمؤقتة وصل لنتيجة ربما لم يكن يدركها لكنه كان يمارسها انه هو إله ذاته كموجود ضمن وجود اكبريحتويه.. بفارق انه يؤمن ايمانا قطعيا انه الاله الانساني في داخله المجتمعة فيه كل الصفات الانسانية وليس الصفات الالهية التي لا يدركها بل تلك التي يرغبها الانسان في معبوده كخصائص نوعية يحاول الاقتداء بها سلوكا موزعا على طقوس دينية يمارسها في محاولته كسب رضى الخالق في تقليده لصفاته التي هي انسانية والتي بدورها تلعب دورا مهما في تهذيب اخلاق العبد في سلوكه المجتمعي. الصفات الالهية هي مفردات يدركها الانسان في ذاته فقط. ولا يدركها بمعبوده لأنه خالق كل شيء المدرك منه وغير المدرك. وادراك الصفات الالهية من قبل الانسان يعني ان الله اصبح موضوعا يدركه العقل بصفاته.

تمهيد
"إن أفضل طريقة للحصول على فكرة جيدة هي أن يكون لديك الكثير منها."
يقال بأن الفلسفة تعطي إجابات غير مفهومة لأسئلة غير قابلة للحل وبأنها تفكير أي نشاط وليست عقيدة. الفلسفة هي نظام الأفكار، ونفس الشيء هو معرفة الفيلسوف وفهم أفكاره. لكن كل شخص لديه أفكار، على مستوى أو آخر: قد تكون لدينا فكرة عن وجبة المساء أو عن إجازة العام المقبل. الفكرة تحدد الفكر: التفكير لا يتكون من إنتاج تمثيلات في رأس المرء، بل من وجود أفكار. في كثير من الأحيان، على سبيل المثال، عندما نواجه سؤالًا فلسفيًا، لا يكون لدينا سؤال: السؤال لا يقول لنا شيئًا، ونجف أمام ورقتنا أو شاشتنا، إلا إذا حاولنا خداع أنفسنا بالتمسك بالأفكار من غيره. وفجأة، ندرك أننا نعمل، وملتزمون بمسار واعد إلى حد ما، لكن قيمته لن نتمكن من تحديدها إلا بعد حدوثها: لقد جاءت إلينا فكرة. لذلك، نحن لا ننتج الأفكار، بل تأتي إلينا. وبالتالي، فإن الفكرة تأتي من امتلاكها، وليس من تنفيذها على الإطلاق: عندما لا تكون لديك فكرة، لا يمكنك علاجها عن طريق صنع واحدة؛ علينا أن ننتظر حتى يأتي – أفضل شيء نفعله هو أن نحاول أن نجعل أنفسنا متاحين، وبهذا المعنى فإن التفكير ليس نشاطًا يمكننا الادعاء به: عندما لا تصلنا أي فكرة، على الرغم من كل الجهود العقلية التي نبذلها. كنا قادرين على تقديم، ونحن لم نفكر. وعلى العكس من ذلك، هناك أشخاص تأتي إليهم الأفكار طوال الوقت. أحيانًا يكون الأمر رائعًا، كما هو الحال مع الفلاسفة الذين تكشف دراستهم للنصوص عن عدة أفكار في كل سطر؛ في بعض الأحيان يكون الأمر مخيفًا، مثل الأشخاص الذين لا يستطيعون الجلوس ساكنين وتحريك الهواء من حولهم باستمرار. لذا، فإن التفكير لا يعني بالضرورة التفكير جيدًا أو بطريقة مثيرة للاهتمام: إذا كانت هناك أفكار غنية ورائعة (على سبيل المثال، أفكار أرسطو في التمييز بين القوة والفعل، وفكرة كانط في قلب النموذج القائل بأن "لدينا معرفة تلقائيًا"، فهناك أفكار أخرى). هي أفكار فقيرة ومبتذلة مثل تلك التي لدينا يوميًا حول الأشياء الصغيرة في الحياة، أفكار لا تعطي شيئًا، وحتى الأفكار، على سبيل المثال في السياسة، والتي يمكننا أن نقول عنها إنها قذرة. لكن في النهاية، تشترك كل هذه الأفكار في أنها أفكار، أي أنها وصلت إلى مؤلفيها، وأنها تكشف أن الطبيعة الحقيقية للفكر لا ينبغي لها مطلقًا أن تكون نشاطًا ذاتيًا كما نتخيله بهذه السهولة. لأن التفكير يتكون من وجود أفكار، والفكرة في حد ذاتها هي حدث. فما المقصود بالفكرة؟

4 - قانون الحقيقة

رابط ضرورة صلة وصل بين الله والعقل: في ٱخر نص بقي لنا من شيلنج، لم يتم ذكر هذه الأطروحة بهذا الشكل فحسب، بل إنها موضوع قانون، وقانون متعال. يتعلق الأمر بمحاضرة ألقاها يوم 17 يناير 1850 على مسامع زملائه في أكاديمية برلين. فيها عبر عن الاهتمام الذي أبداه، في نهاية حياته، بالمسائل الكلاسيكية: وبالتالي، ليس فقط مسألة "to on" الموروثة من أرسطو، ولكن أيضا المسألة التي نوقشت كثيرا منذ العصور الوسطى حول ما يسمى "مصدر الحقائق الأبدية”. إن كون هذه المشكلة الأخيرة قد أثارت اهتمام شيلينج بشكل مباشر هو ما ستتناوله صاحبة هذه الدراسة بالتفصيل. أما الٱن، فتقول إن شيلينج، في هذا العرض، يستحضر قانونا آخر غير قانون العدالة لتوضيح أن الله مرتبط بالعقل أو بعالم الممكنات. إنه قانون وحدة الوجود والفكر ، الذي لا ينبغي الخلط بينه وبين القانون السابق، وهو قانون العدالة. هذا الأخير يتحقق بشرط أن يقرر الله بنفسه الفعالية: إنه "قانون الصيرورة"، قانون افتراضي، ومشروط. ليس هذا هو الحال بالنسبة لقانون وحدة الوجود والفكر، الذي هو قطعي أو غير مشروط: فهو يعمل في اتجاه منبع الفعالية، وبالتالي في استقلال عن الحركة الإبداعية. ولكن ماذا يقول بالضبط؟ أن "ما هو موجود يجب أن يكون له دائما في نفس الوقت علاقة بالمفهوم" (Begriff) (was immer I s t auch ein Verhältniss zum B e g r i f f haben muss) وأن "اللا شيء، بعبارة أخرى، ما ليس له علاقة بالفكر ( Denken)، غير موجود حقا" (was Nichts ist, d. h. was kein Verhältniss zum Denken hat, auch nicht w a h r h a f t Ist). هذا يعني أن الله لن يوجد بالمعنى الدقيق للكلمة إذا لم يكن ذاتا مفردة بشكل أساسي مرتبطة بالكوني، بالفكر الأسمى، بمفهوم المفاهيم، أو بكل الممكنات.

في ما يتعلق بالله، يكون القانون المعني هو الأكثر إلحاحا: كونه نفسه الأسمى، فذلك لأنه ينطبق على الوجود الأسمى فوق كل شيء. وإلا فلن يكون له مجال للتطبيق. توضيح مهم لأن هذا القانون لا تفوته الإشارة إلى ما نسميه عادة "الحقيقة". لكن حتى بمعناها العادي أو الكلاسيكي، فإن الحقيقة تشير إلى علاقة انسجام بين القضية وواقع مرجعها الخاص، وهي العلاقة التي تفترض بالنسبة لشيلنج الوحدة المطلقة للذات والموضوع. وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نتحدث عن الحقيقة حول حكم ما إذا كنا لا نفترض، خارج أحكامنا، مجالًا يقتضي فيه الحكم لأجل المطلق أن يطرح نفسه، أو يسند نفسه. هذه الطريقة في التحقيق في مسألة الحكم كحكم للحقيقة هي السمة المميزة للمثالية الألمانية. يربط شيلينج، منذ بداياته، بالمطلق، ويخضع للمطلق الانسجام الذي تشهد عليه قيمة الحقيقة في المعرفة الإنسانية: تتم إعادة إدخال التوافق في قلب المطلق، والمعرفة نفسها - في حد ذاتها ليست معرفة حقيقية إلا لأنها أولاً معرفة المطلق، المعرفة التي يولدها المطلق من نفسه. تظهر هذا المقاربة بوضوح عندما باشر الشاب شيلينج مهمة إعطاء أساس للمعرفة. يرتكز التوافق على الوحدة المطلقة المستمدة من تجسيد الذات المطلقة. وبالتالي فإن الحقيقة هي، في الأساس، وحدة الذات والموضوع المطلقين، أي وحدة الفكر والوجود الأسمى. ما يقدمه لنا الٱن شيلينج الأخير هو هذه الوحدة، ولكن بعبارات معكوسة، فالكلمة الأساسية ليست هي الفكر، بل هي على وجه التحديد الوجود، وليست المفهوم بقدر ما هي الله الذي يسبقه. دعونا نستبعد على الفور سوء الفهم الذي يمكن أن تؤدي إليه مثل هذه الصياغة.

إذا كان الوجود أول (prius) وسابقا على المفهوم، فلا يعني ذلك من وجهة نظر شيلينج الطريق الأولى والأكثر قصرا إلى تحديدات لفكر المطلق: فالوجود، في هذا السياق، على العكس من ذلك، يعني "خارج المقولات"، أو المثال الذي يتجاوز جميع المقولات، أي الحر، المفرد المطلق، إله الأصول. يهاجم شيلينج هنا تألق المفهوم الذي كرسه هيغل والهيجليون.

في هذا العرض الموجز، لن تقر ألكسندرا ما إذا كان غير عادل تجاه هيجل. ومع ذلك، تلاحظ أنه من خلال جعل الغلبة للوجود على المفهوم، للواحد على الكوني، سعى شيلينج إلى إبعاد نفسه عن المفكر الذي هو قريب جدا منه؛ ذلك لأنه بالنسبة لشيلنج أكثر من هيجل نفسه، فالوجود لا يستبعد المفهوم.

أما سوء الفهم الآخر الذي يتعين علينا أن ننحيه جانبا فيتعلق بالحقيقة. فهل قانون وحدة الوجود والفكر هذا، لأن الوجود هو الأول، لا يشتق منه إذن؟ وهذا ليس على وجه التحديد ما يقترحه شيلينج، لأنه يرى أن هذا القانون لا يأتي من الله، وبعبارة أخرى من الوجود: كيف يمكن ذلك إذا كان صحيحا أنه يفسر هذه الرابط الضروري الذي يربط الله بالمفهوم؟ وبموجب هذا القانون، لا يمكن لله ألا يكون ذاتا قابلة للتنبؤ، ولا يمكن أن يكون الله مفهوم المفاهيم، أي شيئًا (سائلًا) (aliquid) بالمعنى الإجمالي للكلمة، الكل، الشامل. وبفضل هذا القانون يمكننا أن نقول حقا إنه موجود؛ أي ليس شيئا، ولا يمكن التنبؤ به: بدونه، هذه العبارة لن تكون حقيقة " (wäre keine Wahhrheit)، كما لاحظ شيلينج. ولهذا يمكننا القول إن قانون وحدة الوجود والفكر هو قانون الحقيقة. وبدونه لن يكون الله جماع الممكنات. إذا كان بإمكانه أن يقول "أنا الحق" (يوحنا XIV 6)، فذلك لأن القانون يربطه بعالم الحقائق، لأنه من الضروري أن يكون الله شيئًا، أو أن يكون الواحد هو الكل. ولذلك فإن قانون الحقيقة موجود في مبدإ المعادلة السحرية «الله هو الوجود»، وهي معادلة بدونها لا يكون لقانون العدالة أي معنى لأنه يفترض أن هذه المعادلة نفسها مكتسبة، لأنه يفترض أن الله يتصل إلى مجموعة شاملة من الممكنات. والمسألة إذن هي أن نعرف هذه المرة من أين يتلقى الله قانون الحقيقة بالضبط، إذا كان، كما يريد شيلينج، المطلب الذي يصوغه، أو الضرورة التي هو تعبير عنها، "يتجاوز" فعلا الله. للحصول على فرصة لتوضيح هذا السؤال، من المناسب أن نتناول القول العام، وليس المحدد فقط، الذي وردت فيه هذه الأطروحة: لأي أسباب تمسك شيلينج كثيرا بفكرة أن هناك رابطا ضروريا يصل العقل بالله، أو الحر مطلقا بمحموع الممكنات؟

5- تجنب منزلقين اثنين

هذا العنوان الفرعي وحده يعلن عن برنامج كامل. بالنسبة إلبنا، سوف ىيتعلق الأمر برؤية كيف أراد شيلينج أن يضع نفسه على رقعة الشطرنج الدقيقة للإجابات المتنافرة المقدمة لسؤال تم تناوله على نطاق واسع منذ العصور الوسطى: سؤال "العلم الإلهي" (scientia Dei) ليس فقط في ما يتعلق بما هو يسميه لايبنتز بالحقائق الفعلية (الموجودات المخلوقة، والاحتمالادت المستقبلية)، ولكن أولاً في ما يتعلق بحقائق القانون، التي هي ميتافيزيقية وبالتالي ضرورية (أي الجواهر والمبادئ الأبدية). هدف شيلينج هو تناول مسألة حقائق القانون، أي "الأبدية". والكلمات التي اختارها ليأخذها في الاعتبار مستوحاة بلا شك من لايبنتز: إن التساؤل عن مصدر هذه الحقائق هو التساؤل عن مصدر الإمكانات في مجملها. في الواقع، عند لايبنتز، تصبح الحقائق ممكنات: عندما تكون ضرورية، تغطي جميع الإمكانات؛ وعندما تكون مشروطة، تغطي بعضها فقط.

لكن شيلينج لديه مرجع آخر في ذهنه: فهو يستمد الدعم من كانط، الذي يرى، في العقل، أن هناك "فكرة الواقع الكامل (omnitudo realitatis)"، "وفرة من المادة التي يمكن أن تستخلص منها جميع محمولات الأشياء"، "المفهوم الأصلي" الذي يشكل بالتالي نسيج أي تعريف أو تحديد. لكن، بالنسبة إلى شيلنج، ليس هناك داع لأن تستبعد من الفكرة بهذا المعنى الإمكانات التي تسمح لنا لعبة القوى ببنائها.

وهكذا يضع شيلينج نفسه على الفور في منظور يعطي مسألة المعرفة الإلهية المسبقة دورا خاصا. عادة ما نتساءل: كيف يعرف الله المخلوقات التي خلقها؟ من أين تأتيه الأفكار عن المخلوقات؟ لأن الخلق بشكل أعمى، دون معرفة ما الذي تم خلقه، هو علامة على النقص. لا يستطيع الله أن يخلق كما يرسم رجل أعمى صورة عمياء. إذا كان الله لديه علم مسبق بكل شيء، فذلك لأنه لا يستطيع أن يخلق أي شيء دون أن يعرف مسبقا ما سيفعله – وقد لاحظ آباء الكنيسة المسيحية ذلك بالفعل. أليس من الضروري إذن أن يكون الله الخالق محكوما بشيء آخر غير إرادته؟ فيتلقى معلومات عن المخلوقات من هيئة غير هيئة إرادته؟ والسؤال هو أن نعرف ما هي هذه الهيئة الأخرى وما علاقتها بالذات الإلهية. لا يدعي شيلينج أنه صاغ السؤال بهذه العبارات: نحن مدينون للمدرسيين بصياغته. لكن ليس أيا منهم، لأن القديس توما الأكويني تجنب المشكلة، في رأي شيلينج: لقد حدد مصدر هذه المعرفة المسبقة مباشرة في الله، أو في الجوهر الإلهي. ولكن ماذا يشرخ بذلك؟ يرى شيلينج ببساطة أن الجوهر الإلهي يمكن للأشياء أن تشارك فيه وتحاكيه، وليس أن الأشياء يمكن أن تشارك فيه: “من لا يرى على الفور أن هنا جاءت لتحل محل فكرة قدرة الأشياء على المشاركة في الجوهر الإلهي أو تقليده [...] قدرة الجوهر الإلهي على السماح لنفسه بالمشاركة فيه أو تقليده. وبعبارة أخرى، فإن مثل هذا الحل ناقص إلى حد كبير : فهو لا يوضح بأي حال من الأحوال إمكانية وجود المخلوقات نفسها، لكنه يفترض ذلك مسبقا. إذ كيف يمكن لله أن يعتبر نفسه قدوة إذا لم يكن لديه علم بالمخلوقات الممكنة التي يمكن أن تقلده؟ إذا لم يحل إلى شيء آخر غير نفسه؟ هذه صعوبة كان مفكر مثل دونس سكوت قد أدركها بالفعل: كون الله قابلًا للتقليد لا يفسر أنه يعرف مخلوقاته الممكنة، وأن ذكاءه يأخذها في الاعتبار على هذا النحو، وأنه يضعها كأشياء؛ بل هذه الحقيقة (أن الله لديه علم بكل ما يمكن أن يقلد جوهره) هي التي تفسر الحقيقة الأولى (أن الله قابل للتقليد). إن إمكانية الخلق لدى الله وبالتالي تقليده تفترض، بمعنى آخر، أن الأشياء ممكنة؛ إنها تفترض، بالنسبة لشيلنغ، "إمكانية أصلية للأشياء" (ursprüngliche Möglichkeit)، أي مصفوفة مستقلة عن جوهر الله وإرادته.. في ما يتعلق بهذه النقطة الدقيقة للغاية، تعلم شيلينج درس لايبنتز: لا يمكننا أن نجعل مصدر الممكنات يعتمد على مرسوم سيادي، لكننا لا نستطيع فصل الأخير تماما عن الله سواء على حساب المجازفة بتأكيد اثنين بدلاً من واحد. إنها مسألة تجنب مأزقين بدلاً من مأزق واحد: المأزق الإرادي، ولكن أيضاً المأزق الثنائي. يعتمد شيلينغ هنا، بشكل واضح، على مقطع دقيق من "الثيوديسا" حيث يبحث لايبنتز عن نوع من الطريق الأوسط بين هذين المأزقين (§§ 182-186):

1/ أول ما امتلكه بيير بايل، وفقا لايبنتز، من ميزة التحديد الدقيق (§§ 182-3) يتوافق مع الأطروحة الديكارتية الصحيحة، والتي يدينها شيلينج بدوره باعتبارها خاطئة. تتحدث لنا هذه الأطروحة بالتأكيد عن “الحقائق” بالمعنى الضيق للكلمة، وهي أحكام، وبالتالي “عمليات الإرادة الإلهية” كما يقترح لايبنتز لصالح ديكارت. ولكن كما يؤكد شيلينج نفسه بقوة، لا يوجد سبب لإسقاط الفرق (البشري) على الله بين السمع والرغبة، بين المعرفة والإرادة: بالنسبة لإله ديكارت، فإن الأمر نفسه هو الرغبة (velle) والمعرفة (cognoscere) لذا، أخذ لايبنتز في الوقت نفس على محمل الجد التمييز بين الاثنين حتى يتم تجنب العواقب الشنيعة التي يمكن استخلاصها دائمًا من الأطروحة الديكارتية. هذه الأطروحة، بحسب لايبنتز، تركز كثيرًا على ما تسميه هي نفسها "حرية" إلهية، ولا تركز بشكل كافٍ على ضرورة ما يفلت من أي مرسوم على وجه التحديد - أي لبس فقط الحقائق بالمعنى الدقيق للكلمة، رياضياتية (نصف أقطار الدائرة متساوية)، ميتافيزيقية (لكي تفكر يجب أن توجد)، ولكن أيضا الممكنات، فكرة المخلوقات. الآن ترقى الفرضية الديكارتية، من وجهة النظر هذه، إلى التأكيد على أن الله يصبح واعيا بما يخلقه بفضل الحقيقة الوحيدة التي يخلقها: معرفة الله بمخلوقاته ترجع فقط إلى قدرته على خلق هذه المخلوقات. وهو ما يصل إلى القول بأنه يخلق بشكل أعمى، مما يعرض للخطر مكانة حقائق الأشياء التي يعرفها. تُجرد هذه الأشياء من أي ضرورة عندما نعتبر أنها يجب أن تكون مطلوبة حتى تكون معروفة. إن مثل هذا اللاتمييز في الصفات الإلهية يؤدي إلى ضرر بالموضوعات العلمية. يأخذ شيلينج هنا من لايبنتز الحجة التي بموجبها يخلط ديكارت لسوء الحظ بين مستوى الوجود ومستوى الجواهر. لأن الحقيقة لا تعتمد على الإرادة الحرة: فالحقيقة ضرورية، وليست الحقائق حقائق يقررها الله .

2/ لكن هناك نقطة أخرى يعاب عليها لايبنتز، وهي المأزق المعاكس والذي من مصلحتنا أيضا أن نحدده كما فعل تومايوس (1655-1728): هذه هي الأطروحة التي دافع عنها تلاميذ دونس سكوت، والذين بالنسبة إليهم - كما قال لايبنتز (§ 184) – “الحقائق الأبدية ستبقى عندما لا يكون هناك فهم، ولا حتى فهم الله”. إنها أطروحة جذرية، وهي ليست بعيدة كل البعد عن أطروحة جميع الاسكتلنديين. لأن دونس سكوت أكد أن المعقولات ليست موجودة مسبقا في جوهر الله عند تعقلها؛ وأن العقل الإلهي هو الذي ينتجها. لذلك، يجب أن نكون اسكتلنديين بطريقة خاصة جدا لنذهب إلى حد القول إن هذه الأخيرة موجودة بمعزل عن الفعل الذي يراها الله من خلاله، أي يعرفها. وكما يؤكد شيلينج، فهي أطروحة لا تستحق إلا الاسكتلنديين "المتطرفين" (äussersten)، الذين وجدوا في الواقع - لم يقل شيلينج - في سكوت نفسه صيغا غامضة للدفاع عن عالم واضح لا يعتمد على نفسه. بأي حال من الأحوال على العقل الإلهي. ويمكننا أن نذكر هنا اسمين على الأقل، اسم جون ويكليف (1330-1384) الذي أصبحت أطروحته في زمن قياسي بمثابة إحباط للاسكتلنديين أنفسهم، واسم فاسكيز (1549-1604) الذي كانت أطروحاته، على الأقل على طرفي نقيض من ذلك، وكان لهم بعض الأتباع في الأوساط اليسوعية. وفقًا لهؤلاء المتطرفين، كما يؤكد شيلينج، فإن مصدر الحقائق لا يعتمد كثيرا على الله لدرجة أنه موجود "بمعزل عن أي علاقة بالله": يأخذ الاستقلال معنى مطلقا بحيث يقتصر إلى حد كبير على المظهر الخارجي؛ سوف يصبح الله واعيًا للحقيقة والممكن في عالم خارج فكره. وهي أطروحة يرفض شيلينج نفسه تأييدها، لكنه لا يتخلى عنها لصالح أطروحة لايبنتز. وهذا ما يجعل الرحلة التاريخية التي يدعونا إليها مثيرة للاهتمام. دعونا نرى الآن كيف تختلف عن أطروحة لايبنتز.

ومثل لايبنتز دون أدنى شك، فهو يسعى إلى إيجاد نوع من الطريق الأوسط بين المأزقين اللذين ذكرناهما للتو. لكن المصطلحات التي يفكر بها حول هذا المسار الأوسط ليست هي المصطلحات التي استخدمها لايبنتز. أعتقد أن لدينا دليلًا خطيرا للغاية، على الرغم من أنه متحفظ للغاية، حتى قبل أن يذكر شيلينج بدوره المأزقين الشديدين: فهو يذكر "الاسكتلنديين" بعبارات إيجابية ويقترح أن دونس سكوت قد ترك الباب مفتوحا لطريق مقبول بين الشعاب المرجانية. وإذا كان الاسكتلنديون "المتطرفون" الذين أشار إليهم لايبنتز لا يقدمون أي مساعدة ــ ولايبنتز على حق ــ فمن المؤكد أن هذه ليست الحال بالنسبة لكل اسكتلندي. إذا كان الأسكتلنديون المتطرفون يفرضون على الله عالماً معقولاً مستقلاً عن الله، فإن أسكتلنديين آخرين يحافظون على رابط الاعتماد والضرورة بين هاتين الهبئتين: فالجواهر، بالنسبة إليهم، مصدرها في مبدأ "متميز عن الله" ولكنه، في في نفس الوقت، هو "ضروري" (connecessarium). والأفضل من ذلك بكثير، وفقا لشيلنج، أن دونس سكوت نفسه كان سيميز هذا المبدأ في ما أسماه على نحو مناسب "Ens Diminutum"، والذي كان يعني بالنسبة إليه موضوع العلم الإلهي، وهو التمثيل. إن حجة شيلينج ليست مقنعة للغاية لأن الفكرة، بالنسبة إلى سكوتس، ("الوجود الموضوعي" للشيء) هي في الواقع إنتاج للذكاء الإلهي. ولكن يمكننا أن نجادل، لمتابعة معناه، وبالاعتماد على سكوت، أن كل شيء معقول هو قبل كل شيء ممكن، وممكن منطقيا، وغير متناقض، وأنه إلى هذا الحد يكون مستقلا عن الذكاء الإلهي، على غرار مبدإ عدم التناقض. لكن سكوت لا يقول بهذا المعنى أن الممكن يفرض على الله نفسه: فهو كممكن منطقي، ليس له اتساق.

لذلك من اللافت للنظر أن شيلينج يريد هنا بأي ثمن أن يجد في أفكار سكوت شيئا يعطي الماء لمطحنته الخاصة. في الحقيقة، بالنسبة لسكوت، فإن مصدر الإمكانات لا يختلف عن الله، عن عقله - وهي أطروحة، على أي حال، لا يمكن أن تستجيب لمقصد شيلينج، وهي التشكيك في مصفوفة الجواهر لأن هذه الأخيرة توفر غذاء للفكر ويمكنها جعل الله على اتصال مع الفكر. لكن هذا الأمر لا يمكن أن يوجد منفصلاً عن الله، مجردا عنه: يجب أن يحافظ على علاقة مع الله. وما قيمة الحل الذي يقترحه لايبنتز ضد الانفصال بين هذا المصدر والله؟

يكمن حل لايبنتز في هذه الكلمات القليلة التي يتحمل شيلينج عناء اقتباسها: "إنما، الفهم الإلهي، في رأيي، يشير لايبنتز، هو الذي يجعل الحقائق الأبدية حقيقية، [...] بدون الله، لن يكون الأمر ممكنًا فحسب. لن يكون هناك أي شيء موجودا، ولكن لن يكون هناك أي شيء ممكنا" هذا يعني أننا لا نستطيع أن نؤكد أن مصدر المعرفة الإلهية المسبقة لا يعتمد على الله بشكل مطلق أكثر من التأكيد على العكس من ذلك أنه يعتمد عليه بشكل مطلق: فهو يعتمد عليه بمعنى أنه بالنسبة إلى لايبنتز "ملكة" الله، أي فهمه؛ ولا يعتمد عليه بمعنى أنه ليس نتاج قوته. ومع ذلك، فإن هذا الحل ليس في الواقع حلاً من وجهة نظر شيلينج، وقبل كل شيء لأنه يترك دون إجابة سؤال معرفة "كيف يرتبط هذا الفهم" في الواقع بمجموع الإمكانات. فإذا اتصل بها على أنها كيانات "صاغها" (sich ausdenkt) من نفسه، "فلا نرى في هذه الحالة كيف يتم تمييزه عن الإرادة الإلهية"؛ ولذلك فإننا نعود إلى المأزق الديكارتي. إذا كان يرتبط بها ككيانات "يكتشفها" (entdeckt)، على العكس من ذلك، "على أنها موجودة هنا" (als schon da seyende)، فذلك لأنه يفترض مسبقا هيئة "سابقة" (Vorausgeseßtes) مستقلاة عنه، شيء يُسمع أو يُحدس، وأنه ليس هو نفسه إذ لا نستطيع أن نقول إنه الأصل؛ ولذلك فإننا لم نتقدم أكثر في ما يتعلق بمصدر المعرفة الإلهية المسبقة.

ونتيجة لذلك، فإن حل لايبنتز ليس حلا واحدا حقا... لذا يجب إعادة بدء البحث. ومن أجل إعادة إطلاقه، يظل شيلينج منتبها للمزالق التي أراد لايبنتز تجنبها والتي هي الحدود المتطرفة التي يجب أن نبحث عنها بدقة. ومع ذلك، يلفت شيلينج الانتباه إلى نقطة غابت عن لايبنتز: ما هو هذا "je ne sais quoi" (nescio quod) الذي هو ضروري مع الله والذي يكون للجواهر في الواقع مصدرها؟ لم يذهب لايبنتز إلى هذا المجهول لسبر أغواره، بل افترضه كموضوع ضروري للفهم الإلهي، ولكن دون توضيحه.

6-  ما تدين به الحرية للحقيقة

في بداية هذا المطلب، أكدت ألكسندرا رو أن توضيح مصدر الجواهر الأبدية والإمكانية الأصلية للأشياء، هو في نفس الوقت توضيح للعلاقة التي تربطها بالله نفسه. ثم أشارت إلى أن لايبنيز، وفقا لشيلينج، لم يقلق بشأن ذلك، معتقدا أن الوولفيين من بعده لم يكونوا أفضل حالًا: من المؤكد أنهم شعروا أن هناك حاجة إلى شيء آخر غير الفهم الإلهي لتبيان من أين يستمد الله معرفته بالممكنات؛ لكنهم سمحوا لأنفسهم بأن ينخدعوا بالكوني، أو ينبهروا به، وبذلك يتخلون عن التفرد الذي يحدد الله نفسه. العقلانية الضعيفة، وهي تتحاشى الله، سهلت عليها المهمة. لحسن الحظ، كان كانط، وفقا لشيلينج دائما، قد أعاد المثل الأعلى فوق الفكرة، ومن خلال التأكيد على التفرد بالإضافة إلى الكوني، والواحد بالإضافة إلى مملكة الإمكانات، إلى الكلية، حتى لو لم يجن الفائدة الممكنة من تمييز  مماثل.

هنا يعلن شيلينج عن دينه (بتسكين الياء) ودين العصر الحديث تجاه المفهوم الذي وضعه كانط بالفعل في أساس المفهوم الشامل للإمكانات: وهو على وجه التحديد، "الكائن المفرد"، "كونه الأكثر واقعية". إذا كان المصدر المطلوب، مصدر الكوني، لا يجب أن يعتمد بشكل مطلق على الله أكثر من ألا يعتمد عليه بشكل مطلق، فكيف يمكننا أن نتصور ذلك؟ 

استعان شيلينج بالمفهوم الذي وجده عند أرسطو، وهو مفهوم الهيولى: المادة هي تلك التي، بامتياز، تعتمد نسبيا على الآخر الذي هو مادة؛ فهي غير موجودة لذاتها بل هي للآخر (هي بغير وجود لذاته). ومع ذلك، فهي لم تتخلق من العدم ، لأنها العدم الذي انطلاقا منه يمكن للآخر أن ينتج بالفعل. فهي إذن في علاقة ضرورة مشتركة مع الآخرية القادرة على الإنتاج. هذا، وفقا لشيلينج، هو وضغ المبدإ الذي هو مصدر الجواهر الأبدية: إنه متميز عن الله لأنه المادة التي يمكن لله فعلا أن يعرف بها مخلوقاته. ولذلك فهو لا يتوقف عليه بشكل مطلق، بل يفرض نفسه بالضرورة على الله. وهنا نجد الضرورة الغامضة التي تربط الله بالممكن، والمثل الأعلى بالفكرة. ويبدو أن شيلينج يحاول أن يجعلها واضحة من خلال استدعاء قانون، قانون وحدة الوجود والفكر، قانون الحر والممكن. بموجب هذا القانون، لا يمكن لله ألا يكون الجوهر الشامل، ولا يمكنه ألا يفكر، ويلج إلى الفكر، ويحضر في كل الإمكانات، أي يعرفها. ولكن أين ينشأ قانون هذه الضرورة؟ ويبقى السؤال مطروحا. لا تشير ملاحظات شيلينج إلى مصدر يمكن تحديده بوضوح، على الأقل بشكل صريح. ومع ذلك، يمكننا أن نحاول، بجهد أخير، البحث عن مصدره.

يبذل شيلينج نفسه جهدا أخيرا عندما يحدد كيفية يتحقق هذا القانون من نفسه: لله ييهب الكون نفسه إلى الأبد، أي أنه ينضاف إلبه بكل ضرورة، دون أن يقرر الله ذلك، دون أن يكون حرا في اتخاذ القرار. صيغ شيلينج هي تلك التي يستخدمها في مكان آخر للإشارة إلى واقعة أن يقدم نفسه لله إلى الأبد الإمكان الأصلي للأشياء (Urmöglichkeit)، بعبارة أخرى مصدر الإمكانات، الجواهر الأبدية: من اختصاص الله وحده أن يكون الكوني، "في حد ذاته" يجب أن يكون كذلك، ولكن على وجه التحديد لأن الله هو هذا الآخر دون أن يكونه لأجل لاشيء، بطريقة غير مطلوبة، وبالتالي في ما يتعلق بذاته بطريقة عرضية (zufällig)، يتعلق الأمر بشيء يطرأ له"، أي شيء غير متأصل في جوهر الله .

تبرز هذه الصيغ حقيقة أن ربط الفكر بالوجود ضروري بكل تأكيد، لكنه ليس ضروريا بمعنى أنه قد يكون مدرجا في الله ذاته كنوع من اللزوم؛ لأنه لو كان الحال كذلك، لما كان الله خارج نطاق الكوني أو الحر بإطلاق، يفترض في ذاته ما يأتي لينضاف إليها.

كذلك الكوني يأتي إلى المتفرد (أو الفكر إلى الوجود)، ليس كمحموله الأساسي على وجه التحديد، ولكن كعرض (symbébèkos). يجب أن يظهر عالم الإمكانات لله: وبهذه الطريقة "تترابط في ما بينها". ولكن إلى الله تؤول مصفوفة الإمكانات؛ ليست الذات الإلهية هي التي تجذب المحمول، بل المخنول هو الذي يطرأ أمام الذات الإلهية. الإمكان الأصلي للأشياء يحضر أمام الله فجأة من خلال الانضمام إليه تعالى من تلقاء ذاته.

هذه الواقعة تفترض أن الإمكان الأصلي للأشياء علة ذاته، وأن لا شيء يمكن أن يأتي منه يسبقه، وأنه بالتالي لا يختلف عن انبثاقه، وأن الضرورة تقف إلى جانبه تماما. كذلك من المشكوك فيه تنفيذه قانونا قد يوضع في استقلال عنه أو عن حدثه.

تعتقد ألكسندرا أن قانون الحقيقة ليس في عقل شيلينج سوى صياغة لحدث مماثل، حدث يجد نفسه التفرد الإلهي من خلاله في اتصال مع الكوني، أو الله مع العقل، أو الوجود مع الفكر، أو الواحد مع كل الإمكانات.

الحقيقة إذن هي هذا الحدث نفسه الذي يجب أن تكون الحرية موضوعا له، أي شيئًا يجب طلبه، خلقه. هذا هو الدين (بتسكين الياء دائما) الذي أراد شيلينج التأمل فيه، وحتى يترك الحرية الإلهية سليمة، وضعنا وجها لوجه مع هذه الأطروحة المربكة، لكنها لا يمكن أن تكون أكثر عمقًا: المتفرد يلتزم بدينه إلى الأبد بقدر ما يلتزم بالعقلانية، بقدر ما تسير الأخيرة أمامه، وتفرض نفسها عليه في ما بعد. عرض مثير للانتباه كون العقل نفسه، عالم الحقائق، عالم الإمكانات: عرض ضروري كما ينص قانون الحقيقة، العرض الذي ينبه الحرية الإلهية إلى قوتها الخاصة وإلى هذا القانون الآخر الذي هو قانون العدالة.

في المحطة الثالثة من هذه الجولة/المغامرة، اخترت أن أقدم للقارئ الكريم هذه المقالة التي نشرت على النت في شهر شتنبر 2009 غير موقعة باسم كاتبها.

في مقدمة هذه المقالة، نقرأ أن أفلاطون قال مرارا إن الفلسفة هي البحث عن الحقيقة. وأضأف أنها ذهاب المرء إلى الحقيقة بكل روحه، مدفوعا بقوة الحب. ولأن الحب يعني الرغبة، ولأن الرغبة تعني الافتقار، فيمكن قراءة تاريخ الفلسفة باعتباره تاريخ الفكر الحر الساعي إلى الحقيقة. لم يعد لدى العاشق الريان ما يرغب فيه. فهل يتوقف بعد ذلك عن الحب؟ هل الاعتراف بالحقيقة يعني التنازل عن حرية الفكر؟ إن تحول النفس الذي تتجه به نحو الحقيقة موصوف بشكل خاص في بداية الكتاب السابع من الجمهورية . تُظهر لنا استعارة الكهف أولاً سجناء مقيدين بالسلاسل منذ الطفولة بطريقة لم يتمكنوا من رؤية أو سماع أي شيء سوى الظلال والأصداء. القيود هنا هي صورة الحالة الإنسانية: فالنفس، عند عودتها إلى الوجود الأرضي، مقيدة بجسد يجب أن تخضع لأوامره واضطراباته بشكل سلبي إلى حد ما. بعد أن شربت مياه نهر ليثي (Lèthè) قبل وجودها الجديد، عادت إلى الأرض بعد أن نسيت ما كانت تعرفه. اسم هذا النهر "ليثي" يشير إلى الحجاب الذي يخفي النسيان. السجناء في الكهف هم إذن تلك النفوس الفاقدة للذاكرة التي ظلت مقبمة في عالم مظلم: العالم الحسي، عالم الأجساد، هو سجنهم، وبالتالي فهم في وضع يسمح لهم بالاعتقاد بأنه وحده هو الواقع الوحيد. عالم الأوهام والمعتقدات الخاطئة والآراء الباطلة، عالم تسود فيه الدوكسا ويُقتل فيه أي شخص يرغب في تحريرهم. ولنتخيل الآن أن أحد هؤلاء السجناء قد تم إبعاده عنوة، وإجباره بعد رفعه إلى الخارج على النظر إلى ضوء الشمس، "ألا تظن أنه سيعاني ويثور؟" "، أنه سيحتاج إلى النزول إلى الكهف قبل أن يوافق على تعويد بصره على سطوع الضوء، أي أن يتعلم التعرف على الحقيقة؟

1. إن التعرف على الحقيقة هو تحرير نفسك

يقول مينون في محاورة تحمل اسمه كعنوان إن الاعتراف بالحقيقة لا يعفي "من الألم ووقت البحث". لن تتذكر النفس إلا بشرط أن تعي جهلها، أو ترغب في المعرفة، أو تحب البحث، أو تطرح الأسئلة بشكل جيد، أو على الأقل تستمع إلى سقراط الذي يطرحها.

يعتبر منهجه (المايوتيك، أو إلينخوس أو الجدل السقراطي، أو فن توليد الأفكار) فعالا بشكل خاص في نوع من التجربة الفلسفية التي ينظمها مع عبد صغير. سخصية رمزية؟ يشترك العبد والسجين في أنهما ليسا حرين، أي أنهما في حالة حرمان. يمكننا أن نفترض أن هذه الحرية التي يفتقران إليها هي حرية الفكر. لكن السجين يظن أنه يعرف، ولهذا يجب استخدام القوة لانتزاعه من أوهامه، بينما يعترف العبد بجهله. عندما يطلب منه سقراط مضاعفة مساحة سطح المربع، يبدأ العبد بإعطاء حل “ساذج” ويقع في الخطإ. ثم ما يلبث أن يقع في حالة من السبات، وهي حالة شائعة بين أولئك الذين استجوبهم سقراط والتي ربما تكون متناظرة مع حالة النسيان التي تسببها مياه نهر ليثي. يجب الآن البحث داخل نفسه عما سيكشف عنه [بالمعنى الحرفي لكلمة "الحقيقة" باليونانية أليثيا (alethêa)]، وأن يكون لديه معرفة بها لا تتوافق مع أي معرفة مكتسبة.

قال سقراط لمينون: "تفحص في ما سيكتشفه أيضا، انطلاقا من هذا الذهول، وهو يتباحث معي، دون أن أفعل أي شيء آخر غير استجوابه، وعدم تعليمه". يجد العبد الحل… “ومع ذلك فهو لم يكن يعرفه قبل قليل… ففي من لا يعرف، دون أن يعرف عنها شيئا، هناك آراء صحيحة عن هذه الأشياء التي لا يعرفها». عبد مينون لم يجد في نفسه حلاً جاهزاً للمشكلة؛ اكتشف قدرته على التفكير في واقع واضح انطلاقا من الشكل المرسوم على الرمال. يوجد اعتراف بالحقيقة (التذكر) عندما تستعيد النفس قدرتها على التفكير وتحررها (تجعلها نشطة بالمعنى السبينوزي). اعتراف شخص بالحقيقة يعني تأكيد حريته في التفكبر. بإمكان كل النفوس القيام بذلك، لكنها لا ترغب كلها فيه. لأن التجربة السقراطية ليست تجربة حرية خلاقة، بل هي تجربة فكر يجد استقلاله المنطقي ( اللوغوس، الفكر الحاضر في اللغة، موجودان بالفعل قبل أن أتكلم: تولد المايوتيك كلمات الأفكار الموجودة قبلا).

حرية الفكر هذه قريبة تمامًا مما يسميه ديكارت الإرادة الحرة، حرية الحكم التي تقود العبد إلى العثور على الحقيقة لأنه قادر على ذلك شريطة أن يوضع على الطريق، التي ستقوده نحو اكتشافات أخرى بعد أن تذوق الٱن متعة هذا البحث. "ذلك لأن هناك دائما، في نشوة الفهم، متعة الشعور بكوننا مسؤولين تجاه الحقائق التي نكتشفها. أيا كان المعلم، تأتي لحظة يكون فيها الطالب وحيدا تماما عندما يواجه المشكلة الرياضية: إذا لم يحدد عقله لفهم العلاقات، وإذا لم ينتج التخمينات من تلقاء نفسه، ولم يقم بإضاءة حاسمة، تبقى الكلمات علامات ميتة، كل شيء محفوظ عن ظهر قلب". (جان بول سارتر، مواقف1). إن الحرية الفكرية تحتاج إلى استيعاب القواعد اللازمة للوصول إلى الصائب من الحلول، ولكنها حرية حية، قادرة بالتالي على الشعور بالمتعة اعتمادا على جهودها الذاتية.

إذا كان في فكرة الاعتراف بالحقيقة وجود المفرد، فذلك لأنه "لا يوجد سوى حقيقة واحدة في كل شيء، فمن وجدها يعرف قدر ما يمكن أن نعرفه، وعلى سبيل المثال يمكن لطفل تعلم الحساب، بعد قيامه بعملية جمع وفق قواعده، أن يجد نفسه مطمئنا لعثوره على كل ما يعرف العقل البشري أن يجده" ( خطاب في المنهج 1). إن الاعتراف بالحقيقة هو ممارسة الفرد لحرية الفكر، أي توجيه أفكاره بقوة على الطريق (المعنى الأساسي لـ "المنهج") نحو الحقيقة. وبما أن الحقيقة واحدة وأفكارنا في استطاعتنا، فإن حرية الفكر مضمونة بطريقة أو بأخرى بوجود الحقيقة نفسها. إذا كنت أعرف "بوضوح دائما ما هو صحيح وما هو خيت، فلن أواجه صعوبة أبدا في التفكير في الحكم والاختيار الذي يجب علي اتخاذه: وبالتالي سأكون حرًا تماما، دون أن أكون غير مبالٍ على الإطلاق" ( تأملات ميتافيزيقية IV ). إن الاعتراف بالحقيقة يعني تجربة وإثبات حرية التفكير للفرد.

2 . هل يمكن للحرية أن تتخلى عن نفسها؟

لكن السؤال المطروح أيضًا هو احتمال التخلي عن حرية التفكير. ما المعنى الذي يمكن أن يكون لهذه الفرضية؟ إذا أخذنا كلمة "التخلي" بالمعنى الدقيق للكلمة، اختيار قول لا، فسيصبح من الواضح بسرعة أن السؤال أكثر من مجرد مفارقة: سخيف. لأنه يفترض نوعا من الانتحار لحرية التفكير وهو ما قد يبدو غير محتمل. في سياق آخر، بالتأكيد، ولكن بنفس المعنى، يلاحظ روسو أن "التخلي عن الحرية يعني التخلي عن صفة الإنسان". إن تلك الحرية، باعتبارها القدرة على الاختيار والقرار بوعي، بوضوح وبطواعية، يمكن أن تختار اختفاءها بنفسها، تبدو بالتالي غير محتملة، بل ولا يمكن تصورها.

ومع ذلك، يوضح إتيان دو لا بويتي أنه في المجال السياسي، ولكن أيضا على نطاق أوسع، خلال وجودنا، يمكن أن تكون العبودية طوعية: "الحرية لوحدها، شيء لا يرغب فيه الناس" و"الناس المستعبدون يفقدون، فصلا عن الشجاعة الحربية، حيويتهم في كل الأشياء الأخرى، وتكون قلوبهم ضعيفة ورخوة، غير قادرة على كل الأشياء العظيمة". كانط في كتيبه بعنوان "ماذا يعني التوجه في التفكير؟" يستحضر أيضا ما يمكن أن يجعلنا نتخلى عن حريتنا في التفكير: الكسل، الإهمال، الجبن، وحتى التواطؤ في مواجهة السلطة. إن الدوغمائيات تتغذى على موافقة جمهورها؛ فهي لا تحتاج دائما إلى اللجوء إلى العنف لفرض نفسها، بل تحتاج فقط إلى أن تعجب الٱخرين. تجد الرقابة حججا في ضرورة ضمان النظام والأمن، تضمن لها الدعم بين الأشخاص الذين تؤثر عليهم. لكن هذا ليس كل شيء. "إن حرية الفكر يعارضها في المقام الأول الإكراه المدني. صحيح أنه يقال إن حرية الكلام أو الكتابة يمكن أن تسلبها منا قوة عليا، ولكن ليس حرية التفكير". وهنا أيضا الوهم الذي من خلاله يدعم ضحاياها (الدوغمائيات) الرقابة: من خلال الاعتقاد بأن حرية الفكر تظل بعيدة المنال بشكل نهائي، فإنهم يقبلون عن طيب خاطر حرمانهم من كل حرية الاتصال. لا أحد يستطيع أن يمنعني من التفكير في ما أريد! في بالفعل: لا يمكن لأحد أن يحرمني من أفكاري – إلا بقتلي، وهو أمر غير مستبعد. "لكن،" يتابع كانط، "هل كنا سنفكر كثيرا ونفكر جيدا إذا لم نفكر، إذا جاز التعبير، بشكل مشترك مع الآخرين، الذين يشاركوننا أفكارهم والذين ننقل إليهم أفكارنا؟" الفكر هو ملكة، لكن التفكير هو استخدامنا لهذه الملكة. ومع ذلك، في هذا الاستخدام تقع حرية التفكير، وهذا الاستخدام، لكي يكون حقيقيا ومثمرا، يحتاج إلى معلومات، إلى تبادلات، إلى مناقشات وحتى إلى مواجهات. لكي "نفكر كثيرا"، نحتاج إلى التفكير بشكل مشترك مع الآخرين. والشرط نفسه ضروري لنكون قادرين على "التفكير جيدا"، أي التفكير بشكل صحيح.

إن الوصول إلى الحقيقة لا يعني التخلي عن حرية التفكير: بل على العكس من ذلك، الوصول إلى الحقيقة ممكن فقط للفكر الحر في نشاطه. وهو ما يفترض حرية حقيقية في التواصل لأن أحد المعايير التي تسمح لنا بالاعتراف بالحقيقة في نهاية النقاش هو اتفاق العقول على نتيجة: بما أن العقل البشري كوني ومنسجم مع ذاته لدى الجميع، فإن الإجماع يكون (يجب أن يكون؟) ممكنًا. من الضروري كذلك أن يحرص الجميع على عدم إخضاع عقولهم "لأي قانون آخر غير ذلك الذي يعطي نفسه لنفسه" وإلا، يضيف كانط، "تضيع حرية الفكر بسبب عدم الانتباه بالمعنى الحرفي لهذه العبارة". وبالتالي فإن التخلي عن حرية التفكير ليس أمرا مستبعدا كما بدا لنا سابقا، لكنه على ما يبدو ليس فعلا إراديا بقدر ما هو نوع من لامبالاة مقترنة بضعف الشخصية(لا بويتي) ممزوجة بازدراء الذات، أو حتى بجبن كسول ( كانط). فالسبب في ذلك إذن ليس معرفة الحقيقة، بل على العكس من ذلك، اللامبالاة التامة تجاهها، المصحوبة ربما بكراهية العقل؟

3. محبة الحقيقة، عم يكون التخلي؟

هل يمكن بالأحرى أن تكون كراهية الحياة هي السبب وراء هذا التخلي؟ حتى الآن، اعتبرنا الحقيقة والمعرفة المرتبطة بها ضمنيًا قيمتين إيجابيتين و"حيويتين" بشكل بارز، مشتركتين بين جميع الفلاسفة، إن لم يكن بين سائر البشر. لكن صوتا ارتفع: “ما الذي فينا يريد الحقيقة؟ […] تساءلنا عن قيمة هذه الإرادة. مع الاعتراف بأننا نريد الحقيقة، لماذا لا نرغب بالأحرى في اللاحقيقة؟ أو اللايقين؟ […] يبدو لنا أن المشكلة لم تُطرح قط حتى الآن، وأننا أول من عاينها، فكر فيها، تجرأ عليها […]”، هكذا ينفتح "ما وراء الخير والشر" حيث يريد نيتشه وضع حد لفلسفة القيم القديمة، تحطيم أفكار ومثل ما بعد سقراط بالمطرقة. يجب علينا عكس "النظرة" التقديرية التي كانت لدينا عنهم، وإجراء تحويل للقيم (الفضيلة، الخير، الجميل، العدل، الحقيقة، إلخ)، لأن واجبنا تجاه أنفسنا هو "التغيير المستمر بالنور والنار لكل ما نحن عليه" ( العلم المرح).

لكن لماذا الحقيقة خطيرة على الحياة؟ وبأي حياة يتعلق الأمر؟ بالحياة العنيفة لكل ما يؤكد نفسه، حياة اللعب والرقص الديونيسي، هذه الحياة التي يجب أن نحبها مع مخاطر فقدانها بينما نكتسب متعة إضافية، أي الحياة: "سر أعظم متعة في الوجود يكمن في العيش بشكل خطير”. يجب أن نحب الحياة، نؤمن بأن الحياة فوق كل اعتراض، فوق كل شك، بأنها تقول نعم بكل براءة. في حين أن الحقيقة السقراطية "عدمية"، أن الروح الحارسة (daïmôn) لسقراط لا يمكنها إلا أن تقول لا، أن المثل الأفلاطوني للمعرفة الكاملة بالحقيقة تفترض مسبقا هذا "التحرر" للروح الذي يشكل موت الجسد، ومن ثم تصبح الفلسفة بأكملها نفيا لهذا العالم حيث نحن نؤيد المبالغة في تقدير العوالم الميتافيزيقية. "هل ترغب في ذلك مرة أخرى ومرات لا تحصى؟ هل ترغب في الحياة، هذه الحياة، كما تعيشها الآن، إذا كان عليك أن تعيشها مرة أخرى ولمرات لا تعد ولا تحصى؟" تتيح لنا مطرقة العود الأبدي اختبار دقة رغباتنا بجعلها ترن كقطعة معدنية. لم تعد الحقيقة في عالم الأفكار، بل في الوجود حيث هي "خفيفة ووثابة"، محتفى بها في معرفة جديدة في خدمة الحياة ومتحررة من أي "روح كهنوتية" وكذلك من أي "مثل نسكي". العلم المرح" معرفة إبداعية ومدمرة للأصنام القديمة، حتمية وبدون ضرورة، مرحة ومأساوية، معرفة جمالية، مسكونة بالكامل بهذه الحقيقة الوحيدة: الحياة ليس لها معنى. عرفت التراجيديا اليونانية كيف تعطي هذه الحقيقة شكلاً شعرياً قادراً على جعلها محتملة لنا. ما الفن الذي سيظل قادرا على القيام بذلك؟

خاتمة

أكد بول فاليري على أن هناك في "المعرفة" "ولادة"، وأن هناك في كل معرفة ولادة جديدة، من الذات إلى الذات كما من الذات إلى الحقيقة. ويقال أيضا عن الولادة إنها خلاص. استعارة المايوتيك تؤيد هذا التفسير. ومهما كان المحتوى الذي نعطيه لهذه فكرة الحقيقة، سواء كانت ما قبل سقراطية (التراجيديا اليونانية)، أو سقراطية أو معادية لسقراط (نيتشه)، فإن معرفة الحقيقة هي إما تحرير للفكر، أو مظهر لحرية الفكر كقوة للعقل، أو تعبير عن التأكيد الحر للحياة كقوة بلإرادة. ليس من عواقب الاعتراف بالحقيقة التنازل عن حرية التفكير.

(يتبع)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المرجع: https://www.assistancescolaire.com/eleve/ TSTMG/philosophie/travailler-sur- des-sujets-du-bac/reconnaitre-la- verite-est-ce-renoncer-a -sa-liberte-de-penser-sept- 2009-tt_phi_rde70# pageanswer

المرجع:  https://www.cairn.info/revue-philosophique -2014-2-page-175.htm

تمهيد

ماكسيم رودنسون (1915-2004)، مؤرخ وعالم اجتماع ماركسي، متخصص في الإسلام والحضارات العربية. كان والداه شيوعيين يهوديين روسيين بولنديين فرا من المذابح في روسيا ليستقرا في باريس، وتوفي والده في أوشفيتز حيث تم ترحيله عام 1943. درس رودنسون اللغات الشرقية وأصبح أستاذا للغة الإثيوبية الكلاسيكية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا عام 1955، وكان قد دافع في عام 1950 عن أطروحته في التاريخ وأصبح دكتورا. وأصبح من أعظم المستشرقين المعاصرين، إذ كرّس حياته لدراسة الإسلام والحضارات العربية. لكنه اشتهر كمؤرخ الأديان، كان يتحدث العربية والعبرية والتركية. اشتغل عضوا في الحزب الشيوعي الفرنسي من عام 1937 إلى عام 1958. لكنه ترك الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1958 لأنه رفض مضامين العضوية الحزبية التي اعتبرها شكلا من أشكال الالتزام الديني. اشتهر بكتابه سيرة محمد (1961م)، وهو دراسة مادية لظروف ظهور الإسلام، بالإضافة إلى سلسلة من الكتب التي ألفها طوال حياته حول العلاقات بين المذاهب الناتجة عن فكر محمد والاقتصاد الاجتماعي وأحوال المجتمعات الإسلامية. وبقي ماركسيا ولكنه ذاع صيته بين الخمسينيات والتسعينيات، كأحد أشهر المستعربين في فرنسا. يتمتع بثقافة موسوعية رائعة، حيث ألف آلاف التقارير، وكان أيضًا شخصية مؤثرة في اليسار الفكري، حيث طلبت منه وسائل الإعلام بانتظام التعليق على الأحداث الجارية في البلدان الإسلامية. يُعرف رودنسون أيضًا بمواقفه بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث عمل منذ عام 1967 في المفاوضات بين اليهود والفلسطينيين، منتقدًا السياسة الإسرائيلية المتمثلة في الاستعمار وإذلال الفلسطينيين. لكنه رفض بشكل تام اعتماد الفلسطينيين والعرب الكفاح المسلح من أجل التحرير من الاستيطان الصهيوني على غرار ما فعلته جبهة التحرير الجزائرية مع الاستعمار الفرنسي.  لكنه خلص الى النتيجة التالية:" "الصهيونية هي حالة خاصة جدًا من القومية. إذا تم نزع سلاح النقد من النوع القومي البحت أمامه، فمن ناحية أخرى، يكون النقد الكوني أكثر رسوخًا من الناحية الفكرية." فكيف ساهم هذا المستشرق في نقد العقل اليهودي وقدم الورقات اليسارية الأولى في تفكيك المشروع الصهيوني؟

الترجمة

"ظهرت كلمة "الصهيونية" في نهاية القرن التاسع عشر للإشارة إلى مجموعة من الحركات المختلفة التي كان عنصرها المشترك هو مشروع إعطاء جميع يهود العالم مركزًا روحيًا أو إقليميًا أو دولة، يقع بشكل عام في فلسطين. لقد ضمن نجاح الصهيونية السياسية والموجهة نحو الدولة الأولوية وحتى التفرد بهذا المعنى للكلمة. وبمجرد تحقيق هدفها، وجدت الحركة الأيديولوجية من النوع السياسي نفسها في مواجهة مشاكل جديدة تتطلب تعريفا جديدا. وكثيرًا ما استخدم الأيديولوجيون المناهضون للصهيونية مصطلح "الصهيونية" بطريقة متساهلة. يرى البعض أن الصهيونية تنبع من رسالة قومية دائمة لليهود، وبالتالي فهي مشروعة ومفيدة. وبالنسبة للآخرين، فهو يمثل خيانة أساسية للقيم العالمية، سواء تلك الخاصة بالدين اليهودي، أو الإنسانية الليبرالية، أو الأممية البروليتارية. وبالنسبة للآخرين، وأحيانًا لنفس الأشخاص، فإن هذا قبل كل شيء هو انبثاق شرير إما للجوهر الضار لليهود أو للرأسمالية الإمبريالية. وسوف ندرس هنا بشكل أساسي الأيديولوجيات التي تهدف إلى إعادة تجميع اليهود، أولاً في الإطار العام للاتجاهات نحو إعادة التجميع أو إنشاء مركز دولة للأقليات المشتتة و"المدنيّة"، ثم فيما يتعلق بالمفاهيم اليهودية المختلفة التي، على مر العصور، التاريخ، يفضل فلسطين كموقع لمثل هذا المركز. سيتم تفسير تحديث الأول فيما يتعلق باليهود كنتيجة للإمكانيات التي فتحت أمام مشروع واقعي من هذا النوع بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية في نهاية القرن التاسع عشر، وهو مشروع ساعده أيضًا واقع الوضع اليهودي في أوروبا. وسنتناول بإيجاز نتائج تحقيق هذا المشروع في فلسطين العربية، أولاً بالنسبة للعرب، وخاصة الفلسطينيين، ثم بالنسبة للكيان اليهودي والتوجه الصهيوني نفسه. عندها فقط يمكننا تحديد عناصر التقدير والنقد الأخلاقي.

يذهب هوسرل صاحب المنهج الظاهراتي (الفينامينالوجيا) وفي سبق لشيلر له إلى أن استخدام المنهج الحدسي الانفعالي الوجداني النفسي الذي يعنى بمعرفة (الماهيات) المقصود بالماهيات هنا ليس جواهر الاشياء وانما الماهيات هنا هي (القيم) الوجدانية النفسية التي يجسدها السلوك القصدي بالحياة. وتشمل ابعادا فلسفية تتجاوز مبحث الاخلاق والعاطفة.

الماهيات بمعنى القيم الانسانية التي مصدرها العاطفة والنفس وليس بمعنى جواهر الاشياء التي لا يدركها العقل المباشر كموضوعات له كذلك هي الماهيات التي هي جواهر الاشياء ايضا لا تكون موضوعات ادراكية يعيها العقل. ومن المهم جدا هنا الانتباه الى التفريق بين الماهية التي هي سلوك وجداني انفعالي نفسي من جهة وهذا ما يعنى بدراسته هوسرل وبين الماهية الجوهر في الاشياء المحتجب خلف الصفات الخارجية لذلك الشيء الذي تقود محاولات العقل فهمه وادراكه الى منهج الميتافيزيقا في تغليب تفكير العواطف والوجدانات القلبية الروحانية على تفكير العقل المنضبط بالصرامة المادية..

الامر المهم الذي يجب الاشارة له ان الماهية سواء اكانت جوهرا في الاشياء يحتجب خلف الصفات الخارجية لها او الماهية التي هي القيم السلوكية الانفعالية التي يمارسها الفرد بالحياة فكلاهما بالعرف والمنهج الفلسفي لا يشكلان موضوعين مستقلين لادراك العقل المعرفي لهما. ولكي يكون الموضوع مدركا عقليا يتوجب توفرالاستقلالية فيه وليس شرطا الاستقلالية المحددة بابعاد المادة . فالخيال يصنع موضوعات ادراكية للعقل ليست متعينة بابعاد مادية يدركها الحس. وفي كلتا الحالتين فان ادراك العقل لموضوعاته انما هي تجريد لغوي. وفي هذا المعنى تصبح مقولة الفيلسوف الامريكي سيلارز الوجود لغة صائبة تماما.

وبناءا عليه اذا كانت الماهية جوهرا في الاشياء او كانت الماهية قيمة وجدانية فكلتاهما ليستا موضوعين لادراك العقل. اذن مالفرق بينهما منهجيا؟ الفرق المنهجي بينهما هو ليس في اختلاف منهج الاستدلال المعرفي لهما وانما الاختلاف يكمن في عجز الادراك العقلي في فهمهما فهما مباشرا واقعيا أوالوعي المتخارج عقليا معهما.

محاولة معرفة ماهيات الاشياء كجواهر تحتجب خلف الصفات الخارجية لها تقود حتما المنهج الفلسفي الذي يتبعه الفيلسوف الى السقوط في براثن الميتافيزيقا التي يعتبرها كانط وفلاسفة الماركسية والوجودية مسعى عبثي لا جدوى منه.  

في اختلاف منهجي ومعرفي حين تكون الماهيات هي القيم الوجدانية الانفعالية والنفسية السلوكية في الفلسفة الظاهراتية لدى هوسرل واشياعه فان المنهج المعرفي يكون هو (الحدس). ماهية الشيء كجوهر كما مر بنا هي الخاصية المتفردة لذلك الشيء التي تحجبها الصفات الخارجية. وهناك من الفلاسفة مثل بيركلي وهيوم يرون ان الشيء بذاته كينونة موحدة لا انفصال فيها بين جوهردفين وصفات بائنة وانما ادراكها يكون في ادراك الكلية الموجودية لها كينونة مستقلة استقلالية تامة عن رغائب الانسان. ويستشهدون على ذلك باننا ندرك الصفات الخارجية للحيوان انها هي ادراكنا ماهيته الحقيقية ولا يوجد فرق بين جوهرالحيوان وصفاته الخارجية خارج ادراكنا الكينونة الموجودية للحيوان كائنا حيّا في الطبيعة.

  • يأخذ الماركسيون على الفلسفة الظاهراتية المثالب التالية:

انها فلسفة لا زمانية خارجة عن التاريخ فهي لا تستطيع فهم العلاقات الانسانية على حقيقتها. بوصفها علاقات ديالكتيكية تنجم عن عصور مختلفة من حيث التقنية والانتاج والعمل.(عن زكريا ابراهيم).

في تعقيب مقتضب جدا نجد ان تاريخ الفلسفة عموما من حيث هو محكوم بتحقيب تاريخي- زماني فهو بالحتم يكون لا زمانيا صرفا كونه تجريد لغوي لا مادي تحكمه تراكم الخبرة التاريخية العابرة لزمانيته. كما ان الديالكتيك بالمفهوم الماركسي ليس هو المسار او المنهج الوحيد الذي يحكم التطور التاريخي المادي وغير المادي. والعلاقات الانسانية عبر العصور لا يوجد اكثر من تنظير ديالكتيكي واحد يطوّعها كوقائع في محاولته تلبيس تلك العلاقات المنهج الجدلي الديالكتيكي. التاريخ في مساره الاعتباطي العشوائي لا ينتظمه منهج تطوري واحد مرسوم سلفا يحتوي وقائع تاريخه. لا ديالكتيكيا جدليا ولا ليبراليا راسماليا. في عبارة سابقة لي قلت ان عشوائية التاريخ التي تلعب بها الصدف غير المتوقعة غير المسيطر عليها انما تجعل من التاريخ مسار تصحيح اخطاء البشر.

  • كما تتهم الماركسية وهي محقة كونها محكومة بالفلسفة المادية التاريخية ان ظاهرية هوسرل (الفينامينالوجيا) عاجزة عن كل عنصر اجتماعي وكل عنصر تاريخي الى حد وصل باحد الماركسيين قوله ان الوعي لدى هوسرل ليس وعيا منخرطا في الواقع ولا وعيا متضمنا في التاريخ. وهوسرل حسب ادانة الماركسية له يمجد بافراط شديد مرجعية (الانا). ( عن زكريا ابراهيم).

ايضا في تعقيب مقتضب نجد هوسرل يناقض نفسه ظاهراتيا بالقول ان الواقع حصيلة وعي جمعي قصدي وهو تعبير صائب لا يتناقض مع الادبيات الماركسية. الانا لا تجد ذاتيتها حسب تعبير هيدجر تلميذ هوسرل الا في وجودها – في – عالم. وهي قصدية هادفة تنسجم مع مجتمعية الماركسية و تعارض فينامينالوجيا هوسرل الانفرادية المنعزلة مجتمعيا حول تمجيده الانا في تجريد يستنسخ رؤى ديكارت من حيث الانا جوهر انساني منفرد بمكنته تحقيق وجوده الانطولوجي بالفكر.

- الانسان كائن ميتافيزيقي

استذكر قبل دخولي في تفاصيل عنونة هذه الفقرة تثبيت مقولة هيدجر الفلسفية الساذجة (الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا) إذ من البديهيات عدم وجود لغة بعدية بغياب عقل قبلي سابق عليها.

أجد الانسان كائنا ميتافيزيقيا بالفطرة الضرورية لانسنة الانسان وجوده الذاتي المتفرد عن باقي كائنات الطبيعة. ميتافيزيقا الانسان ليس محركها البحث عن معرفة وادراك (الاله) او الخالق او حاجة الوجود الانساني الى ميتافيزيقا التديّن وكلاهما هدفان لا تنكرهما الميتافيزيقا الخوض فيهما فلسفيا.. بل كل تفكير انساني عبر العصور في مختلف القضايا التي تعترضه ويعيشها أما أن يختار التكيّف المغلوب على أمره معها أو الاحتدام التصارعي في فرض ارادته الذاتية عليها..

أنسنة الانسان بميتافيزيقا الروحانيات والتصوفيات الدينية أي في محاولته التسامي فوق الوجود المادي في تعطيل احساسات البدن وفي تعطيل فاعلية العقل المحدودة بالمدركات التي تشكل لديه موضوعات موجوديته الارضية كفرد ضمن مجتمع. بعض جوانب المباحث الميتافيزيقية الخاصة بالاديان واللاهوت تكون خاصيتها تغليب النزعة الدينية ولا ارى ضررا بذلك. سواء اكان الانسان هو مخترع دينه والهه بعلاقته بالطبيعة حسب فلسفة فيورباخ  في محاولة الانسان معرفة وجوده الارضي بدلالة ميتافيزيقا السماء.

او سواء أن يكون الانسان معطى ديني روحاني تكون فيه ميتافيزيقا التفكير اللاهوتي عموده الفقري. اي كما في تعبير الوجودية الانسان وجود طاريء وأجد بناءا عليه يكون التدين في حياته ملازما طارئا ايضا محكوما به الانسان.

ميتافيزيقا التفكير عند الانسان سواء اكان خرافيا اسطوريا وثنيا او تدينا روحانيا عاصر الانسان طويلا فهي أي ميتافيزيقا التفكير الديني عموما بالنتيجة كان ضرورة حياتية قديما جدا وضرورة نفسية يحتاجها الانسان حاضرا.أنا هنا اتجاوز نظرية علماء الفيزياء والفلك ان لا مستقبل للفلسفة امام تقدم فتوحات العلم.

 حين تقودنا الميتافيزيقا الوصول الى الايمان الديني التوحيدي المعاصر فهي عندها  لم تعد ميتافيزيقا إعدام علمية تفكير العقل من جهة ولا إعدام أهمية حياة الانسان الارضية من أجل أهداف غيبية يتأمل حصوله عليها في عالم ما بعد الفناء الارضي.

- الوعي اللازماني

تعودنا أن نفهم الشعور أو الوعي أن يكون زمانيا بالضرورة الادراكية في وحدة الزمكان غير القابل للتجزئة ولا الانفصال على نفسه. بمعنى أن تدرك المكان من غير ملازمة الزمن الافتراضية فرضية خاطئة تقوم على تعجيز العقل ان يدرك المكان مجردا عن زمانيته.. هذا الفهم الفلسفي الدارج تاريخيا بغض النظرعن مدى صحة البرهنة عليه.

سبق لبرجسون التنويه الى مثل هذه الفرضية التي تذهب الى أن الادراك هو ادراك ثنائية اندماج الزمان والمكان في وحدة كلية غير قابلة للتجزئة هي الزمكان. وقال برجسون بسخرية أن إدراك المكان لا يحتاج الزمن. ومن المهم التنويه الى ان فرويد سبق له ان قال اللاشعور اي اللاوعي لا يحتاج الزمن. وقد عالجت توضيح هذه المقولة في مقالة سابقة لي. ولم يقل فرويد بما ذهب له برجسون لاحقا ان الشعور او الوعي الادراكي اليقظ غير الحلمي لا يحتاج الزمن. كونه فيلسوفا وليس عالم نفس.

لما كان من البديهيات التي تؤكد لنا الزمن على الارض وفي الكوني ليس موضوعا مستقلا للعقل ولا نمتلك وسائل معرفتنا لصفاته الخارجية ولا امكانية معرفته ماهويا أي جوهرا لذا يكون من المباح أن ننكر الزمن كجوهر يحتوينا ويحتوي عالمنا الخارجي بموجوداته دونما وعينا الادراكي به. بعبارة صادمة الزمن وجود افتراضي غير موجود. حتى حين نقول هو دلالة ادراكية لمعرفتنا الاشياء وموجودات عالمنا الخارجي يصبح أمرا مشكوكا به.

- هوسرل ولا زمانية الشعور

بعد إختراع مصطلح الوعي القصدي الذي اصبح شماعة من يريد الطعن بديكارت  اصبح الوعي الفلسفي كما سبق وذكرته بمقالة سابقة لي ثلاثة انواع من التراتيبية التصنيفية الزائفة هي الوعي بمفهومه الفلسفي العام الذي اعتقد به لا يوجد غيره من انواع الوعي مثل الثاني الرائج فلسفيا هو الوعي القصدي ثم ثالثا الوعي الخالص. حينما اقول لا يوجد غير مصطلح الوعي فبه ينتفي ان يكون ملزما له القصدية ولا ان يكون تعاليا صوفيا يسمى الوعي الخالص. الوعي لا وجود له من غير موضوع.

عمد هوسرل الى لعبة ربط القصدية بالشعور واعتبر هذا الربط كافيا لان نقول الشعور وليس اللاشعور هو لازماني. ماذا فعل بهذا اللامنطق الفلسفي هوسرل؟

  • قام بتعطيل الادراك العقلي للاشياء كون العقل يحكمه الشعور الادراكي وليس اللاشعور.
  • جعل كلا من الشعور واللاشعور لا زمنيان وهي قضية فلسفية خلافية.
  • اذا كان وسبق لفرويد ان ادعى ان الفعاليات التي يقوم بها الشعور هي نسبة واحد بالعشرة بالنسبة لفعالية اللاشعور الذي اعطاه نسبة تسعة بالعشرة في تمشية حياتنا الانسانية سلوكا طبيعيا. لو صح انتساب هذا الافتراض التعسفي لفرويد مقبولا لترتب على ذلك اخطر قضيتين بالحياة هما :
  • ان الواقع الذي نعيشه ويتحكم به اللاشعور بنسبة تسعة من عشرة هو واقع خيالي زائف والواقع او الوجود الحقيقي هو غير وجودنا الارضي هذا. علما ان افلاطون قال بذلك ونيتشة ردده بتاكيد لا رجعة لنا عنه أو التشكيك به. الطريف اعتقد جازما انه لم يعد يؤخذ اليوم بصواب هذه الافتراضية الخاطئة.
  • ان ادراكنا الاشياء في حال مساواتنا بين الشعور واللاشعور بخاصية انهما كلاهما لازمنيان عندها يكون معنا ادراك العقل للمكان لا يحتاج ملازمة زمنية. فرضية صحيحة منطقيا رغم ان تاريخ الفلسفة يذهب عكس ذلك اي تخطأتها. أنه لا إدراك للمكان من غير ملازمة زمانيته له.

- الوعي القصدي

القصدية لدى هوسرل هي خاصية ان يكون كل شعور شعورا بشيء حسب تعريف هوسرل. ونرى ان الشعور لا يتحقق حدوثا ما لم يكن ملازما موضوعه. الشعور هو ادراك الذات لوجودها بمحايثة ادراكها لمواضيعها في عالمنا الخارجي.

 بهذا يكون تحصيل حاصل تحقق الشعور قصديا هو في تحقق ادراكه لموضوع. تحقق الشعور هو في وعيه لموضوع. لذا تنتفي صفة تحقق الشعور بغياب او عدم ادراك قصدي في التفكير بشيء له معنى وهدف.

وحين نقول ان لازمانية الشعور تكون في حال الزامنا ان يكون قصديا. وبالمعنى الذي مررنا به نعيد التذكير بان قصدية الشعور نحو السعي لتحقيق هدف مسبق هو تحصيل حاصل لكل شعور انفرادي منتج في مجتمع.

ويكون الشعور لازمنيا وهذا محال في تحقق الادراك الحقيقي حينما يكون هدفه القصدي ادراك المكان بمعزل عن الزمان . بتعبير آخر تفكيك ادراك وحدة ثنائية الزمكان هو المحال في تحقق الادراك الفلسفي.

قد يبدو غريبا حين نعتبر استحالة ادراك المكان من غير ملازمة زمانية له ما يترتب عليه ان لا يكون الشعور القصدي لازمانيا. الادراك الحقيقي الذي اعتمدته الفلسفة عبر عصور طويلة ولحد يومنا هذا انه يتعذر ادراك المكان موضوعا مستقلا عن زمانيته. علما ان الغرابة اننا نعجز اثبات هذه المقولة من حيث اننا نعجز ادراك الزمان موضوعا مستقلا كما هو حال ادراكنا المكان.

مصطلح الزمكان هو التوليفة التي لا انفكاك يطالها هي لا زمن ادراكي لمكان بغير توليفة تعشيق الزمكان. ليس هناك من حاجة تدعونا الزام الشعور – هنا نستعمل مصطلح الشعور المرتبط بعلم النفس علما ان المرادف للشعور هو الوعي المرتبط بالعقل وليس بالنفس -  ان يكون زمانيا وهو في طبيعته العلائقية بالمكان هو خاصيته الزمانية.

 الزمان ملازمة غير متموضعة تكوينيا بالمكان. بمعنى في حال اقرارنا بثنائية الزمكان يكون الزمان دلالة ادراك محايد في استدلالنا معرفة الاشياء والموجودات. حينما نتداول تعابير ومصطلحات لمعنى واحد مثل الوعي، الشعور، الادراك فهي تعابير عن طبيعة وخاصية امتلاك القصدية.

كيف وهل يتسنى لنا اثبات عدم قابلية الشعور ادراك المكان من غير ملازمة زمانية؟ في المتداول فلسفيا الجواب لا . لكن العبرة تكمن في البرهنة على صحة ما ندعيه. سبقت الاشارة الى سخرية برجسون من عدم تحقق ادراكية المكان بمعزل عن الزمان مؤكدا انه لا وجود لزمن يلازم مدركاتنا المكان. وايضا ما يؤخذ على هذا الطرح استحالة البرهنة على صحة هذا الادعاء.

الشيء فكرة

من اروع عبارات الفيلسوف الاميركي سيلارز مقولته ( الوجود لغة).

المعلومة الفلسفية التي تذهب الى أن الشيء فكرة تؤكد أهمية العقل في تخليقه لمدركاته الحسية، والعقل لا يكون محايدا في إدراكاته الاشياء والمواضيع، بل هو يقوم بتخليق وجودها، محاولا إنتشالها من وجودها الطبيعي الانطولوجي ألمنسي، الى وجود مغاير جديد حيوي يدركه العقل ليس لمجرد إدراكه وليس في كيفية إدراكه،بل في قصدية العقل من فاعلية هذا الإدراك. اي لماذا يدرك العقل هذا الشيء دون غيره. ومقولة ديكارت "العقل قسمة مشتركة عادلة بين البشر" لا يعني هذا أن العقل واحد مشترك عند كل البشر في تجلياته ومعطياته وتفكيره وإبداعاته، بل المقصود أن عقل الانسان إمتياز نوعي يختلف عن باقي موجودات الطبيعة من جهة، ونوعي أكثر خصوصية أنه مختلف أشد الإختلاف بين شخص وآخر داخل النوع البشري الواحد.

لم يكن ديكارت هو الفيلسوف الوحيد في إختراعه منهج الشك وضرورة إعمال العقل في معرفة الوجود كاملا، وإستثنى العقل من الايمان الديني، ومثله فعل شوبنهاور، هيوم، لوك، وليم جيمس، وجون ديوي، هؤلاء جميعهم ذهبوا الى وجوب فصل الايمان الديني عن مجمل معاملة مواضيع الفلسفة وقضايا الوجود بالمنهج العقلاني، وأن تصدي العقل لمسائل الميتافيزيقا هو ضرب من العبث واللاجدوى أن يقود الى نتيجة. وإنما يكون الايمان التسليم المطلق الذي يكون مصدره القلب. وهذه النظرية الفلسفية تعتمدها الاديان وتشرحها بتفصيل النزعات الصوفية من أن حدود العقل تتوقف نهائيا في قفزة المتصوف من موقع الوجود الانساني الى موقع الوجود المتسامي الروحي في محاولة الاتحاد النوراني بالخالق.

يذهب جون سيرل الى أن المضمون القصدي الذي هو الموضوع في المعنى البنيوي ليس هو ذاته الموضوع في المعنى القصدي. وهكذا يفرق سيرل بين أن التجربة الادراكية إنما تقوم على موضوع يتخذ صفته ومعناه الوجودي- البنيوي في ممارسة تجربة الادراك عليه، فالموضوع وجود مستقل لا علاقة تربطه وجوديا بإدراكه هو للانسان.الفلسفة  هي تفكير عقلي باللغة لمعرفة حقيقة الانسان بالوجود.

مفهوم هيرقليطس كل شيء في حالة من الصيرورة الدائمية إنما هو ضمنا ألغى أن يكون لأي موجود كيانا انطولوجيا ثابتا. الوجود بمحتوياته الموجودية هي حالات من تغيرات دائمية، والموجودات قد تتبعثر وتتغير وبعضها يتلاشى في مكون مادي يحتويه، لذا نجد بارمنيدس الذي يرى كل موجودات العالم ثباتا يلازمها، ويقر بارمنيدس أن للوجود وجود قائم بذاته يمكن إدراكه بغض النظر عن حركة موجوداته فيه التي هي ثبات.

الخطأ عند الانسان طبيعة فطرية في تكوينه، وليس الخطأ الحرية بإتخاذ القرار، عليه يكون حصولنا على ذات إنسانية يملؤها الخير، تكون في توقعاتنا أن الانسان خّطاء.من العسير علينا تصور الانسان موجودا غير محدود القدرات والارادة، وهذا لا يعني الانسان ليس مسؤولا عن أخطائه، والاخطاء ليست عفوية تتلبس الانسان من المحيط الخارجي.

تأويل النص في متابعة فائض المعنى يدخل النص في فوضى الهوامش التي بلا معنى. الأصل في النص معنى متعدد القراءات لكننا يجب الحفاظ على ما يدّخره من معنى أصيل لا تكتشفه القراءات العددية الكميّة بل تكتشفه القراءات النقدية النوعية.

فوضى أفكار نيتشة الفلسفية التي لا ينتظمها المنهج هي إنتقالات متقافزة في فوضى تغييب المعنى غير الماثل لا في النص ولا في خارجه، لذا يبقى الاجتهاد بقراءة نيتشة هي قراءات يحتويها المزاج المتشظي خارج صرامة منطق العقل الفلسفي المنّظم.ربما لا نخطيء التعبير حين نقول ليس من واجب الفلسفة قول كل شيء في تناسيها أن تقول شيئا واحدا يغني عن قول كل شيء.اختم بالقول ان التفكير المادي يخلق التجريد (التخليقي) في الاشياء اي تغييرها في حين لا يستطيع التجريد اللغوي (خلق) المواضيع او الموجودات المادية المستقلة ادراكيا.

 - الخيال ومنطق العقل

كيف يخدع الخيال منطق العقل؟ عديدة هي المباحث الفلسفية التي تخدع العقل مثل تضليل اللغة والفكر وتضليل العاطفة والنفس وكذلك تفعل الحواس. اما ان يخدع الخيال العقل فلا اجده واردا مقبولا كون الخيال مفتوح على كافة الاحتمالات والتاويلات والنهائيات المفتوحة. السبب ان الخيال لا يحتويه منطق العقل بمحددات ادراكية ثابتة في حين نجد الخيال اوسع في فضائه الذي يحتوي العقل ويخرج على محدداته المنطقية.

علي محمد اليوسف

مقدمة

هذا العمل الأكاديمي المسمى أسطورة الدولة المكتوب بأسلوب واضح يسهل قراءته، كُتب في سياق الحرب العالمية الثانية، التي غادر خلالها إرنست كاسيرر (1874-1945) السويد ليستقر في الولايات المتحدة. إرنست كاسيرر هو شخصية علمية، مهتمة بجميع مجالات المعرفة، سيتم إدراج عمله في تاريخ الفكر، في تقاليد أعظم الفلاسفة. وبناء على طلب زملائه وأصدقائه في جامعة ييل، كتب هذا العمل الكبير، الذي يهدف إلى فهم أصول النازية وأسبابها. كما ينظر حول دور الثقافة والعقل في مواجهة إغراءات الفكر والعنف. فما علاقة الدولة بالأسطورة؟ لماذا تستعمل الدولة الأساطير أثناء ممارستها للحكم ؟ ومتى قام الناس بأسطرة الدولة؟ وكيف تحولت الدولة نفسها الى اسطورة ينظر اليها الأفراد من منظور المخيلة والذاكرة والوجدان؟ وماذا ترتب عن ذلك في مستوى الحقوق والحريات والمواطنة والمكاسب المدنية التي دافعت عنها البشرية؟ وماهي حدود هذا الترابط غير المنطقي بين سياسة المعقول وثقافة اللامعقول؟

تأملات حول القرن العشرين

وفقا لإرنست كاسيرر، فإن الكوارث السياسية في القرن العشرين ترجع جذورها إلى النمط الأسطوري للفكر الإنساني. إن إعادة إصدار كتاب أسطورة الدولة، أحدث أعمال الفيلسوف إرنست كاسيرر، والذي نُشر لأول مرة في عام 1946، لم يكن من قبيل الصدفة. إنه يستجيب بشكل واضح، في نظر المحرر، للأحداث الجارية. والواقع أن عصرنا قد يبدو مرة أخرى فريسة لشياطين الشر، التي تعوقها إن لم تكن تزعزع استقرارها بسبب الانقسامات الاجتماعية، في حين أصبحت الأنظمة الديمقراطية محل نزاع وإضعاف. يطارد القلق البليد أذهان الناس أكثر فأكثر، وهو القلق المتعلق بالعودة إلى ثلاثينيات القرن العشرين، إلا أن كاسيرر، وهو لاجئ من عام 1933 في السويد ثم في الولايات المتحدة، ألف كتابه بتحريض من الأصدقاء الذين حثوه على تسليط الضوء على أفكاره. عين فلسفية على الأخبار المأساوية في ذلك الوقت والحرب العالمية الثانية والأنظمة الشمولية. كاسيرر، المولود عام 1874، هو فيلسوف كانطي جديد، وريث مدرسة ماربورغ لهيرمان كوهين وبول ناتورب. وبروح موسوعية، نشر العديد من المؤلفات حول تاريخ الفلسفة، المثقفة والمشهورة، التي سعت إلى دمج المعرفة العلمية الحديثة في جميع المجالات. ومع ذلك، فإن عمله الرئيسي هو فلسفة الأشكال الرمزية، حيث يطور، بروح كانطية، فلسفة الثقافة. تشكل الأفكار التي تم تطويرها هناك الخلفية النظرية لهذا المقال. كيف يتعامل الفيلسوف الأكاديمي كاسيرر مع موضوعه، الأخبار الرهيبة في عصره؟ وكما يشير عنوان الكتاب، فإن الأسطورة هي مدخله. الأطروحة الرئيسية، والتي هي أيضًا الخيط المشترك للتحقيق، هي أن الأنظمة الشمولية، وخاصة النازية التي تجذب معظم انتباه المؤلف، ترجع إلى عودة ظهور الأسطورة على نطاق واسع في مجال الأعمال التجارية. ولا بد من الاعتراف بأن هذه الفكرة مخيبة للآمال، حتى مع الأخذ في الاعتبار تاريخ الكتاب، المكتوب في حرارة اللحظة حتى قبل اكتمال التسلسل التاريخي الذي يركز عليه. إنها، قبل كل شيء، أطروحة الأنوار، الوريث المستحق لفلسفة التنوير. وعلى هذا النحو، فإن تاريخ البشرية هو موقع معركة بين الأسطورة والعقل، حيث ناضل العقل في البداية لتحرير نفسه من الأول، دون أن ينتصر تمامًا.

يمكننا القول إن جميع الناس يَدْرَءُونَ عن التَّعَاسَةِ، وضد ذلك فهم يطمحون ويهدفون ويبحثون عن السعادة، مثلما يجمع كل الفلاسفة على أن الإنسان يوجد وهو يتجنب التعاسة ويطمح للخير الأسمى Le bien suprême، لكن ما إن يحاول أي شخص كيفما كان نوعه تحديد ما التعاسة حتى تتعدد تمثلاته وتكثر آراؤه، فكل منا ينظر إلى تعاسته من منظوره الخاص، فهناك من الفلاسفة من حصر التعاسة في الجهل والبخل والخوف والظلم، وهناك من رأى أن التعاسة مصدرها أنها تجثم في النفس جثوم العادة.
ذلك أن تحقيق اللذة هي بداية التعاسة. وهي الشر الأول الموافق لطبيعة الإنسان، أي الشر الذي يجب على كل الناس الدَّرْءُ عنه، لكن ما نلاحظه هو سعي الناس وراء إشباع وتلبية الحاجات الغريزية واللذات التي لا تنتهي، وبدون تأمل وتفكير حثيث يفضل الإنسان تحقيق اللذة التي يعتبر أنها تجلب له أفضل نفع، بينما هي عكس ذلك فاللذة شر لا ينتهي، كما أنها محاكاة وتقليد الآخر في كل شيء هو من بين العلل الممهدة للوقوع في مطب التعاسة، خاصة عندما نتبع ونقلد آراء الآخرين-الأغيار الرائجة، ونتركهم يفكرون بدل أن نفكر نحن بأنفسنا لأنفسنا.
إن سلك دروب الآخرين، وترك الآخرين يفكرون بدلي لمسلك خطير يؤدي إلى تعاسة الفرد، كما أن إيمان الفرد بالوصفات الجاهزة والآراء والمنظورات والتمثلات والمعتقدات والقيم الرائجة وتبعية الغَوْغَاءُ والدَّهْمَاءُ لا يمكن أن نجني وراءه سوى تعاسة التعاسة.
يحيل مصطلح التعاسة في اللغة الإغريقية Δυστυχία إلى نشاط عقلي يصيب الإنسان يلمس الجسم بجميع تفصيلاته حتى ملامح الوجه والفكر بكل تجلياته وأبعاده، أكثر مما يشير إلى غضب وتوتر عارم لدى الفرد، وترتبط التعاسة بحالة-شعور عدم الرضا الدائم والكامل.

نجد في واقعنا عديد التمثلات والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف السائدة عن التعاسة، وهذه مسألة جد طبيعية، لأن كل واحد منا وكيف ينظر إلى تعاسته أو مصدر تعاسته، ويعود أصل هذا الاختلاف والتباين إلى طبيعة التعاسة ذاتها لكونها معقدة ومركبة، ولا يمكننا أن نفند تصورات عوام الناس عن التعاسة، لأنها تمثلات صحيحة فعلاً، لأن كل فرد ينظر إلى التعاسة من منظوره الخاص به، لكن نتفق جميعاً على أن التعاسة كيفما كانت تشكل شراً لا يحمد عقباه، كما أنها متأصلة في الذات الإنسانية.
وبالتالي يحق لنا وفق ما قيل سابقاً، ربط التعاسة بالشر المنبوذ والمتجذر في الذات البشرية، وأن التعاسة تشكل حدّاً في ذاتها، وتحتاج تأملا عقليا محكما لتحديد جوهرها، فهي على صلة وثيقة بالحياة السيئة، أو العيش التعيس، وتحقيق اللذات، بل حتى طموح المرء في تحقيق ثروة، نصرح منذ الآن أن تحقيق ثروة مالية تعاسة حقيقية، لأنه حتى ولو امتلكت مال الدنيا لن تزداد إلا شقاءاً وتعاسة، كما نجد العديد من الأفراد يفعلون أكثر ما بوسعهم لنيل رضى الآخرين وحب الناس أو ما يعتبرونه مجداً وشرفاً، نقول أن هذا لا معنى أو لا علاقة له بالمجد والشرف، بل مجرد وهم وتوهم وهذيان وبهتان ويزيد من هرمون التعاسة، هكذا نعلن كما أعلن ماركس، أن التعاسة آفيون الشعوب.

من خلال العنوان أعلاه، يبدو أن رهان هذه السلسلة من المقالات يتمثل في قراءة ما قاله اوكتبه الفلاسفة عن مفهومي الحقيقة والحرية. أما عن المنهجية التي سيخضع لها البحث فستكون ضمنية وتلقائية، تستمد مقوماتها وتوجهاتها من نصوص بعض المؤلفين التي سوف يتم تقديمها واعتمادها.
البداية بالفصل الثالث من كتاب مارسيل كونش "أساس الأخلاق" المنشور في طبعة فرنسية أولى سنة 2003. وقد كان الكاتب قيد حياته (ولد يوم 27:مارس 1922 ومات يوم 27 فبراير 2022) فيلسوفا فرنسيا وأستاذا فخريا بجامعة السوربون.
يستهل الكاتب فصله بالإشارة إلى أن الأمر يتعلق بالإجابة على سؤال أساس الأخلاق من خلال التحدث إلى شخص يستمع. وتساءل:كيف أعرف ما إذا كان يستمع لي؟ وأحاب بأنه يعرف ذلك عندما يتحدث بدوره، وليس بأي طريقة أخرى: يجب أن تتوافق كلماته مع كلمات كونش، سواء أجاب أو رد. وحتى يجيب السامع، يجب أن يسأل. ويعرف الكاتب أنه لا يسأل إلا كائنا قادرا ليس فقط على الإجابة، بل قادر أيضا على أن يسألىبدوره. لأنه لكي يجيب، عليه أولاً أن يعيد السؤال على نفسه كسؤال. وما يطلبىه منه يطلبه من نفسه.
والفكرة التي أراد كونش الوصول إليها هي أن سلطة السؤال لا يمكن أن تكون من جانب واحد فقط. يمكن للشخص الذي يجيب أيضا أن يطرح السؤال علي وعلى نفسه. وقد حدث أن محاور سقراط كان يسأل هو ىالٱخر. وهذا هو الحوار سؤال/جواب.
من هنا فصاعدا، لست وحدي من أتوقع من محاوري أن يجيب بصدق، أي أن يقول ما يراه كما يبدو له، ولكنه يتوقع مني ذلك أيضا. يفترض كل محاور أن الآخر قادر على قول الحقيقة أو عدم قولها (إما أنه كاذب أو خاطئ). لذا، فكل منهما يفترض أن الآخر قادر على الحقيقة، capax veritatis. نحن نتحاور تحت فكرة الحقيقة. ولكن هذا يعني أننا نتصور ونفهم بعضنا البعض ككائنات حرة. هذه هي الحقيقة الأولى التي يجب على المحاور أن يعترف بها معي.
يواصل كونش حديثه قائلا: المحتوى الكوني الأول لفكرة الحقيقة هو فكرة الحرية. حتى الٱن، ليس لدينا سوى حقائق خاصة قلنا إنه ينبغي تجاهلها هنا. إن وجوب تبادل المتحاورين الاعتراف بكونهم أحرارا يمثل النقطة الأولى التي يجب أن يتفقوا عليها، ليس بطريقة مشروطة، بمحض الصدفة مع قناعاتهم، ولكن بطريقة ضرورية؛ إنها الحقيقة الكونية الأولى. ولكن سيقال إن الحقيقة التي يتم تحديدها من خلال الاتفاق الضروري بين المتحاورين ربما تكون، "بالمعنى المطلق"، باطلا. هذا غير مهم. ما نسعى إليه هو الحقيقة الإنسانية، أساس الأخلاق الإنسانية، وليس الحقيقة الأخلاقية الخاصة بالملائكة أو الصدفيات.

مقدمة
يعرّفنا أرسطو، في كتابه الأخلاق النيقوماخية، على أخلاقيات تضع في المركز الاهتمام بـ”الحياة الطيبة”. هذه الأخلاق، التي قد تبدو غريبة تمامًا عن مفاهيمنا الحالية، تدعونا في الواقع إلى إعادة التفكير في ماهية الحياة المنجزة في ضوء أخلاقيات الفضيلة. لكن أخلاقيات السعادة هذه - بعيدًا عن كونها تمجيدًا للذاتية الأنانية - هي أيضًا أخلاقيات الآخر وتعطي مكانة الصدارة للصديق. وبالتالي سيكون الهدف من هذا المقال هو التشكيك في العلاقة بين الصداقة والسعادة في إطار الأخلاق الأرسطية. وبتعبير أدق فإن السؤال الذي سنحاول الإجابة عليه في نهاية هذا المقال هو: هل الصداقة ضرورية للسعادة؟ الأطروحة التي سندافع عنها من خلال عدة حجج هي أن الصداقة ضرورية بالفعل لتحقيق السعادة. للدفاع عن أطروحتنا، سيكون من الضروري أولاً تقديم نظرة عامة على القضايا المحيطة بسؤالنا. للقيام بذلك، سيكون من المفيد توضيح المفاهيم الرئيسية التي تحيط بالمفهوم الأرسطي للصداقة والسعادة والتي ستكون بالتالي أساسية للتطوير الجدلي. وسيتضمن ذلك تسليط الضوء على المفاهيم الأرسطية الثلاثة وهي الفضيلة والسعادة والصداقة. وبعد ذلك، سوف نقترح ثلاث حجج رئيسية لصالح أطروحتنا. سيتم مناقشة موضوعات حب الذات، والإنسان باعتباره "حيوانًا سياسيًا" تباعًا، بالإضافة إلى الجوانب المختلفة للصديق باعتباره مكونًا مباشرًا لخيرنا وسعادتنا. بالإضافة إلى ذلك، سوف نقوم بدمج كل من الاعتراضات "الشائعة" التي سنسعى إلى تفكيكها لدعم أطروحتنا بشكل أفضل وحدود المنطق لتسليط الضوء على العيوب الممكنة في الأطروحة.

التحديد المفهومي للحقل الايتيقي

من المعلوم أن ارسطو اشتغل في كتبه على تعريف المفاهيم الهامة التي تتنزل ضمن الحياة العملية للبشر.

أولا وقبل كل شيء، سنحتاج إلى تحديد المفهوم الأكثر هامشية لسؤالنا - ولكنه لا يزال ضروريا لفهم جيد للحجج وهو مفهوم الفضيلة. وسنستمر في الحديث عن السعادة بالمعنى الأرسطي: eudaimonia فن السعادة، الذي يحتل مكانة مركزية في أخلاقياته. أخيرًا، سيكون الأمر يتعلق بشرح مفهوم الصداقة ذاته الذي يشير إليه أرسطو:  الفيليا philia. سيكون من الضروري بعد ذلك شرح صفاتها الخاصة، وموضوعها، وكذلك التمييز بين الأشكال المختلفة “المشتقة” من الصداقة التي تميل المفاهيم المشتركة إلى ربطها – بشكل خاطئ، وفقًا لأرسطو – بالصداقة الحقيقية. اولا هناك اشارة إلى الخير الأسمى الذي يمكن ربطه بالسعادة والحياة المنجزة وثانيا اشارة إلى شكل الصداقة بامتياز، الذي يتميز بالفضيلة. فماهي الدلالة الفلسفية لهذه المفاهيم الايتيقية؟ ولماذا حاول ارسطو التقريب بينها؟