في مثالية ساذجة يذهب هوسرل الى "ان الموضوع ليس معطى غفلا بل هو حقيقة تستمد معناها من القصد". في العبارة نجد بسهولة اول خطأ مثالي سطحي هو تغليب هوسرل اولوية وقبلية الوعي القصدي على بعدية الموضوع. وثانيا لايمتلك الموضوع المستقل انطولوجيا خاصيّة ان يكون (حقيقة) بل ان يكون الوعي الادراكي له (معرفة) ليست محايدة بل تغييرية. وهذا التفريق بين الحقيقة والمعرفة ليس على صعيد اختلاف المصطلح بين الاثنين فقط بل على صعيد المعنى المحتوى لكليهما.

الثابت في الادبيات الفلسفية ومثله في التفكير العلمي الذي لا يمكن تجاهله هي أن مصطلح (الحقيقة) يلتقي مع مصطلح (المعرفة) في أن كليهما مصطلحان نسبيان بمعنى هما سيرورتان تقبلان الاضافة التراكمية الكميّة والنوعية لكن ايضا باختلاف جوهري بينهما. فالتراكم الذي تتقبله الحقيقة هو قفزة نوعية ناسخة لما قبلها اما التراكم المعرفي فهو خبرة كميّة مضافة تعتمد ماقبلها ولا تلغيه.

كما أن الفرق بين الحقيقة انها مفهوم مطلق مثلما نقول الوجود هو مفهوم مطلق غير متعيّن بابعاد معرفية تجعل منه مصطلحا متفقا عليه فهو ليس موضوعا بل دلالة وكذا الحال مع الزمن. فالوجود يكون مصطلحا بمحتوياته الموجودية فيه فقط في حالات موجوديتها المستقلة انطولولوجيا داخل كليّة الوجود الذي هو مفهوم تبحث فيه الميتافيزيقا منهجا ماجعل نيتشة يسخر سخرية شديدة قوله ليس هناك شيء لاندركه لا بصفاته ولا بماهيته وندعوه الوجود.. وكذا فعل بعده هيدجر أنه لا شيء يدعى وجودا وكان يقصد مطلق الوجود كمفهوم وليس الموجود الانسان.

ليس غريبا أن نجد بالفلسفة مثل هذه المفاهيم التي نعتبرها متناقضة لا يقبلها العقل لكنها ليست بعيدة المصداقية التسليم بها. مثال آخر حينما الغى الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (العقل المعرفي) التجريدي كماهية خاصيتها التفكيروليس العقل البيولوجي. سرعان ما تلقف هذه المقولة الفيلسوف الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976 قائلا من السخرية الفلسفية أن نقر بوجود عقل انساني ابدا.

علما أن ديكارت في القرن السابع عشر سبق وقال العقل جوهر خالد خلود النفس وهو يقصد العقل المجرد الذي ماهيته التفكير وليس العقل البيولوجي عجينة الدماغ بتركيبة ما تحتويه الجمجمة. نفس الشيء تكرر مع التشكيك بوجود الزمن (المفهوم) عدا الدلالة المعرفية لملازمة الزمن للمكان.  وابرز من أنكر حتى عدم حاجتنا ملازمة الدلالة الزمانية للمكان هو برجسون واجاز لنفسه الادراك المكاني في عدم تعالقه الافتراضي مع الزمن. ودبّت الحياة بالتشكيك بوجود الزمن على يد ثلاثة فلاسفة اميركان معاصرين ذهبوا نفس المنحى انكارهم وجود الزمن حتى كدلالة ادراكية للمكان.(لي مقالتان منشورتان اؤيد فيه هذه النظرية الفلسفية غير الفيزيائية علميا ان الزمن مفهوم مطلق لا يمكننا البرهنة اليقينية عليه خارج ملازمته الافتراضية الحيادية للمكان).

تمهيد

"هناك القليل من الحقائق المطلقة "

يبدو معنى هذا المصطلح، منذ البداية، ملتبسًا وجدليًا بالضرورة. والمطلق هو المرتبط بالنسبي وضده، فهو بالتالي منفي. لكن المفهوم الذي تغيب عنه فكرة العلاقة يتم إزالته من القيود، ويتحرر من الاختلافات، وبالتالي يعين، بشكل إيجابي، المكتمل، والكمال. وبالتالي فإن هذا الغموض الدلالي ليس مسألة تردد في المفردات: فهو يشير ضمنا إلى صعوبة تفتتح الجدل الفلسفي الذي أثاره هذا المفهوم. هل المطلق له معنى أم لا، هل هو موجود أم لا؟ وبما أن المطلق يعني غير مشروط، مبدأ بلا مبدأ، فإن المطلق يصبح موضع تساؤل من خلال أي بحث عن الحقيقة، فإن كل نظام فلسفي يعبر عن مفهوم معين لها. في السياق اللاهوتي، فإن مسألة وجود الله أو غيابه، أو إثباته أو نفيه، هي التي تطرحها كلمة "مطلق". لكن في الوقت نفسه، بما أن المطلق يعني ما هو في ذاته، بشكل مستقل عن أي شيء آخر، فإن مشكلة الحرية، سواء كانت ملموسة أو وهمية، تطرح معها. فما دلالة المطلق؟ أين يكمن؟ وماهي تجلياته؟ وما قيمته؟

مفهوم المطلق

أصل الكلمة يردع الى الكلمة الإنجليزية absolute  والتي جاءت من الكلمة الفرنسية "absolut"، والتي نشأت من الكلمة اللاتينية "absolutus"، وهي صيغة الماضي من "absolvo"، وهي فعل، وتعني "التحرير، والإنهاء، والاكتمال"، و"الانفصال، والنقاء". كما يشير مصطلح المطلق إلى غير المشروط و/أو الاستقلال بالمعنى الأقوى. ويمكن أن يشمل أو يتداخل مع المعاني التي تنطوي عليها مفاهيم أخرى مثل اللانهائية، والشمولية، والكمال. وفي اللاهوت المسيحي، يُنظر إلى المطلق على أنه مرادف أو صفة أساسية لله، ويميز طبيعة أخرى لله مثل حبه وحقيقته وحكمته ووجوده (الحضور في كل مكان) ومعرفته (العلم بكل شيء) وقوته (القدرة المطلقة) وغيرها. فالحب المطلق، على سبيل المثال، يشير إلى حب غير مشروط على عكس الحب المشروط والمحدود. وعلى نحو مماثل، يمكن فهم المطلق أيضًا على أنه الكائن المطلق، أو سمة منه، في التقاليد الدينية الأخرى. لم يشرح الفلاسفة اليونانيون صراحةً المطلق، لكن فكرة المبدأ النهائي دفعت استفساراتهم إلى الأمام. بالإضافة إلى ذلك، في حين لم يستخدم الفلاسفة في العصور الوسطى مصطلح المطلق، كانت أفكارهم حول الله هي أول شرح صريح للمطلق. منذ ذلك الحين، كانت هناك العديد من التفسيرات للمطلق. من بين الفلاسفة الرئيسيين الذين تعاملوا مع المطلق المثاليون الألمان مثل شيلينج وكانط وهيجل، والفلاسفة البريطانيون مثل هربرت سبنسر وويليام هاملتون وبرنارد بوسانكيت وفرانسيس برادلي وتوماس هيل جرين، والفيلسوف المثالي الأمريكي جوشيا رويس.

بالفعل، أن يكون الوجود مدركا أو غير مدرك بشكل صحيح، مسؤولا، محددا، فهو قبل كل ذلك لامتحجب ومُتحجب قبلا وباستمرار في جوهره. والآن لم يبق لنا سوى أن نحاول، اعتمادا على روبنس بيليدور، شرح اللحظة الثانية من العلاقة بين الوجود والحقيقة، ولكن هذه المرة، سيتعلق الأمر بالحقيقة الأنطولوجية المفهومة كلاتحجب-تحجب.

كلما تعلق الأمر بمعنى الوجود، إلا وقلنا أن الوجود في اختباره الأصلي هو phúsis - لاتحجب منبثق عن تحجب، تدبير مصدره الانسحاب (انظر ص76 في النص الأصلي). ولكن يبدو أن هناك تناقضا بين هذا "الانسحاب" للوجود وبين انفتاحه. بين اختفاء ومجيء. بالفعل، بما أن هايدجر يحيل إلى الإغريق لتوضيح فكره، نسمح لأنفسنا بالرجوع إلى هذا القولة لهيراقليطس هذا من أجل توضيح تقريرنا: "الطبيعة تحب الاختفاء". لكن إذا كانت "الطبيعة" (أي الوجود في جوهره) تحب أن تختبئ، فلنسأل أنفسنا كيف يمكن أن ينكشف مثل بيان "في ذاته"، وإذا بان فكيف يختفى عن ذاته؟ إنما هنا يجب علينا أن نكون حذرين حتى لا نسيء التفسير، ولو ان أرسطو سبق أن حذرنا من مبدأ عدم التناقض، وهو أن الشيء لا يمكن أن يكون هو نفسه ونقيضه في نفس الوقت. ما ينبغي فهمه هو أن الامر لا يتعلق ذلك سوى قطبين لنفس الظاهرة. الوجود لكونه بالضبط نورا لكل شيء، بحسب برتراند ريو، يمحي في ما يضيئه. ليس تحجباً خالصاً وإلا لن يستطيع الموجود ابدا أن يظهر كالموجود في الوجود ولن يكون فيه وقوع في الموضوعية. لنفهم أن العبارة: "الطبيعة" تحب الاختفاء تعني أن التحجب واللاتحجب ينتميان معا إلى الوجود في جوهره.

لنضع في اعتبارنا دائما مفهومنا عن الحقيقة (alèthèia). ماذا تقول لنا هذه الكلمة، أليثيا؟ تقول لنا أولاً اللاتحجب واللاختفاء. بتعبير أدق، تقول الخروج من الèthè، الانبجاس إلى الظهور، القدوم إلى الحضور. أليس هذا هو نفس التعريف الذي أسندناه إلى كلمة phúsis، التعريف الذي طلبنا الاحتفاظ به في الذاكرة؟ عندما نقارن بين هذين التعريفين، ألا يمكننا ان تؤكد على وجه اليقين أن الوجود والحقيقة هما من نفس الطبيعة؟ بهذه الكلمات نفسها، تجعل alèthèia ممكنًا شرط معرفة الموجود، الphúsis ذاته وفقًا لتحديده الخاص، أي وفقًا لانفقاس الموجود في وجوده. ولأن alèthèia تعني أولاً وخاصة اللاتحجب، فهي تعني أيضًا وفي ارتباط وثيق الوجود الحقيقي لما هو لامتحجب على هذا النحو. األيثيا هي إذن ما خرج من الكمون أو الإختفاء. الاختفاء ليس نقصًا أو حرمانًا لوجود قد يكون في ذاته نورًا كاملاً في حد ذاتها، إنه الطريقة ذاتها التي بها يجعل الوجود نفسه معروفا، إنها- أي بها يعيش جوهره الكامل (Wesen)، كحضور لكل الحاضرين (AnwesendenJ). فالحضور باعتباره كذلك لا يأتي إلى الظهور، بل الحاضر يشعر بأنه متجمع فيه. إنما بهذا المعنى يحمل في طياته تحجباً معيناً.

عند تحليل كلمة alèthèia، نجد أنها مكونة من حرف زائد a والجذر lèthè الذي يعني النسيان. ما يريد هايدجر أن يفهمنا إياه هو أن هذه الـ"a" الزائدة هي في الواقع مزدوجة إيجابيا: من جهة، لأنها بمثابة إشارة إلى خاصية جوهرية لما هو لامتحجب، بمعنى أن هذا الأخير لا "يكون" إلا باعتباره "منتزعا من الاختفاء"، إلا باعتباره "مسروقا" منه وبهذه الشروط تحدث قبلا "الوجود والزمان" عن اللاتحجب، مضيفا أنه كان لا بد من تصوره ك"اختطاف". من ناحية أخرى، لأنه في ما وراء الlèthè، في التحديد الأساسي للأليثيا، يشير a الزائد إلى انتشار الليثي ذاته في الأليثيا، طالما أن الاختفاء منذ البدء يحكم جوهر الوجود بالكامل.

هكذا إذن، يصبح عند هايدجر تاريخ الفكر الغربي بأكمله تأكيدا على "أن الوجود يقدر لنا، لكن بطريقة تجعله ينسحب في نفس الوقت إلى جوهره". هذا اللغز للكينونة الذي قاربه هيراقليطس وساءله هايدجر، هو أن الانعطاء لا يكون إلا بالانسحاب. الوجود في اختباره الأصلي هو Phúsis - لاتحجب منبثق عن التحجب، تدبير مصدره الانسحاب، الذي سنحاول القيام بتطويره من خلال تقديم العلاقة بين الوجود والحقيقة في ما يلي.

وبما أن الحقيقة الإسنادية قد تم تجاهلها، وتحديها من قبل هايدجر، فإن العلاقة سوف تأخذ في الحسبان فقط الحقيقة الأنطيقية والحقيقة الأنطولوجية. يتحدث هايدجر بلا كلل في عدة نصوص عن "انسحاب الوجود"، عن "لغز الوجود"، لكن هل يمكن فهم هذا اللغز للوجود؟ لقد رأينا للتو أن الوجود لا هو قابل للإدراك ولا هو ملموس ما دام أنه يظهر ماهيته وهو لا ينعطي إلا من خلال الانسحاب. من خلال انعطائه، كما نعلم، يستقر في الحضور. في الحضور ينكشف كما هو، ويستقر في الحقيقة. عندما انسحب، إلى أين لجأ؟ لقد لجأ إلى العدم. هذا هو المكان بالذات الذي يفسر عدم قابلية لغز الوجود للإدراك. وهذان التعبيران: (أ) الاستقرار في الحضور، و(ب) اللجوء إلى العدم سوف بسترعيان انتباهنا قليلاً.

لكن، قبل ذلك، نرى أنه من المفيد إيراد هامشين كتبهما بيليدور لتوضيح أمرين: اللغز والماهية. وهكذا يحدد الكاتب أن اللغز لا يكتسب هنا الدلالة الدينية التي تعطى له في أغلب الأحيان؛ لكنه يعبر عن تجربة الأليثيا باعتبارها لاتحجبا ولا إخفاء للوجود في ماهيته التي نفكر فيها هنا. أما المشكلة المتعلقة بالماهية، عند هايدجر، فلها دائما وجهان. في نفس الوقت الذي تذكر ما يتعلق بالماهية، فإنها تتضمن أيضا تعيين حدود ذلك الذي لا يندرج تحتها. تحديد الماهية ليس واضحا بذاته أبدا. بالنسبة إلى هايدجر، فالجوهر ليس طبيعة موجودة دائما في أفق معرفتنا. بل على العكس من ذلك، فهي مخفية في الأصل ولا يتم اكتشافها إلا من خلال جهد الفكر الذي اختار أن يذهب إلى ما هو أبعد من اليقينيات المباشرة للحس المشترك والممارسة العملية.

لنبدأ بالتساؤل باختصار شديد عن الكلمة الأكثر هشاشة؛ ألا وهي العدم، ما دام للحضور خاصية مسالمة. قلنا أعلاه أن الوجود قام بالانسحاب، انسحب إلى العدم. هذه الكلمة، كونها الأكثر هشاشة، سنستمر في استخدام هشاشتها للتأكيد على أن كل موجود بما هو موجود يأتي من العدم. ماذا يعني هذا التأكيد؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، نلتزم بأن نعلن أننا لن نقدم خطاباً مفصلاً، مسهبا أو مطورا حول ذلك العدم كما فعل هايدجر، ولكن بما أن هذه الدراسة تتناول ماهية الحقيقة وأظهرنا، تماشيا مع هايدجر، أن الحقيقة في جوهرها تحمل معها اللاحقيقة، نرى أنه من الضروري أيضا، في تقديم الوجود في جوهره، أن نقول كلمة قصيرة عن الجانب الآخر من الوجود، خاصة وأن هايدجر يتحدث عن انسحاب الوجود.

تمهيد

" "كل معرفة هي إجابة عن سؤال." غاستون باشلار

تهتم الفلسفة بمختلف التصورات التي يشكلها الانسان حول الكون ومن بين هذه التصورات نجد تصوراته حول الطبيعة والتي تم الاتفاق على تسميتها بالمعرفة العلمية ولكن هذه المعرفة العلمية اتخذت صبغة فلسفية حينما تراوحت بين النظري والتقني وبين الفكري والمادي وبين المثالي والواقعي . لقد انقسمت المعرفة العلمية من جهة المقاربة المنهجية للظواهر الى اتجاه عقلاني واتجاه تجريبي. فما الفرق بينهما؟ وماهي خصائص كل اتجاه؟ والى أي مدى نجحت الفلسفة في انتاج مغرفة علمية حقيقة بالعالم الخارجي؟

1- العلم منهج عقلاني

 تعريف العلم

يشير العلم إلى ما يوحد العلوم في مطلب واحد. إلا أنها تحمل معنيين: مشترك في أحدهما، وفلسفي في الآخر. بالمعنى العام، العلم هو المعرفة (وبالمعنى الواسع، هناك علم صيد الأسماك بالذباب أو البستنة أو المربيات) العلم بمعناه الفلسفي هو حكم يتعلق بالعالم (الفيزياء) أو بمجموعة من الافتراضات المنطقية (الرياضيات) ويضع قوانين هذا المجال بطريقة تعتمد على التحقق و/أو التماسك. ولأنه ينشئ المعرفة، فلا ينبغي الخلط بين العلم والمعرفة، ولا مع المعرفة. المعرفة خاصة، والمعرفة عامة وذات نطاق عالمي؛ المعرفة لا توفر أسباب فعاليتها، المعرفة يتم تأسيسها من خلال البحث المتعمق في الأسباب؛ المعرفة ليس لها بالضرورة تطبيقات عملية، إذ يتم تنسيق المعرفة مع "التمثيل" المحتمل. وهكذا عرف الإغريق والساكسونيون والفايكنج أن المد والجزر موجود، وبالعادة، كان بإمكانهم توقعه جزئيًا. ولكن لم نتمكن من معرفة سبب المد والجزر إلا بعد ظهور نيوتن وظهور الرياضيات، وتمكنا من التنبؤ بها بدقة كافية لإنشاء تقويم. من الصعب أن نجد قاسماً مشتركاً لجميع العلوم، فموضوعاتها تختلف كثيراً. يمكن أن يتعلق الأمر بالكائنات الحية (علم الأحياء)، أو المجتمع (علم الاجتماع)، أو بنية الكون (الفيزياء الفلكية)، أو العلامات اللغوية (علم اللغة)، أو القياس الكمي للتكرارات وحدوثها (الإحصائيات والاحتمالات). إن الكثير من التنوع في موضوعات الدراسة يؤدي إلى مناهج منهجية متنوعة، ومن الممكن العثور على اتساق في المنهج العقلاني مما يجعل من الممكن تعريف العلم بتنوعه.

 استنباط وتفسير الملاحظة

يتكون الحث من ملاحظة الحقائق لاستخراج قانون متكرر للسلوك. لكن الملاحظة ليست رؤية، فهي تتطلب انتشال النفس من خصوصيات الحساس لتأخذ بعين الاعتبار العناصر المشتركة والمتكررة فقط.

علم الاجتماع هو علم مراقبة السلوكيات المتكررة للرجال في المجتمع. كل واحد من هؤلاء الرجال يُنكر تفرده لصالح أخذ الأفواج في الاعتبار. إن علم الاجتماع، كما يقول دوركهايم، هو علم الملاحظة والفرضيات. لكن لا يمكن التحقق من الفرضيات من خلال بروتوكول تجريبي صارم، لأن الحقائق البشرية تعتمد على حرية الفاعلين، وهي غير قابلة للتكرار، وبالتالي غير قابلة للتجربة. ولذلك فهو ليس بروتوكولًا استنتاجيًا افتراضيًا، ولكنه عملية لتفسير تكرار السلوكيات المقاسة إحصائيًا. تعتمد العديد من العلوم الإنسانية على الأساليب العلمية في البحث التي تؤدي إلى تفسير النتائج، والتي تكون بطبيعة الحال موضع نقاش.

1. هيجل وطبيعة العقل الجدلية

من خلال مقولة انجلز الدوغمائية ماركسيا اعتباره (قوانين الطبيعة) تعمل بشكل جدلي ديالكتيكي ذاتي بعيدا عن رغائب الانسان. قول انجلز هذا يوقعنا بمأزق ليس سهلا علينا التخلص منه. ماهي العلاقة التي تربط بين قوانين الطبيعة الثابتة وقوانين الديالكتيك المتغيرة؟. الاسبقية في التحكم بالطبيعة والمادة والتاريخ هي لمن؟ هل هي لقوانين الطبيعة ام لقوانين الديالكتيك؟.

أم هما متكاملان في التحكم بالمادة والتاريخ والانسان. لا يمكننا القول ان قوانين الطبيعة(الثابتة) هي نفسها قوانين الجدل الديالكتيكي (المتغيرة) وهما يعملان بخصائص ذاتية باختلاف خواص قوانين الطبيعة هي قوانين فيزيائية ثابتة. بينما قوانين الجدل الديالكتيكي هي قوانين تحكم التاريخ في سيرورة متغيرة ليست ثابتة. في تخطئتنا عبارة انجلز نقول قوانين الطبيعة العامة ثابتة فيزيائيا ولا تدخل في علاقة جدل ديالكتيكي مع ظواهر او قوانين هي من صنع علاقة الانسان بالطبيعة.. الديالكتيك المادي الجدلي في قوانينه الثلاث انما يقوم على ركيزة التضاد التي تحكمهما وتجمع بينهما المجانسة النوعية الواحدة زائدا الحركة الدائمية الدائبة لطرفي التضاد الجدلي. التضاد محكوم بزوال ما يسمى طرف السلب ليخلي الطريق امام الطرف الايجابي ان ياخذ دوره في استحداث الظاهرة الثالثة الجديدة نتيجة التضاد بين سالب وموجب.

هذا الخلط الذي بدأه انجلز قوله طبيعة قوانين الطبيعة محكومة بالجدل الديالكتيكي أوقع هيجل بخطا فلسفي فادح قوله (طبيعة العقل جدلية بالفطرة البايولوجية للانسان). وهذه الطبيعة الجدلية للعقل هي التي تحكمنا في تحليل كل مظاهر المادة والحياة والتاريخ بقوانين الجدل الثلاث. اولا وحدة وصراع الاضداد، ثانيا تحول الكم الى كيف (نوعي)، وثالثا قانون نفي النفي.

اعتقد انزلاق انجلز قوله قوانين الطبيعة هي ذات خصائص ديالكتيكية لا موجب الوقوف لتفنيد خطأها فهي ولدت ميتة بدوغماية فجّة واضحة.

اما بخصوص مقولة هيجل التي لا تقل ابتذالية فلسفية دوغمائية عن مقولة انجلز في مقولته طبيعة العقل الديالكتيكية بالفطرة هي التي تملي وتخلع على التاريخ والمادة طبيعتهما الجدلية المادية الديالكتيكية.

طبيعة العقل جدلية بايولوجيا بالفطرة هراء وخرافة فلسفية اطلقها هيجل. ولا يمكن لطبيعة العقل الجدلية هذه حسب تعبير هيجل ان تخلع على تفكيرنا ان كل شيء يتوجب تحليله ودراسته وفق منطق الديالكتيك. قوانين الجدل يحكمها التغيير الحاصل بكل شيء محكوم بالحركة والسيرورة المتقدمة فهي لا تلتقي قوانين الطبيعة الفيزيائية العامة الثابتة.

تمهيد

هناك أزمة ثقة في المجتمعات الغربية اليوم. ويأتي ذلك بعد عقود من الإيمان الراسخ بالتقدم. إنه أمر خطير ويتعلق بالابتكار التكنولوجي. وترتبط هذه الأزمة بالتوتر "الانهياري". لماذا يرتبط التقدم التكنولوجي المبهر بالخوف من المستقبل؟ فهل لا تزال تتكيف مع توقعات البشرية؟

إن المناقشات بين محبي التكنولوجيا وكارهي التكنولوجيا تسير على المسار الخاطئ لأن التقنية والتكنولوجيا مجرد وسيلة. يتم استخدامها لإنشاء أو القيام بالأشياء. إنهم ليسوا أكسيولوجيين. إن استخدامها هو الذي يمكن أن يسبب مشاكل. أقدم لكم وجهة نظر طبيب فرنسي مواطن إنساني لمقاربة جديدة للحضارة التكنولوجية. فماهي النظرة الأخرى لقيام منهج جديد للحضارة التكنولوجية؟

مفهوم التكنولوجيا

بالمعنى الأول هو دراسة وتدريس التقنيات. التقنية (أو "techne" - الفن أو الدراية) هي مجموعة من الوسائل. ويستخدم العمليات لتحقيق غاية. تستخدم التكنولوجيا التقنيات، وتضعها في تآزر. هذه التقنية أكثر بدائية وتجريبية. فالتكنولوجيا أكثر حداثة، وأكثر ارتباطا بالعلم، وأكثر تعقيدا. لقد قامت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر على الفحم والمعادن والمحرك البخاري. ثم جاءت الكهرباء والنفط والكيمياء والتصنيع والإنتاجية. هناك الآن عدة أنواع من التكنولوجيات: "التكنولوجيا العالية"، "التكنولوجيا الحيوية"، "التكنولوجيا الخضراء"، والعلوم التقنية التي لم تعد تنطبق فقط على الأدوات والآلات. ومن الجانب الفني هنا نأتي إلى الجانب التنظيمي، والاستراتيجي، والمفاهيم، و"الافتراضي". إن الفيزياء الفلكية، والطب، وتكنولوجيا النانو، والكم، والذكاء الاصطناعي هي في طليعة العلوم. مشاريع التقنيات المتقاربة لـتقنية النانو، وعلم الأحياء، والمعلومات، والإدراك تتنبأ بعالم في حالة تحول كامل مع نتائج غير مؤكدة، مما قد يزعج الأخلاق.

إن الدراما "الوجودية" التي يعيشها العالَم الحديث هي نتيجة لتحول كارثي حقيقي في مؤسساتنا وأساليب معتقداتنا. وهي تنافس في نطاقها وأهميتها، إن لم تكن تتجاوز، التحول الذي أحدثته "الثورة العلمية" في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقليلون هم الذين ما زالوا يشككون ـ حتى وإن كانوا لا يدركون بعد ـ في النطاق الشامل والعالمي لهذه "الثورة العلمية الثانية". إن أنماطنا الأساسية في التفكير والعمل، والبنية المؤسساتية، والهوية الشخصية، والتنمية الاقتصادية، والعلاقة بالطبيعة، كل هذا يتطلب مراجعة جذرية إذا كان لنا أن نحافظ على الحياة البشرية على هذا الكوكب (وخارجه) ونزدهر. وعلى هذا فإننا نواجه عالماً تتعرض هياكله المعنوية وأسسه المؤسساتية المقابلة لها للتقويض، الأمر الذي ينذر بتحول ثوري. ولا شك أن هذا التحول، على الرغم من عدم وضوحه في الوقت الحاضر، لا بد وأن يكون جذرياً وشاملاً. ويقيم هذا العمل طبيعته بشكل نقدي، ويحدد هياكل رؤية عالمية بديلة، ثم يطور الخطوط العريضة للنظام الاجتماعي والمؤسساتي الذي يقترحه. ويختتم هذا الكتاب بمناقشة الاستراتيجيات العملية التي يمكننا من خلالها أن نأمل بشكل معقول في مواجهة التحديات التي تواجه الحضارة المعاصرة. فما هي الفلسفة الغربية؟ تشير الفلسفة الغربية إلى المفكرين والنظريات في أوروبا والولايات المتحدة. وقد شملت العديد من المناقشات في الميتافيزيقا ونظرية المعرفة والأخلاق والمنطق وما إلى ذلك. والمواقف في هذه المناقشات متباينة للغاية لدرجة أنه لا يوجد سوى القليل مما يمكن قوله عما يجمع بين الفلاسفة الغربيين خارج منطقتهم الأصلية. وبالتالي، لا توجد طريقة موجزة لبيان الفرق بين التقاليد الفلسفية الشرقية والغربية. يمكن تحديد الفلسفة الغربية من خلال مجموعة قانونية من المفكرين بالإضافة إلى بعض التمييزات والمفاهيم المتكررة. أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط جميعهم مفكرون غربيون. بالإضافة إلى وجود مجموعات متميزة من المفكرين، تأثرت الفلسفات الغربية والشرقية بأديان مختلفة. كانت الديانات التوحيدية، وخاصة المسيحية، أكثر تأثيرًا في الفلسفة الغربية، في حين كان للهندوسية والبوذية تأثير أكثر أهمية على الفلسفة الشرقية. فما هي خصائص الفلسفة الغربية؟ تتميز الفلسفة الغربية بمجموعة من المفكرين التقليديين بما في ذلك أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط، إلخ.

في نهاية الجزء السابق، وعدنا روبنس بيليدور بتوضيح ماهية الحرية الإنسانية التي هي موضوع هذه الدراسة. حان الوقت لكي نقوم بدراسة ماهية الحرية فعلياً. هكذا اصبح السؤال عن أساس جوهر الإنسان أمرا لا مفر منه. إنما نحو جذر وتجذر وجودنا الإنساني كما هو يقودنا السؤال الموجه بمضمونه الأساسي الخاص. نتساءل من خلال السؤال الأساسي عن فهم وجود الوجود، وهذا التساؤل عن السؤال الأساسي له في ذاته في نفس الوقت توجه متسائل نحو أساس إمكان الوحود الإنساني. يتساءل عن الإنسان في عمق جوهره، بمعنى أنه ينطوي في ذاته على إمكان دراسة لا تتناوله من الخارج، بل تصعد من عمق جوهره. أثبتنا أن عرض أفق مشكلة الحرية لم يكتمل إلا من خلال الخيط الهادي لتأويل الحرية الذي أظهره كانط. لكن من يقول لنا إن هذا التأويل، مهما كان أساسيا، هو التأويل الفلسفي المركزي؟ عند كانط، كما يؤكد شيلينج، ما تزال الحرية هي ما يجب أن يهيمن
على الحساسية، لكنها ليست كذلك فحسب، لأنها في هذا هي بالفعل استقلال ذاتي، صيانة نفسها على أساسها الخاص، وتحديد ذاتي باعتبارها تشريعا ذاتيا. إلا انه مع المفهوم الكانطي عن الحرية، فإن تحديد الجوهر الصوري لحرية الإنسان لم يكتمل بعد. ذلك أن كانط وضع هذه الحرية، بمعنى الاستقلال الذاتي، حصرا في العقل الخالص للإنسان.
لا يبقى العقل الخالص مختلفا عن الحساسية فحسب، بل يظل هو ما يختلف أيضا عنها جوهريا، ما يختلف عن "الطبيعة" كما هي مختلفة عنه تماما. أكثر من ذلك، من يقول لنا إن الحرية يجب أن تُفهم في المقام الأول في ارتباط بالسببية؟ بكل ذلك، اقتصرنا حتى الآن على تحصيل معرفة، وهو ما مكننا من أن نعلم في أي اتجاه ينبغي، على أي حال، أن يتحرك السؤال حول الحرية. ومع ذلك، ما قيل لنا أبدا ضمن ما قيل إن ذلك هو العرض الوحيد والضروري

للمشكلة. أدرك كانط حقيقة الجوهر العام للحرية باعتبارها استقلالا ذاتيا وتحديدا ذاتيا وفق قانون أساسي وصحيح، لكنه لم يتصور بعد الفعل الأصلي للحرية الإنسانية في وقائعيتها.
عندما نتساءل حقا عن ماهية الحرية، نجد أنفسنا أمام السؤال عن ماهية الموجود كما هو. السؤال عن ماهية الحرية الإنسانية يتم إدراجه على هذا النحو وبالضرورة في السؤال الذي يطلب تحديد ما يكونه الموجود كما هو على الوجه الصحيح. لهذا ينبغي الآن، في المنظور الهايدجري لمفهوم الحرية، أن نطرح صراحة السؤال عن الحرية الإنسانية. نحن نعرف السؤال بالصيغة الشائعة لـ "مشكلة حرية الإرادة" - مشكلة الإرادة الحرة. هنا نخوض النقاش في ما إذا كانت حرية الإنسان حرة أم غير حرة، وكيف يمكن الاستدلال على ذلك بطريقة مقنعة كفاية. تعتبر الحرية بالتالي خاصية للإنسان؛ لما يكون ومن يكون الإنسان، ما نعتقد في هذه الحالة أننا نعرفه بالفعل - الشك الوحيد الذي ينتابنا بشأن هذه الخاصية التي هي الحرية: معرفة ما إذا كانت تنتمي إليه كما تنتمي أيضا إلى ملكته الإرادية، أو ما إذا كان يجب إتكارها. الحرية عند هايدجر لا تُعطى كخاصية للإنسان، إنما بالعكس الإنسان هو بالأحرى ملك خاص للحرية. الحرية هي الماهية التي تحتوي الوجود الإنساني وتنقله من طرف إلى آخر؛ هي ما يجب أن يُعاد توجيه الإنسان إليه ليصبح إنسانا حقا. ذلك ما يعني أن جوهر الإنسان يقوم على الحرية.

وإذ نتعامل مع ماهية علاقة، لا نريد معاينتها أو إقامتها هنا وهناك على أساس أنها واقعة. وحتى لو كان الأمر كذلك، فيجب علينا أولاً أن نعرف ما هذا الذي يجب بعد ذلك معاينته. ولكن إذا نظرنا إلى علاقة في جوهرها، فهل يجب علينا أيضا، كما في حالة المعاينة، أن نلتزم بأعضاء هذه العلاقة؟ خلال التعامل مثلا مع جوهر "اللاهوية"، هل يجب علينا أن نلتزم بهذه الطاولة وبهذا المصباح؟، أو هل نعاين، بالإضافة إلى هذه الأخيرة، لاهويات أخرى (البيت والشجرة، المثلث والقمر، الخ..)؟ يمكننا ان نجيب كما هايدجر بلا. لإدراك جوهر اللاهوية، لا يهم أن نعرف على اي لاهوية محددة لأي لامتماثل محدد نبقي أعيننا ثابتة ونأخذها كنموذج. ومن ناحية أخرى، ما يزال يتعين علينا أن نبقى تحت النظر الأعضاء النسبية لأننا لا نستطيع تجاهل هذه. الأعضاء. هكذا، من خلال تحديد جوهر علاقة، لا نكون بالتأكيد مجبرين، كما في حالة معاينة علاقة محددة وفي متناول اليد بين موجودات-هنا-أمام محددة، على أن نلتزم بهذه الأعضاء النسبية المحددة، ولكن يجب علينا أن نأخذ في الاعتبار بدقة هذه الأعضاء النسبية كما هي، أي- أي كنسبية، في علاقتها ذاتها.
لا يهم ما إذا تم تشكيلها فعليا بهذه الطريقة أو تلك - هذا الاحتمال لمحتواها لا يعني أنه لا يبالي، في توضيح جوهر الوجود النسبي كما هو، بأن يأخذها بعين الاعتبار أم لا. لذلك لنحاول قدر الإمكان تطبيق ذلك على مشكلتنا. في السؤال عن ماهية الحرية الإنسانية - على الأقل طالما أننا نأخذها كأساس للمفهوم السلبي - نسائل استقلال الإنسان عن العالم وعن الله. لا نسعى إلى إثبات ما إذا كان هذا الإنسان أو ذاك مستقلاً عن هذا العالم أو ذاك، عن هذا الإله أو ذاك، ولكننا نسعى إلى جوهر استقلال الإنسان كما هو تجاه العالم والله كما هما.
إنما بالضبط عندما نريد إدراك جوهر هذه العلاقة، هذا الاستقلال، يجب علينا أن نسائل جوهر الإنسان وكذلك جوهر العالم والله. ما إذا وكيف يمكن إجراء مثل هذا المساؤلة ودعمها، يبقى ذلك رهينا بتوضيح لاحق. لنحتفظ ببساطة من التأملات المذكورة أعلاه، بما يلي: من الاستقلال كعلاقة سلبية، يبنبثق،إذا جاز التعبير، هذا الذي يكون تجاهه الاستقلال، ولكن لا يترتب على ذلك أن اعتبار جوهر الاستقلال يمكن أن ينبثق أيضًا من اعتبارهذا الذي يكون تجاهه الاستقلال ما يكون. بل على العكس تماماً: لأن الاستقلال تجاه كذا-وكذا.. علاقة، لأنه يعود إليها باعتبارها كذلك أن تكون مرتبطة بالعالم والله، ولهذا السبب على وجه التحديد يجب أيضا أن يؤخذ هذا ال "عن ماذا" يكون الاستقلال في الاعتبار، يدرج في الثيمة. باختصار، ما ينطبق على المحتوى الأساسي للعلاقة، ابتعاد، انفصال عن .. - لا ينطبق على الاعتبار الأساسي لهذه العلاقة نفسها التي سنقوم بتوضيحها لاحقا.

الميتافيزيقا، هذا المجال الفلسفي العميق الذي يتجاوز حدود التجربة الحسية والعقل المادي، تشكلت كرحلة مستمرة للإنسان في سعيه لفهم أعمق الأسئلة المتعلقة بالوجود، والكون، والجوهر، والمعنى. إنها الأرضية التي يقف عليها الفكر الفلسفي محاولًا اختراق حجاب الظواهر المحسوسة للوصول إلى أبعاد تتجاوزها، إلى العلل الأولى والحقائق النهائية التي تقبع في جوهر الواقع. ومنذ أن صاغها الإغريق بوصفها علمًا يبحث في ما هو "ما وراء الطبيعة"، أصبحت الميتافيزيقا الركيزة الأساسية التي انبثقت منها تأملات الفلاسفة حول الكينونة، والحقيقة، والمطلق.

في الوعي الفلسفي الأوروبي، كانت الميتافيزيقا دائمًا نقطة انطلاق وعودة، حيث خاضت الفلسفة الأوروبية حوارًا دائمًا مع هذا المفهوم، متأرجحة بين تمجيده ونقده، بين تطويعه وإعادة تعريفه. كان الوعي الأوروبي يرى في الميتافيزيقا مجالًا لاستكشاف الأسئلة التي لا يستطيع العلم الإجابة عليها، والأسس التي يقوم عليها العقل نفسه، مثل وجود الله، الطبيعة الجوهرية للعالم، وغاية الحياة.

بدأت الرحلة الميتافيزيقية مع الفلسفة اليونانية الكلاسيكية، حينما نظر أفلاطون إلى عالم المثل كجوهر أبدي يتجاوز التجربة الحسية، ورأى أرسطو أن دراسة "الوجود بوصفه وجودًا" هي مفتاح لفهم كل شيء. وفي العصور الوسطى، أعادت الفلسفة المسيحية صياغة الميتافيزيقا لتتفق مع العقيدة الدينية، معتمدين على إرث الفلاسفة الإغريق وشروح الفلاسفة المسلمين، الذين ساهموا بدور كبير في نقل وتطوير هذا التراث.

مع بداية العصر الحديث، شهدت الميتافيزيقا تحولًا جذريًا على يد ديكارت، الذي جعل العقل الإنساني مركزًا للمعرفة، وسبينوزا، الذي وحد بين الله والطبيعة، وكانط، الذي قلب الطاولة على الميتافيزيقا التقليدية بتركيزه على حدود الإدراك البشري. أما في العصر الحديث، فقد أصبحت الميتافيزيقا مسرحًا لتفاعلات معقدة بين الفلسفة القارية والتحليلية، وبين نقد الحداثة وما بعدها، حيث أعاد فلاسفة مثل هايدغر ودريدا النظر في أسس الميتافيزيقا التقليدية، محاولين تحرير الفكر من أنماطه الثابتة.