تقديم
          حينما يكون موضوع حديثنا عن فلسفة التاريخ، فإنه يكون بشكل أو بآخر مرتبطا بالحديث عن أعظم عقل في التاريخ، وهو نفسه صاحب كتاب "العقل في التاريخ" ونعني به "جورج وليام فرديريك هيغل" [1831-1770]، الذي نظر إلى التاريخ على نحو مختلف عن كل الأحداث التاريخية وأخبار الممالك والدول التي كانت في القرون الأولى والتي سجلات من لدن المؤرخين في سجلات التاريخ. إن النظرة الهيجيلية للتاريخ هي نظرة لتاريخ العالم نفسِه؛ أو بالأحرى هي نظرة للتاريخ من حيث هو مسار صراع الروح وهي في رحلتها لكي تصل إلى مرحلة الوعي بذاتها. وهذا يعني في حقيقته أن للتاريخ غاية يسعى إلى تحقيقها، وليس هذه الغاية إلا تحقيق الوعي الذاتي للروح الذي لاينفك بأي حال من الأحوال عن الحرية؛ فالروح حرية، والحرية هي ماهية الروح وحقيقته. تاريخ العالم إذن هو مسار تكافح فيه الروح لكي تصل الى وعيها بذاتها؛ أعني أن تكون حرة. فلفهم هذا المسار، والمنظور الهيغيلي للتاريخ، نجد أنفسنا أمام اشكالات تكون هي محور اشتغالنا في هذه الدراسة، وهي كالآتي: ما المقصود بالتاريخ حسب هيغل؟ ما هي غايته؟ وهل له أي اتجاه؟ من أين يبدأ وأين ينتهي؟   

 والآن، بعد أن حصرنا موضوع مقالنا في هذه الإشكالات، كان لابد من أن نضع خطة منهجة، ولذلك عملنا على تقسيم هذه الدراسة إلى فصلين ومبحثين لكل منهما، وذلك على النحو التالي:

  • الفصل الأول: هيغل وعصره.
  • المبحث الأول: هيغل حياته وبعض أهم أعماله.
  • المبحث الثاني: الثورة الفرنسية وآثارها على هيغل.
  • الفصل الثاني: التاريخ والحرية في فلسفة هيغل.
  • المبحث الأول: التاريخ غايته ومسار تقدمه.
  • المبحث الثاني: الدولة البروسية ونهاية التاريخ.
  • الفصل الأول: هيغل وعصره.
  • المبحث الأول: هيغل حياته وبعض أهم أعماله.
    • حياته:

     هو جورج ويليام فردريك هيجل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel)، ولد في ولايــة بادن فورتمبرغ الألمانية، في 27 أغسطس 1770، وكان الإبن الأكبر في أسرة متواضعة، حيث يعمل الأب كموظف صغير في الحكومة. وأظهر هيجل منذ سن مبكر ميلا قويا نحو دراسة التاريخ  والآداب اليوناني واللاتيني، ولما بلغ الثامنة عشر إلتحق بجامعة توبنغن، واختار التخصص في دراسة اللاهوت، لكنه كان مدفوعا بطموح أكبر يتجاوز هذا اللون من الدراسة إلى دراسة الطبيعة والفلسفة. لقد أعجب هيغل إلى حد كبير بأفكار جان جاك روسو، خصوصا تلك المتضمنة في كتابه ”العقد الإجتماعي“، كما انجذب إلى أفكار كانط وأفلاطون وغيرهم من الفلاسة الذين كان لهم الفضل في توجيهه الفلسفي.[2]

 بعض الفلاسفة واللغة
يقول نيتشة رغم مقولته الاستفزازية موت الاله ( اللغة من ابداع الله).
غاديمير (اللغة هي احد الالغاز العظيمة في التاريخ الانساني).
مارتن هيدجر( الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا)
 وليفريد سيلارز ( الوجود لغة)
جون سيرل ( الله لغة)
كاتب المقال ( تضليل العقل هي العاطفة وليس اللغة)
فلاسفة البنيوية (كل شيء نجده في اللغة ولا شيء خارجها)
اذا اخذنا عبارة نيتشة اللغة من ابداع الله فلا معنى تبريري يسوغ لنا تمرير العبارة سوى عبارة شيلر كل شيء ندركه نجده مجتمعا بالانسان. بمعنى موجودا باللغة. كخاصية نوعية تعريف المعنى الدلالي لله القادر على الخلق.

سبق لفيورباخ المعنى نفسه قوله: الانسان هو الاله الذي يصنعه من خامة الطبيعة ويؤمن به الها متعاليا يمثل كل شيء ويحتويه لذا اعتبره – اي الانسان -  معبودا خالقا غير مخلوق لا يدركه العقل.

اما اذا اردنا توضيح عبارة غادمير اللغة هي احد الالغاز العظيمة بالتاريخ الانساني فهي ترى اللغة هي تاريخ تطور الانسان انثروبولوجيا. وهذا التطور التاريخي الانثروبولوجي هو الذي قاد تطور اللغة في تخارج متبادل بين الاثنين. اللغة لم تصنع تاريخ الانسان الانثروبولوجي بل التاريخ يصنع اللغة في صيرورتها التطورية.

وهي لغة متمايزة خاصة بنوع من الانواع والاقوام البشرية ومن هنا نجد تعدد الاف اللغات واللهجات الخاصة بكل قوم او امة او شعب. وملازمة انثروبولوجيا التاريخ للغة هي ملازمة وجودية كمعطى تصنيعي من ظواهر الطبيعة وتجلياتها ولا يمكننا تصور علاقة انفكاك انفصالي بينهما. تاريخ انثروبولوجيا الانسان في ملازمة اللغة له كلاهما تصنيع ارادة الانسان في تغيير الحياة نحو الافضل باستمرار.

مقولة هيدجر الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا. العبارة خاطئة قبل خطا المعنى في التراتيبية الاسبقية فالانسان كائن عقلي قبل ان يكون كائنا لغويا واللغة نتاج تفكير العقل. هذه الاسبقية للعقل على اللغة هي ناتج الانسان كائن انثروبولوجي متطور على الدوام. فالعقل الانساني يسبق خاصية اللغة في حقيقتها انها تفكير تصنيعي للعقل. حيث ان العقل ماهية تمتلك خاصية نوعية انها فاهمة مفكرة لمعرفة الوجود والمعرفة واختراع اللغة.

ارى في عبارة سيلارز الوجود لغة تلخيصا فلسفيا عميقا مكتف المعنى. ومن الخطا الجسيم اضفاء الصفة المثاية عليها بل هي في عمق التعبير المنطقي الكامل. من حيث ان كل مدركات العقل المادية الواقعية منها او المتخيلة كموضوعات انما هي تعبير لغوي في حالتي النطق والكتابة او في حالة الصمت التفكيري الساكن.

(كل شيء غارق بالنسبة لنا في هوّة من الظلمات) باسكال

 باسكال الفيلسوف اللاهوتي المؤمن حتى نخاع العظم واضع نظرية الايمان بالله براجماتيا في حالتي وجود الله او نكران وجوده. ربما مرت على الكثيرين مقولته الفلسفية الذرائعية انك لو افترضت الله موجودا وتصرفت اخلاقيا وسلوكيا بضوء هذا الايمان ففي النهاية سوف لن تخسر شيئا. والعكس من ذلك انك لو وجدت ان لا اله موجود بالحياة الاخرى فايضا ستكون لست خاسرا شيئا لانك ربحت الحياة الدنيا على حساب لا وجود الخلود.

باسكال اراد خلق توافق وانسجام بين حقيقة لا معنى وجود الانسان وهو ما اخذت به الفلسفة الوجودية الغربية لاحقا والعديد من مدارس الادب في اللامعقول والعدمية والسريالية وغيرها. مع ربط باسكال الميتافيزيقي وجود الانسان الافتراضي بأن الحياة البشرية تدور فيما اطلق عليه نيتشة العود الابدي. ملخصه هو ان ما يحدث ويندثر استهلاكيا في حياتنا سوف ينبعث لاحقا مجددا في دورة وتكرار لا ينتهي ابدا.

 بضوء هذه الخلفية التي هي مختلفة التعبيرعنها لدى كل من لايبنتيز عالم الرياضيات الالماني والفيلسوف اللاهوتي الكبير. التي عّبر عنها باسكال في مقولته كل شيء غارق بالظلمات وهي نظرة فلسفية لا ادرية متشائمة تميل جدا الى ميتافيزيقا التفكير الفلسفي كما في الوجودية والعدمية.. باسكال من منطلق خلفية لاهوتية مؤمنة ليست نيتشوية عبّرعنها باسكال أن الحياة الفانية التي نعيشها لا بد أن تنبعث من جديد لاحقا بالخلود الابدي في الجنان السماوية..

العدمية الوجودية التي عبّر عنها باسكال في عدم قدرتنا ومحدودية تفكيرنا فهم الحياة بشمولية من المعنى الذي لا نجد الوضوح التام بكل شيئ مما ندركه او في كل شيء لا ندركه. باسكال انما كان متصالحا مع ذاته في فهمه الوجود بخلفية ايمانية لاهوتية مؤمنة بالله كما ذكرنا. هذه النزعة اللاهوتية عند باسكال لا تلبث ان تصطدم بجدار التدين البراجماتي عنده في ان للحياة معنى  وجديرة ان نعيشها.

 فولتير والاخلاق

 على خلاف من ديكارت نجد فولتير لا يؤمن بالخلود رغم تأرجحة المتناقض بين ايمانه بالعناية الالهية وبين التراجع عنها. فهو يعتبر الخلود لا فائدة منه في تاسيس الاخلاق. اراد فولتير بذلك القول ليس شرطا ان يكون الايمان بالله كفيل ان يمنحنا السلوك الاخلاقي السليم على صعيدي الفرد والمجتمع. وهي نظرة (اكسيولوجية)   قيمية اخلاقية صحيحة يؤيدها التطور الانثروبولوجي للاخلاق عند الانسان. فالنزوع الاخلاقي في حب الخير فطرة غريزية عند الانسان هي اسبق على معرفته الاخلاق في مرجعية وصايا الدين المكتسبة. فقد نجد ملحدا اليوم يحمل من قيم الفضيلة والاخلاق وتمسكه بالضميرالانساني النظيف لايجاريها فيه ولا نجدها عند رجال دين متزمتين يتاجرون بازدواجية الاخلاق في سلوكهم الزائف وليس في عامة الناس  العادييين.

تمهيد

جاستون باشلار 1884 – 1962 فيلسوف فرنسي، متوزع الاهتمامات الفلسفية، يعتبر من ابرز فلاسفة القرن العشرين في مبحث العقلانية العلمية، وكان في بداية مسيرته الفلسفية متاثرا بانشتاين منتقلا الى جانب مغاير تماما هو إهتمامه بنيتشة.

وإهتم بالمبدأ الفلسفي التقليدي في الظاهراتية (الفينامينالوجيا) لدى هوسرل بموضوعة الوعي القصدي الذي كان مصدر إجماع فلسفي وصل الى الفلاسفة الاميركان من بعد فلاسفة اوربا. ليتوجه باشلار بعدها دراسة الفن والجمال والشعر، وعمل استاذا بجامعة السوربون الفرنسية العريقة الشهيرة، مؤلفاته اغلبها مترجمة الى العربية، حيث اصدر كتابه العقل العلمي الجديد عام 1934، وكتابه الثاني العقلانية التطبيقية 1848، والثالث تكوين العقل العلمي 1938، وكتابه المادية العقلانية 1953 وهي المرحلة الاولى في تركيزه على فلسفة العلم. قبل إنتقاله  الاهتمام بفلسفة المكان والفن والشعر.

باشلار فيلسوف لا نستطيع القول عنه موسوعيا بالقياس الى غيره من فلاسفة القرن العشرين لعل ابرزهم هيجل بيرتراندراسل ولايبنتيز وهيوم وغيرهم، لكن لا يمكن غمط حقّه أنه متعدد الاهتمامات الفلسفية التي لاقت اقبالا متميزا.

باشلار لم يكن فيلسوفا يلفت الانتباه إلا في اواخر سني حياته. والمتتبع لفلسفة باشلار يجده يمزج تفكيره الفلسفي العلمي بنوع من المثالية التي تجعله شأنه  شأن العديد من الفلاسفة الذين وجدوا التمركز حول الذات ربما يكون الطريق الوحيد فلسفيا لادراك العالم ومعرفة حقائقه المعرفية العامة والعلمية المتخصصة معا.

الوعي القصدي وباشلار

مرتكز الوعي الذاتي القصدي رغم تشعب وجهات النظر الفلسفية حوله نجده أصبح قاسما مشتركا بين عديد من الفلاسفة منذ أشار برينتانو اليه ليتبناه هوسرل في الظاهراتية الفينامينالوجيا لياخذه هيدجر عنه، ومن بعده سارتر في تحفظ منفرد خاص به، لينتقل ويصبح مبحثا خصبا لدى الفلاسفة الاميركان مثل جون سيرل، وريتشارد رورتي، وسيلارز وسانتيانا وغيرهم. وسمات الوعي القصدي الفلسفي نعرض بعضها:

  • الوعي الذاتي وسيلة إدراك الوجود والعالم الخارجي بقصدية مسبقة. حيث الوعي القصدي لا يروم تحقيق ذاتيته بالمغايرة الوجودية مع غيره، وإنما الوعي القصدي هو أولا وأخيرا من أجل فهم العالم وليس من أجل إدراكه فقط. الوعي القصدي وعي معرفي وليس وعيا إدراكيا محايدا.
  • اقصاء وعي الذات من معادلة التوسيط بين الإدراك المعرفي للعالم وبين توكيد فاعلية الذات كوجود يثبت نفسه بالمغايرة، ما يخلق شرخا معرفيا غائرا في تفكير العقل فهم الوجود. الوعي خلاصة تفكير العقل بمعرفة الوجود.
  • الوعي الذاتي لا يكتفي بفهم العالم بمجردات الفكر، وإنما الذات تكون لها أهمية تجريبية علمية ربما تتجاوز، المحايدة العلمية الصارمة التي ترى أسبقية المعرفة العلمية تقوم على حيادية التجربة العلمية وليس على أهواء الذات الإدراكية. فما ينتج عن التجربة العلمية ربما لا يطابق الوعي القصدي المرجو سلفا تحقيقه بالتجربة.
  • ربما يكون جاستون باشلار متفردا فلسفيا إعتباره الذات المحضة في تعبير قريب من العقل المحض عند كانط، قوله " موضوع المعرفة مستقل عن التجربة، وكل معرفة محددة، أي ميتافيزيقا ". الذات دونما قصدية تسبقها تصل الى إدراك لا تحدّه الذات بل تحكمه نتائج التجربة".

تمهبد

يُعد كارل ماركس (1818-1883) أحد أكثر الشخصيات التاريخية تأثيرًا وإثارةً للجدل. كرّس معظم وقته لمحاولة فهم الآليات الداخلية للاقتصادات الرأسمالية. وكان أيضًا فيلسوفًا مهتمًا بعزل الأفراد في ظل الرأسمالية عن إمكاناتهم الاجتماعية والإبداعية. على نطاق أوسع، كان ماركس فيلسوفًا تاريخيًا، وضع نظريةً لتطور المجتمعات البشرية وتحولها بشكل عام - وهي نظرية تُعرف باسم المادية التاريخية. تقدّم هذه المقالة هذه النظرية مع البحث في تجلياتها التاريخية وتبحث في الاغتراب والتحرر السياسي والتغيير الاجتماعي. فكيف تساعد الفلسفة الماركسية الشعوب المقهورة والامم المضطهدة من التحرر من الاستعمار الصهيوامبريالي؟

١. ما هي المادية التاريخية؟

طُرحت أطروحاتٌ مختلفة لتفسير مسار التاريخ البشري: على سبيل المثال، أن التاريخ يتشكل أساسًا من خلال أفعال أفراد استثنائيين. أو أنه يُظهر تطوّر وعي الإنسانية بالحرية. أو أن الحضارات تنمو وتتلاشى كالكائنات الحية. أو أن التاريخ ليس له نمط، بل هو "مجرد حدثٍ مُلعونٍ تلو الآخر". يرى ماركس أن العامل الرئيسي المُحدد لشكل أي مجتمع وتطوره هو طريقة تفاعله مع بيئته المادية للحفاظ على وجوده - أي أسلوب إنتاجه. ويشمل ذلك قدراته التكنولوجية ("قوى الإنتاج") والبنية الاقتصادية ("علاقات الإنتاج") المُستخدمة لتسخير هذه القدرات. تشمل قوى الإنتاج وسائل الإنتاج (الأدوات والآلات والمواد الخام) وقوة عمل العمال (القوة والمهارة والمعرفة). علاقات الإنتاج هي علاقات اجتماعية للتحكم في قوى الإنتاج، سواءً وسائل الإنتاج أو قوة العمل. يعكس تقسيم المجتمع إلى طبقات اقتصادية التوزيع غير المتكافئ للسلطة على عملية الإنتاج والثروة المُنتجة. يقول ماركس: "إن نمط إنتاج الحياة المادية يُحدد عملية الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بشكل عام". وبشكل خاص، يُحدد الهيكل الاقتصادي ("القاعدة") للمجتمع طبيعة "بنيته الفوقية" من المؤسسات القانونية والسياسية والأيديولوجية السائدة. يجادل ماركس بأنه مع مرور الوقت، تُعيق ("تُقيّد") القدرات التكنولوجية المتنامية للمجتمع ببنيته الاقتصادية الثابتة نسبيًا. ويؤدي هذا الخلل المتزايد في النهاية إلى ثورة: إذ يُستبدل الهيكل الاقتصادي للسماح بمزيد من النمو التكنولوجي، وتخضع المؤسسات السياسية والقانونية للمجتمع وأيديولوجيته لتغيير مُقابل. على سبيل المثال، عندما أصبحت الاقتصادات الإقطاعية القائمة على الأراضي في العصور الوسطى الأوروبية عائقًا أمام نمو القوى الإنتاجية للمجتمع، حلت محلها الاقتصادات الرأسمالية القائمة على المنافسة السوقية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتوظيف العمال المأجورين. ترسخت هذه الاقتصادات بفعل الهيمنة السياسية للطبقة الرأسمالية، وهيمنة أيديولوجية الفردانية الاستحواذية.

2. الحتمية التكنولوجية؟

ما الذي يُحرك التغيير التاريخي في نهاية المطاف؟ ترى إحدى المدارس الفكرية أن نظرية ماركس شكلٌ من أشكال الحتمية التكنولوجية "حيث التاريخ، في جوهره، هو نمو القوة الإنتاجية البشرية، وأن أشكال المجتمع تزدهر وتنهار وفقًا لما تُمكّنه أو تُعيق هذا النمو". أما آخرون، وإن لم يُنكروا أن التكنولوجيا قد تُمهّد الطريق للتغيير التاريخي، فهم يُصرّون على أن ماركس يُسند الدور الرئيسي للصراعات بين الطبقات الاقتصادية المختلفة. في البيان الشيوعي، يُعلن ماركس وزميله فريدريك إنجلز (1820-1895): "إن تاريخ أي مجتمع قائم حتى الآن هو تاريخ صراعات طبقية".

3. الرأسمالية

تشمل نظرية ماركس العامة للتاريخ المجتمعات من جميع الأنواع، ولكل نوع سمات فريدة. نمط الإنتاج الرأسمالي هو نظامٌ يتوسع ذاتيًا وغير مستقر، يتميز بدورة "ازدهار وكساد". لقد أعطت المنافسة السوقية زخمًا غير مسبوق لتطور التكنولوجيا، بينما قوّضت الروابط والقيم الاجتماعية التقليدية، وركزت رأس المال في أيدي قلة قليلة تسيطر على وسائل الإنتاج. لكنها في الوقت نفسه ولّدت طبقة عاملة تزداد تكاملًا، وتدرك قوتها الكامنة من خلال تطور النظام الذي يستغلها. في البداية، اعتقد ماركس وإنجلز أن النضال لإسقاط الطبقات الرأسمالية الحاكمة يتطلب العنف؛ ولكن بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، أصبحا يعتقدان أنه في بعض البلدان ذات المؤسسات البرلمانية، يمكن للطبقة العاملة الفوز بالسلطة بالوسائل السلمية. سيسمح الانتقال من الرأسمالية بتحقيق مجتمع ديمقراطي حقيقي بلا طبقات ("الشيوعية")، مما يضع حدًا لتاريخ الصراعات الطبقية. لقد أثبتت الرأسمالية أنها أكثر مرونة بكثير مما توقعه ماركس. ومع ذلك، فإن إضافة الأزمات البيئية إلى التحديات التقليدية للرأسمالية تُنذر بعاصفة عاتية، يعتقد الكثيرون أن النظام سيواجه صعوبة في الصمود في شكله الحالي. فهل النظرية متماسكة؟

يرى بعض النقاد أن نظرية ماركس في التاريخ إما خاطئة أو سطحية. فإذا كانت ترى أن "البنية الفوقية" القانونية والسياسية للمجتمع ليست سوى نتيجة لنمط الإنتاج، فهي خاطئة بوضوح لأن السياسة والقانون والأيديولوجيا تؤثر تأثيرًا عميقًا على هذا النمط. على سبيل المثال، لا يمكن للاقتصاد الرأسمالي أن يستمر يومًا واحدًا بدون القوانين والنظام القضائي الذي يحمي الملكية الخاصة ويدعم الأسواق، ويُمكّن التجارة، ويضمن الأمن، إلخ. من ناحية أخرى، إذا فُسِّرت نظرية ماركس على أنها تعني أن كل جانب من جوانب النظام الاجتماعي يؤثر على كل جانب آخر، فهي صحيحة ولكنها سطحية. سعى المدافعون عن ماركس، بدءًا من إنجلز، إلى إيجاد سبل للتوفيق بين فكرة الأسبقية التفسيرية لنمط الإنتاج وحقيقة التأثير المتبادل. وتتضمن أعمال الباحثين في العقود الأخيرة محاولاتٍ مبهرة لإثبات إمكانية تفسير النظرية بطريقة متماسكة وغير سطحية.

- مفهوم كارل ماركس للاغتراب

يتميز فكر كارل ماركس بشموليته وتأثيره الكبير، لا سيما في الفلسفة وعلم الاجتماع. يشتهر ماركس بنقده اللاذع للرأسمالية. يؤكد نقده الرئيسي الأول أن الرأسمالية تُغري الناس في جوهرها. أما نقده الرئيسي الثاني، فيؤكد أن الرأسمالية استغلالية في جوهرها. يركز هذا المقال تحديدًا على نظرية ماركس في الاغتراب، والتي ترتكز على ادعاءات ماركس المحددة حول كل من الاقتصاد والطبيعة البشرية.

١. تحليل ماركس للرأسمالية

يعتبر ماركس مفهوم وسائل الإنتاج مفهومًا اقتصاديًا بالغ الأهمية. تشمل وسائل الإنتاج كل ما يلزم تقريبًا لإنتاج السلع، بما في ذلك الموارد الطبيعية والمصانع والآلات. في الاقتصاد الرأسمالي، على عكس الاقتصاد الشيوعي أو الاشتراكي، تكون وسائل الإنتاج مملوكة ملكية خاصة، كما هو الحال عندما يمتلك رجل أعمال مصنعًا. ان العنصر الأساسي الذي لا يُدرج ضمن وسائل الإنتاج هو العمل. ونتيجةً لذلك، يجد أعضاء الاقتصاد الرأسمالي أنفسهم منقسمين إلى طبقتين متمايزتين: أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج (الطبقة الرأسمالية أو البرجوازية) وأولئك الذين لا يملكونها (البروليتاريا).

٢. مفهوم ماركس للوجود النوعي

يرى ماركس أن كون الرأسمالية وتقسيمها الطبقي نظامًا مناسبًا للبشر يعتمد على الطبيعة البشرية.لأن البشر كائنات بيولوجية، وليسوا مجرد عقول غير مادية عائمة، علينا التفاعل مع العالم الطبيعي وتحويله من أجل البقاء. لكن ما يميزنا عن جميع الحيوانات الأخرى، كالنحل والعناكب والقنادس، والتي تُغير العالم غريزيًا، هو أننا نُغيره بوعي وحرية. وهكذا، فإن جوهر الإنسان - ما يُسميه ماركس كينونتنا النوعية - هو تحويل العالم بوعي وحرية لتلبية احتياجاتنا. ومثل العديد من الفلاسفة الآخرين، يعتقد ماركس أن القيام بما يُميزنا كبشر على أكمل وجه هو المصدر الحقيقي للإنجاز.

3. الاغتراب في المجتمع الرأسمالي

يمكننا الآن توضيح ادعاء ماركس بأن الرأسمالية تُغريب. الفكرة العامة للاغتراب بسيطة: يصبح الشيء مُغتربًا عندما يبدو ما هو (أو ينبغي أن يكون) مألوفًا ومتصلًا غريبًا أو منفصلًا. ولأن كينونتنا النوعية هي جوهرنا كبشر، فيجب أن يكون شيئًا مألوفًا. بقدر ما نعجز عن التصرف وفقًا لطبيعة جنسنا، نصبح منفصلين عن طبيعتنا. فإذا كان العمل في المجتمع الرأسمالي يعيق تحقيق طبيعة جنسنا، فإن العمل يُسبب لنا الاغتراب. وبما أننا نُعزل عن طبيعتنا، فإن الاغتراب ليس مجرد شعور ذاتي، بل يتعلق بواقع موضوعي. فكيف يُعزل العمال عن طبيعة جنسهم في ظل الرأسمالية؟

يُميز ماركس بين ثلاث طرق محددة.

أ. يُعزل العمال عن غيرهم من البشر. في الاقتصاد الرأسمالي، يتنافس العمال فيما بينهم على الوظائف والزيادات. ولكن كما تُخفض المنافسة بين الشركات أسعار السلع، تُخفض المنافسة بين العمال الأجور. وبالتالي، ليست البروليتاريا هي المستفيدة من هذه المنافسة، بل الرأسماليون. وهذا لا يُلحق ضررًا ماديًا بالعمال فحسب، بل يُبعدهم عن بعضهم البعض. البشر كائنات حرة، ويمكنهم التعاون من أجل تغيير العالم بطرق أكثر تطورًا وفائدة. لذا، ينبغي أن ينظر العمال إلى بعضهم البعض كحلفاء، لا سيما في مواجهة طبقة رأسمالية تسعى إلى تقويض تضامن العمال لمصلحتها الخاصة. لكن في ظل الرأسمالية، ينظر العمال إلى بعضهم البعض كمنافسين متعارضين.

ب. يُعزل العمال عن منتجات عملهم. لا يحتاج الرأسماليون إلى القيام بأي عمل بأنفسهم - فبمجرد امتلاكهم لوسائل الإنتاج، يسيطرون على ربح الشركة التي يملكونها، ويثرون من ذلك. لكن لا يمكنهم تحقيق الربح إلا من خلال بيع السلع، التي ينتجها العمال بالكامل. وهكذا، فإن منتجات عمل العامل تُعزز الرأسماليين، الذين تتعارض مصالحهم مع مصالح البروليتاريا. يفعل العمال هذا كعمال، ولكن أيضًا كمستهلكين: كلما اشترى العمال سلعًا من الرأسماليين، فإن ذلك يُعزز أيضًا موقف الرأسماليين. وهذا يتعارض مرة أخرى مع وجود العمال كنوع. ينتج البشر استجابةً لاحتياجاتنا؛ ولكن بالنسبة للبروليتاريا على الأقل، فإن تقوية الطبقة الرأسمالية ليست بالتأكيد إحدى تلك الاحتياجات.

ج. يُعزل العمال عن فعل العمل. لأن الرأسماليين يمتلكون الشركات التي توظف العمال، فإنهم، لا العمال، هم من يقررون ماهية السلع التي تُصنع، وكيفية صنعها، وظروف عملها. ونتيجةً لذلك، غالبًا ما يكون العمل مُملًا ومتكررًا، بل وخطيرًا. قد يكون هذا العمل مناسبًا للآلات، أو للكائنات التي لا تملك القدرة على تحديد طريقة عملها بوعي وبحرية، ولكنه غير مناسب للبشر. إن تحمل هذا العمل لفترة طويلة يعني أن المرء لا يمكنه البحث عن الرضا إلا خارج نطاق عمله؛ بينما "نشاط العمل، الذي يُمثل مصدرًا محتملًا لتعريف الإنسان لذاته وحريته، قد تدهور إلى ضرورة للبقاء على قيد الحياة". وكما يقول ماركس في فقرة شهيرة: لذا، في عمله، لا يُؤكد العامل نفسه بل ينكرها، لا يشعر بالرضا بل بالتعاسة، لا يُنمّي طاقته الجسدية والعقلية بحرية، بل يُميت جسده ويُدمر عقله. لذلك، لا يشعر العامل بنفسه إلا خارج العمل، وفي عمله يشعر بأنه خارج ذاته. يشعر بأنه في بيته عندما لا يعمل، وعندما يعمل لا يكون في بيته." إذا كان ماركس مُحقًا في كل هذا، فإن الشكاوى المعاصرة من الطبيعة المُهينة للعمل ليست مُبالغة. بقدر ما تمنعنا الرأسمالية من تحقيق كينونتنا كنوع، فهي، حرفيًا، مُجرّدة من الإنسانية.

--- حول شعار كارل ماركس "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته"

يُعدّ شعار "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته" أحد الأوصاف القليلة الصريحة للشيوعية التي طرحها الفيلسوف الألماني كارل ماركس. يتصور ماركس الشيوعية كنظام اقتصادي يُدير فيه العمال أنفسهم بحرية إنتاج وتوزيع السلع والخدمات. نتناول هنا أصول هذا الشعار ومعناه.

١. التوزيع في ظل الرأسمالية

في المجتمع الرأسمالي، تُوزّع السلع والخدمات من خلال الأفراد والشركات التجارية في سوق تنافسية. نظريًا، تضمن المنافسة عدم امتلاك أيٍّ من الطرفين قوة تفاوضية غير عادلة، كما تسمح الحرية الاقتصادية لكلا الطرفين بالحصول على ما يحتاجانه من خلال التبادل. يجادل الاشتراكيون بأن قوة التفاوض المتساوية مجرد وهم، إذ يُعطي هذا النظام في الواقع امتيازات لمن يملكون وسائل الإنتاج، أو رأس المال: المصانع والأراضي وغيرها من الأشياء التي يستخدمها العمل لإنتاج السلع. عمليًا، يُبرّر هذا النظام استغلال العمال الذين يُحوّلون بشكل متزايد إلى مجرد "تروس" في آلة الربح الرأسمالية.

٢. منتقدو الرأسمالية

طرح الاشتراكي الطوباوي الفرنسي هنري دي سان سيمون (١٧٦٠-١٨٢٥) بديلًا للرأسمالية يتمحور حول قيادة الخبراء لتخطيط الاقتصاد لتلبية احتياجات الجميع. دعا أتباع سان سيمون إلى مبدأ العدالة التوزيعية - أو توزيع السلع والخدمات - الذي ألهم ماركس: "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب عمله". أي أنه ينبغي على كل فرد أن يُسهم في خدمة المجتمع بأفضل ما لديه من قدرات، وألا يعمل أكثر مما يُناسب صحته العقلية والجسدية والاجتماعية. مع ذلك، يجب أن يُبنى التعويض عن هذا العمل على الجهد المبذول، وليس على أسعار السوق. قام الاشتراكي الفرنسي لويس بلان (1811-1882) بتعديل الشعار ليصبح: "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته". وكما هو الحال مع شعار سان سيمون، يتمتع الجميع بحرية السعي وراء مواهبهم وإثراء أنفسهم. لكن عبارة "لكلٍّ حسب حاجته" تعني أن التوزيع سيعكس احتياجات الفرد، وليس مدى اجتهاده في العمل.

٣. التأثير على ماركس

استشهد ماركس بشعاري بلانك وسان سيمون في كتابه "نقد برنامج غوتا"، وهو نقدٌ لبرنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني عام ١٨٧٥. ورغم تأثر البرنامج بأفكار ماركس، إلا أنه انحرف عن تفكيره في جوانب مهمة: إذ ركّز خطأً على التوزيع العادل للسلع والخدمات فقط، دون كيفية إنتاجها. لا ينبغي للعمال أن يحصلوا على تعويضات أفضل فحسب، بل ينبغي أن يمتلكوا وسائل الإنتاج ويتحكموا بها بأنفسهم، لمصلحة البشرية. وبتأكيده على إنتاج السلع، أخذ ماركس على محمل الجدّ جانب الشعار الذي شاركه فيه سان سيمون وبلان، والذي يُركّز على الإنتاج. واعتقد ماركس أن كل شعار سيجد مكانه في رؤيته للمجتمع الاشتراكي.

٤. المرحلة الدنيا من الشيوعية عند ماركس

يقترح ماركس مرحلتين للشيوعية. جادل بأن هاتين المرحلتين ستنشأن حتمًا نتيجةً للأزمات الاقتصادية في الرأسمالية وتنامي الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة. تُنظّم المرحلة الأولى، كما في شعار سان سيمون، حيث يتقاضى العمال أجورًا تتناسب مع طول العمل وصعوبته. تبدو هذه المرحلة مساواتية ظاهريًا، إذ تُمنح أجور متساوية لجهد متساوٍ. لكن ماركس يُشير إلى خلل في صياغة سان سيمون، نظرًا لاختلاف احتياجات الناس :هذا الحق المتساوي هو حق غير متساوٍ لعمل غير متساوٍ. فهو لا يعترف بأي فروق طبقية، لأن كل فرد عاملٌ كغيره؛ ولكنه يعترف ضمنيًا بعدم تكافؤ المواهب الفردية، وبالتالي القدرة الإنتاجية، كميزة طبيعية. لذا، فهو حقٌّ في عدم المساواة، في مضمونه... كما يجادل ماركس بأن هذه "المساواة" الظاهرية تُخفي فرديتنا بطريقة غير مساواتية في جوهرها. الأم لديها فمان لإطعامهما، وقد لا يتمكن الشخص ذو الإعاقة من العمل لفترة طويلة، وهكذا، لذا فإن الأجر المتساوي مقابل الجهد المتساوي سيظل غير متكافئ.

5. المرحلة العليا من الشيوعية

في المرحلة الثانية من الشيوعية، يُنظّم المجتمع وفقًا لمبدأ بلانك: "من كل حسب قدرته، ولكل حسب احتياجاته!". تُحقق هذه المرحلة المساواة الكاملة حيث تُلبى احتياجات الجميع ويمكنهم تطوير مواهبهم بحرية. كما يعمل الناس وفقًا لقدراتهم: فالعمل ليس ضروريًا فقط لاستدامة المجتمع، بل هو جزء مما يجعلنا بشرًا. وبفضل زيادة الإنتاجية وتنظيم العمل وفقًا لأهداف العمال، يمكن تلبية الاحتياجات دون أيام عمل شاقة. وهذا يتيح أيضًا وقت فراغ لتطوير أنفسهم واحتياجاتهم التي تتجاوز مجرد البقاء على قيد الحياة - مثل الرغبة في الموسيقى والفن والفلسفة والعلوم وما إلى ذلك. كما يُعوّض الناس وفقًا لاحتياجاتهم: فالتعويض لا يعتمد على الجهد، بل على ما هو مطلوب منهم للازدهار. يتطلب هذا التغلب على التحيزات حول المهن الأكثر قيمة؛ يجب على المجتمع أن يتغلب على هرمية العمل الذهني على العمل البدني وجميع التسلسلات الهرمية المماثلة الأخرى ضمن تقسيم العمل. قد يقلق البعض بشأن استعداد الناس للعمل فقط من أجل إعادة توزيع ثمار عملهم على أولئك الذين لم يبذلوا جهدًا كبيرًا. يقول ماركس إن الناس سيتحملون طواعيةً بعض المسؤولية الاجتماعية، بالطريقة التي نتشارك بها الأعمال المنزلية والبستنة ورعاية الأطفال. قد يبدو هذا ساذجًا، ولم يحدد ماركس ما إذا كان سيتم فرضه أو تشجيعه أو كيفية تطبيقه. ولكن في النهاية سيعمل الناس طواعيةً لأن العمل هو مصدر تحقيق الذات. اعتقد ماركس أن الطبيعة البشرية تجد أعظم تحقيق لها في العمل الاجتماعي، لكن الرأسمالية حوّلت العمل إلى عبء. وذلك لأن العمل في ظل الرأسمالية منظم حول أهداف الربح، وليس احتياجات العمال أو البشرية بشكل عام. عندما نفخر بتسخير قدراتنا لتلبية احتياجات الناس، يصبح العمل رغبةً من رغباتنا بدلًا من أن يكون مجرد وسيلة للبقاء.

خاتمة

تزعم نظرية ماركس للتاريخ تحديد سمات هيكلية وتنموية مشتركة بين جميع المجتمعات البشرية، تنبع من حاجتها إلى توظيف قدراتها التكنولوجية لانتزاع لقمة العيش من بيئاتها المادية. وبينما ترفض هذه النظرية فكرة أن مسار التاريخ مُحدد مسبقًا، فإنها ترى تطورًا طويل الأمد للأشكال المجتمعية نحو زيادة القدرة التكنولوجية على التحكم في هذا "التفاعل" مع الطبيعة. مهما كانت مزايا تنبؤات ماركس حول الرأسمالية، فإن المادية التاريخية، كنظرية أعم للتاريخ، لا يمكنها أن تتنبأ بمستقبل ما بعد الرأسمالية بأي قدر من اليقين - مع أنها قد تُساعد في فهم كيف وصلنا، على مدار التاريخ الطويل، إلى ما نحن عليه الآن.

قد يجد المرء إلهامًا كبيرًا في فكرة أن الرضا الحقيقي يمكن أن يأتي من العمل الإبداعي والهادف. ومع ذلك، فإن تجربة معظم الناس الفعلية في العمل في الاقتصادات الرأسمالية تتميز بالملل واللامبالاة والإرهاق. وتقدم نظرية ماركس في الاغتراب إطارًا مفاهيميًا لفهم طبيعة هذه التجارب وأسبابها، وتؤكد لنا أن هذه التجارب الذاتية تتعلق بواقع موضوعي - والأهم من ذلك، واقع يمكننا تغييره. يُعدّ شعار ماركس "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته" مبدأً من مبادئ التنظيم الاجتماعي، حيث يكون العمل بناءً ومرغوبًا فيه، ونعتبر فيه احتياجات الآخرين احتياجاتنا. وبالتالي، رأى ماركس أن هذا مجتمعٌ مُحرَّرٌ من الاستغلال، واللاإنسانية، والهيمنة. فهل تكفي القوة الاجتماعية للعمال لإحداث التغيير الاجتماعي الأممي؟

كاتب فلسفي

 

تمهيد
ساهم يورغن هابرماس، من مواليد 18 يونيو 1929 في دوسلدورف، من بين جيل الشباب من الفلاسفة الألمان، بطريقة مبتكرة في تجديد التفكير النقدي. وقد فتح نفوذها الحالي، المهيمن في ألمانيا، نقاشا دوليا واسعا. تغذى على قراءات كانط وهيجل وماركس، التي شكلتها أفكار هوركهايمر وأدورنو وماركوز، ولا يدين بشهرته فقط لإقامته في فرانكفورت (كان مساعدًا في معهد البحوث الاجتماعية من 1955 إلى 1959، وأستاذًا للفلسفة وعلم الاجتماع من 1964 إلى 1971، بعد أن بدأ مسيرته التعليمية في هايدلبرغ في عام 1961). في الواقع، وبفضل تدخلاته النقدية في العلوم الإنسانية الرئيسية، لم يكتف هابرماس بالتشكيك في الروح الوضعية والوعي التكنوقراطي الذي يهيمن عليها، ولكنه أيضًا أثرى فكره بشكل كبير. وبهذه الطريقة وضع "النظرية النقدية" لمدرسة فرانكفورت على مستوى آخر، مواجهًا تحديًا مزدوجًا: عدم التخلي عن الإلهام الماركسي أثناء ممارسة التحريفية المؤكدة؛ وهي تحرير النظرية النقدية من دينها المعرفي مع الاحتفاظ ببعدها التحرري. يعارض هابرماس تفكير أدورنو السلبي حصريًا من خلال التخلي اليوم عن النقد لصالح العمل البناء والمنهجي. لكنه أقرب إلى هوركهايمر وأدورنو إلى الحد الذي تناول فيه بدوره المشكلة التي ميزت النظرية النقدية لمدة أربعين عاما والتي تصل إلى حد التساؤل عن كيفية توضيح العلاقة بين النظرية والممارسة مع الأخذ في الاعتبار الحقائق الجديدة للرأسمالية المتقدمة. وقد خصص سلسلة من الدراسات لهذا السؤال: النظرية والتطبيق ( 1963)، حيث ينتقد، في الفلسفة الاجتماعية كما تطورت منذ هوبز، إلغاء بُعد التطبيق العملي (بالمعنى الأرسطي) لصالح التفكير التكنولوجي. علاوة على ذلك، يمكننا أن نعتبر عمله بأكمله بمثابة انعكاس لهذه المشكلة، وذلك في ثلاثة جوانب مختلفة. أولاً، يتم فحص "الجانب التجريبي" للعلاقات بين السياسة والعلم والرأي العام في الرأسمالية المتقدمة: 1968 (التكنولوجيا والعلم كأيديولوجية). ثم يتم تحليل "الجانب المعرفي" للروابط الموجودة بين المعرفة والمصالح المهيمنة: "المعرفة والمصلحة" ( 1968)، وهو عمل تاريخي ومنهجي في نفس الوقت، يطور البرنامج المعرفي للفيلسوف. وأخيرا، يتم تناول "الجانب المنهجي للنظرية الاجتماعية الذي يجب أن يكون قادرا على القيام بدور النقدي". يعتبر هابرماس عمله بأكمله، غنيًا جدًا بالفعل، على أنه يتكون فقط من سلسلة من المقدمات وأعماله العديدة التي تشير إلى العديد من المراحل الأولية لنظرية الفعل التواصلي ( 1989). ويستمر هذا التفكير في كتابي "الأخلاق والتواصل" (1983) وفي "أخلاقيات المناقشة" (1991). كان في البداية قريبًا من قادة الحركة الطلابية، واعتبر أحد مرشديهم، وأصبح منذ عام 1967 خصمًا سياسيًا لهم من خلال الدعوة إلى "الإصلاحية الراديكالية" ( 1969). وبشكل ملموس، فهو يناضل من أجل إعادة تأسيس الرأي العام الديمقراطي والنقدي. وبعد تعرضه للانتقادات بدوره، غادر فرانكفورت في عام 1971، وقبل منصب مدير معهد ماكس بلانك في شتارنبرغ في بافاريا. ثم عاد إلى الجامعة الألمانية في فرانكفورت عام 1983. فماهو تقييمه للاتصال التقني المعاصر؟ كيف عمل في مشروعه العقلاني الكوني على نقده؟ وماهي شروط امكان التواصل الانساني في عصر التقدم التكنولوجي المتسارع؟

تمهيد
" إن الدين يحرر الإنسانية حقا لأنه يحرر الإنسان من الشبهات التي قد تسممه إذا تذكر الأزمة كما حدثت بالفعل"
تم تعريف عمل رينيه جيرار (1923 - 2015) من قبل ناشره بأنه "مقال جريء ومؤثر"، ومن المرجح أن يتم التعامل معه، بعبارات أقل رضا عن الذات، باعتباره طموحًا مفرطًا، لأنه يعلن عن مشروع "إعطاء الدين أصلًا حقيقيًا" وبالتالي إظهار "وحدة جميع الطقوس". مشروع، في هذه المرحلة من الثقافة الأنثروبولوجية، لن يكون له من حيث المبدأ أي شيء غير عملي، لو كانت الجرأة الفكرية للمؤلف متناسبة مع الطموح الذي يعبر عنه. ومع ذلك، على الرغم من مظهره القتالي والمتمرد عن طيب خاطر، لم يجد جيرار الشجاعة الأولية لرفض الأساليب القديمة للأنثروبولوجيا التي يدينها مع ذلك، وصياغة الأدوات المناسبة لإنجاز المهمة، في الحقيقة النبيلة جدًا، التي كلفه بها. وفي الوقت الذي كانت فيه الوظيفية موضع تساؤل في بلده الأصلي من قبل أولئك الذين كانوا يطالبون بها حتى الآن، أسس جيرار نظريته، التي دافع عنها بحماسة غير عادية، على البديهية القائلة بأن مؤسسات الشعوب البدائية هي جميعها آليات تهدف إلى الحفاظ على التوازن والحفاظ على الوضع الراهن. إنه من علم الأعراق المستوحى من "التمني" للمسؤولين الاستعماريين الذين يطاردهم الخوف من رؤية النظام معطلاً، وهو يستمد مفهومه للتضحية كعمل يهدف إلى استعادة الانسجام في المجتمع وتعزيز الوحدة الاجتماعية. يكتب: "كل شيء آخر يتدفق من هناك". بالفعل إن الاستجابة الوظيفية للمشكلة الثقافية التي تطرحها التضحية تترك بالضرورة في الغموض محتوى الفكر الذي يؤسس لتضحية المبعوث وكذلك أي طقس آخر. فماذا سيحدث بعد ذلك لرغبة المؤلف في التفسير؟ بين التضحية التي يُنظر إليها كرد فعل تلقائي على العنف، والعنف الأكثر عمومية الذي يتخذ أي شكل من الأشكال، إلى حد التماهي مع المقدس، فإن خصوصية السياق الثقافي هي التي تضيع، على الرغم من التصريحات المتكررة حول خصوصية الثقافي. ومن ثم فإن هناك فجوة بين الأهداف التي يضعها المؤلف لنفسه والوسائل التي منحها لنفسه. على خلاف منذ البداية - لأنه هل يمكننا أن نهدف إلى مشروع مادي دون الاحتراز من الوقوع في المثالية النموذجية؟ ويجب عليه أن يعوض باستمرار عن أوجه القصور المفاهيمية بحجج تهدف إلى تعزيز فرضية العنف المؤسسي والضحية الهاربة، وباللجوء إلى زخارف جديدة تكون بمثابة أمثلة توضيحية. من هناك، وتيرة الكتاب المتهورة، ولكن المتسرعة، ووفرته، وتألقه، مما يجعل القراءة آسرة دائمًا ولكنها مخيبة للآمال دائمًا. هذا هو نفس نوع "التأمل غير الواقعي" الذي استنكره المؤلف منذ صفحاته الأولى، وهو تأمل "غير واقعي" في المشكلات التي اختار دراستها والتي لا يمكن أن تقوم إلا على تعميق الحقائق القربانية البدئية. ومع ذلك، وعلى الرغم من كثرة الأمثلة على ذلك العرق. كان من الممكن أن يعرض عليه ذلك، فدراستهم تكاد تكون معدومة؛ ومن بين الحالات الكلاسيكية أو العبرية القليلة المذكورة، فإن بعضها يعتبر "تضحيات" فقط من خلال إضافاته، مثل حيل يعقوب وأوليسيس. هذه اللامبالاة تجاه علم الأعراق ليست نتيجة للصدفة، أو الإهمال الشخصي. إنه مرتبط بحالة الأزمة في هذا التخصص، وهي الحالة التي يأسف جيرار، مثل كثيرين آخرين، لآثارها بينما يساعد في إدامة أسبابها. ويرجع ذلك إلى مختلف المنهجيات السائدة، رغم أنها في حالة تراجع، والتي تشترك في أنها تشكل الكثير من الهروب من التناقض الزمني، أي خارج الواقع، وبالتالي تمنع المرء من وضع نفسه داخل محور التفسير. ومهما كانت اعتبارات المؤلف بشأن المأساة اليونانية مثيرة للاهتمام، فإنها لا تعوض عن اللامبالاة بالحقائق التي سبقت ظهورها في التاريخ. إن التأكيد على أن “المأساة توفر طريقًا مميزًا للوصول إلى المشكلات الكبرى للإثنولوجيا الدينية" لا يجد محتوى الحقيقة إلا عندما يتم عكسه: " إن الطريق المميز للوصول إلى فهم المآسي اليونانية يمر عبر حل المشكلات الكبرى للإثنولوجيا الدينية".فالعنف هو القمع المستمر لمجتمعنا، في حين أن كل مجتمع يتأثر بقوة عنف داخلية". لكن ماذا يقول رينيه جيرار في «العنف والمقدس»؟

لاضير، ونحن نتطلع إلى عرض محتوى كتاب "فينومينولوجيا الروح"، من أن نتبنى القراءة التي قام بها كريستوف بوتون وإيمانويل رينو لنفس الكتاب. أشار هذان الأستاذان عند قراءة الفصل الأول بعنوان "تجربة الوعي" إلى أنه سعى إلى عدة أهداف، لا يمكن إدراكها كلها عند قراءة المقدمة، وفسرا ذلك، على وجه الخصوص، من خلال حقيقة أن المقدمة تهدف إلى توفير الإطار المنهجي لما سيتحول إلى تحقيق فلسفي في الأشكال المختلفة للمعرفة كما يتم بناؤها واختبارها بواسطة الوعي. يبدأ هيجل بطرح مشكلة المطالبات المتساوية بصحة جميع أشكال المعرفة، من خلال العودة إلى المشروع الكانطي لنقد المعرفة الذي يؤكد محدوديتها غير القابلة للاختزال، ودحضه من قبل شيلينج الذي يفترض الوصول المباشر إلى المطلق. ثم يقدم منهج "فينومينولوجيا الروح" باعتباره الطريقة الوحيدة لحل هذه المشكلة وتحقيقا لهذه الغاية يقدم مفاهيم الوعي وصورة الوعي وتجربة الوعي (الفقرات 9-17).
مشكلة فحص الادعاءات بصحة المعرفة (الفقرة 1-8)
تبدأ المقدمة بنقد كانط. بالنسبة لهيجل، لا يتعلق الأمر بالرفض الكامل لمشروعه في نقد المعرفة، بمعنى فحص السؤال "ماذا يمكنني أن أعرف؟"، ولكن بتحديد جهة أخرى غير تلك التي تم تطويرها في "نقد العقل الخالص". الفكرة الشائعة القائلة بأن هيجل وقع تحت تاثير كانط فكرة مغلوطة.
كيف السبيل إلى "استكشاف وفحص واقع المعرفة؟" (الفقرة 9، 165/58) يعيد هيجل هذا السؤال إلى الواجهة من خلال مناقشة الخيار الكانطي، ثم الخيار الشيلينجي، على التوالي. ما عابه على كانط هو في المقام الأول كونه بنى نقده للمعرفة على افتراضات مسبقة لا تخضع في حد ذاتها للنقد، وبهذا المعنى، لم يذهب بالنقد إلى مدى أبعد. ضد الافتراض الكانطي للأصل التجريبي الذي بموجبه ليس لدينا عنه سوى حدس حسي، أكد شيلينج أن المعرفة الفلسفية تتكون من التفكير في الأشياء انطلاقا من الوجود المطلق الذي يتوقف عليه واقعها، بناءً على معرفة المطلق التي يوفرها الحدس العقلي. يرفض هيجل هاتين الطريقتين المتعارضتين لضمان حقيقة المعرفة من خلال نهج تأسيسي: تأسيس العلم في معرفة ملكات المعرفة (كانط)، تأسيس العلم في المعرفة المباشرة للمطلق (شيلينج). يوضح هذا النقد المزدوج البعد المناهض للتأسيسية في الفلسفة الهيجلية، والذي، بدلاً من البحث عن أساس للحقيقة، يهدف إلى تجذير الشك في صحة المعرفة، أو، كما سنرى، "شكوكية في طور الإنجاز" (§6، 161/56).

قام هيجل بخطوتين في جوابه على السؤال: ما نوع الحقيقة التي تحيل إليها القضايا الرياضية؟ في الأولى أوضح أن الرياضيات تخضع، مثل الفلسفة، للديالكتيك. فبعيداً عن أن يكتفي ببيان نتيجة مجردة، يجب على عالم الهندسة أن يقدم برهاناً عنها، ويربط هذه النتيجة بالأسباب التي أدت إليها. ولذلك لا توجد "إجابة واضحة" في الرياضيات، بمعنى أنه يمكننا إعطاء إجابة فورية لمشكلة ما، دون عملية جدلية.
في الرياضيات، يعد البرهان لحظة أساسية من لحظات الحقيقة، حتى لو لم نكن واعين بها دائما: "حتى في المعرفة الرياضية، ما يزال الطابع الأساسي للبرهان بعيدا عن أن يكون معناه وطبيعته لحظة من النتيجة الصحيحة: في هذه النتيجة يكون البرهان على العكس النقيض من ذلك شيئا قد مضى واختفى".
مع البرهان يظهر الجدل: ذلك الذي يربط النتيجة بالأسباب التي أدت إليها، ولكن أيضا الذي يوحد الذات (عالم الرياضيات) بالموضوع (المبرهنة) في عملية المعرفة. فعلا، إنما عن طريق البرهان سيقتنع عالم الهندسة بالنتيجة (المبرهنة)، وسيمنحها موافقته الباطنية:
"لن نعتبر عالم الهندسة شخصا يحفظ نظريات أقليدس عن ظهر قلب، أي من الخارج، دون أن يعرف براهينها، دون أن يستوعبها […] بطريقة استبطانية".
لكن سنجد هنا العلاقات الجدلية التي سوف تقام بين الذات والموضوع، بين الوعي وموضوعه. هكذا، "حتى الحقائق المجردة من النوع المذكور كأمثلة ليست معفاة من حركة الوعي الذاتي"، هذه الحركة الجدلية التي وصفناها أعلاه.
الأمر نفسه ينطبق على الحقائق التاريخية (تاريخ ميلاد قيصر): "إنما فقط في معرفة هذا الأخير بصورة مشتركة مع أسبابه سيتم اعتباره شيئا له قيمة حقيقية، حتى لو أن [...] النتيجة المجردة هي وحدها ما يفترض فيها أن يتعلق به الأمر".
لنستنتج أن "النتيجة المجردة"، "الجواب الواضح"، هما، مثل المعرفة المباشرة وأي شكل آخر يدعي الإفلات من الديالكتيك، مجرد أسطورة.

مقدمة
شاع استخدام مصطلح "ما بعد الحداثة" في العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث استُخدم في البداية على ما يبدو في الفنون البصرية، ثم انتشر إلى مجالات أخرى، بما في ذلك الفلسفة واللاهوت. ليس من السهل تقديم تعريف عام لما بعد الحداثة. ولعلّ نهاية القرن العشرين، بما اتسم به من غموض في مسار التقدم والتراجع، قد خلقت عقلية "نهاية القرن"، حيث رفض الماضي ورغبة عارمة في البدء من جديد. ومن المرجح أن تكون الآمال والمخاوف التي تولدت في مثل هذه الفترة مبالغًا فيها. فماهية قيمة الوعي الانساني في زمن اللايقين والهشاشة والانسيابية والوعي؟ وأي دور للفلسفة في حقبة مابعد الحداثة؟

الانتقال من الحداثة الى مابعدها

نعيش حاليًا في فترة تاريخية تُسمى "ما بعد الحداثة". ما نُطلق عليه "ما بعد الحداثة" هو ببساطة ما حدث بعد الفترة التاريخية التي تُسمى "الحداثة". في التطور التاريخي للفلسفة الغربية، يُمكننا أن نشهد تحولات رئيسية مُختلفة. ما يُسمى عادةً بالفلسفة "الحديثة" بدأ مع ديكارت حوالي عام1630. يُمثل ديكارت انحرافًا عن فلسفة العصور الوسطى القديمة التي هيمنت على الفكر الأوروبي. يتميز الفكر القروسطي بتمسكه بالمرجعيات: الكتاب المقدس وأفلاطون/أرسطو. مع تطور الإصلاح البروتستانتي (القرن السادس عشر)، تم تقويض الاعتماد على المرجعيات الدينية. ومع تطور الكنائس البروتستانتية المُختلفة وتنافسها على السلطة مع الكنيسة الكاثوليكية القديمة، أصبح من غير الواضح أي كنيسة قد يكون لديها فهم صحيح للمسيحية. ومع تقدم العلم أيضًا، انهار نموذج أرسطو القديم للعالم. أدت هذه المُشكلة إلى ابتعاد ديكارت والعديد من المُفكرين الأوروبيين الآخرين عن الاعتماد على المرجعيات الدينية والكلاسيكية. ديكارت "حديث" لأنه يرفض الاعتماد على المراجع القديمة، ويبني حججه على العقل البشري. وهكذا، فإن الحداثة هي إدراكٌ لحدود المراجع القديمة والاعتماد، في المقام الأول، على العقل البشري. ومع تطور هذه النظرة "الحديثة" للعالم، فإنها تشمل العصر التاريخي المسمى "عصر التنوير" بتركيزه على القيم "العالمية" لأوروبا وأمريكا الشمالية الليبرالية والعلمانية والديمقراطية. عادةً ما تضم قائمة كبار المفكرين "الحديثين" رجالًا مثل غاليليو وجون لوك وإيمانويل كانط وإسحاق نيوتن. بلغت طريقة التفكير "الحديثة" ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر بموجة تفاؤل عارمة؛ إذ اعتقد العالم الغربي أن طريقته في التفكير العقلاني العلمي تُحوّل العالم إلى فردوس من الحرية والتفوق التكنولوجي. لقد انهار هذا التفاؤل في النصف الأول من القرن العشرين. عملت الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير والحرب العالمية الثانية مجتمعة كأزمة مستمرة. وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كانت فرنسا قد تعرضت للدمار الاقتصادي، وانهارت الإمبراطوريتان العثمانية والنمساوية المجرية، وكانت ألمانيا في حالة خراب، وانهارت الإمبراطورية الروسية، وتوفي حوالي 15 إلى 20 مليون شخص في أوروبا نتيجة للحرب. ثم جاء الكساد الكبير (1929-1940) الذي كان أسوأ انهيار اقتصادي في التاريخ الحديث. لقد ترك عشرات الملايين من الناس بلا عمل أو دخل. ثم انتهت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) بحوالي 60 أو 70 مليون حالة وفاة. بلغت الأساليب العلمية العقلانية للعالم الغربي ذروتها بالقنابل الذرية القادرة على تدمير مدن بأكملها. كان استعداد العالم "الحديث" للانخراط في جنون "عقلاني" وعالي التقنية للتدمير الذاتي واضحًا بشكل مروع. بحلول عام 1945 كان العالم "الحديث" قد أصبح أطلالاً في مختلف أنحاء أوروبا ومعظم بقية أنحاء العالم. بدأ عالم ما بعد الحداثة بالتطور على أنقاض العصر الحديث. رأى بعض مفكري العصر الحديث المتأخر تصدعات في بنية العصر الحديث. رأى سورين كيركيغارد (1813-1855) أن عالمه أصبح بلا شخصية بشكل متزايد. رأى فريدريك نيتشه (1844-1900) أن العالم الحديث قد حوّل معظم أوروبا إلى مجرد "قطيع" فقد روحه المستقلة. على الرغم من هؤلاء المراقبين الأوائل المتحمسين، لم تبدأ ما بعد الحداثة إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ترك الإيمان "الحديث" بالقيم العالمية للتقدم والعلم والديمقراطية جزءًا كبيرًا من العالم في حالة خراب. أدت أزمة أخرى إلى انهيار العصر الحديث؛ حيث اكتشف علم القرن العشرين حدوده. طُرح مبدأ اللايقين لهايزنبرغ لأول مرة عام 1927. كان فيرنر هايزنبرغ من أوائل مطوري فيزياء الكم. أثبت أنه كلما زادت دقة تحديد موضع جسيم ذري، قلّت دقة معرفة زخمه، والعكس صحيح. لم يكن هذا العجز عن المعرفة نقصًا في القدرة البشرية؛ فلم تكن العلوم الإنسانية بحاجة إلى تحسين بأي شكل من الأشكال. رأى هايزنبرغ العالم كمكان تكون فيه بعض الأشياء، ببساطة، غير قابلة للمعرفة. تُعدّ مشكلة الفوتونات مثالًا آخر على كيف أن العالم نفسه يتجاوز العقل البشري. فالفوتونات هي في الواقع جسيمات ضوئية عند قياسها بطريقة ما، وفي الواقع موجات عند قياسها بطريقة أخرى. لذا، يبدو أن الهوية "الحقيقية" للضوء تعتمد على كيفية مراقبتنا بدلاً من حقيقة أساسية مستقرة. قوّضت سلسلة كاملة من الاكتشافات في الفيزياء خلال القرن العشرين اليقين العلمي للعالم "الحديث". كانت الفيزياء الأكثر تقدمًا في القرن العشرين تثبت أن طبيعة الواقع المطلق كانت في حد ذاتها غير مؤكدة. أثارت هذه المشكلة حفيظة ألبرت أينشتاين (1879-1955) الذي لم يقبل أبدًا تمامًا أن بعض الأشياء ستظل مجهولة إلى الأبد. بهذا المعنى، حاول أينشتاين الحفاظ على قيم العالم الحديث، لكن اتضح في النهاية أن للعقل البشري حدودًا. فماهي علامات مابعد الحداثة؟ وما صلتها بما سبقها من القوى التحديثية وهل ادت الى النكوص والماضوية ام الى السفر نحو المستقبل دون دليل؟

تمهيد
ميشيل سير ولد في 1930/09/01 و توفي في: باريس بتاريخ 2019/06/01 هو فيلسوف ومؤرخ للعلوم ومؤلف فرنسي. تم قبوله في الأكاديمية البحرية في عام 1949، والتي استقال منها بعد فترة وجيزة، للتحضير للامتحان التنافسي لمدرسة المعلمين العليا في باريس في مدرسة ثانوية باريسية، في عام 1952. باعتباره نورماليان، تم قبوله بعد ذلك بالمرتبة الثانية على قدم المساواة في مجمع الفلسفة في عام 1955. من عام 1956 إلى عام 1958، شغل منصب ضابط بحري في سفن مختلفة تابعة للبحرية الفرنسية: سرب الأطلسي، إعادة فتح قناة السويس، الجزائر، سرب البحر الأبيض المتوسط. وفي عام 1968 حصل على الدكتوراه في الآداب ونشر كتابه الأول "نظام لايبنتز ونماذجه الرياضية" . وتبع ذلك العديد من الأعمال المخصصة لهيرميس مما أكسبه النجاح. وتظل سلسلة «هيرميس» المكونة من خمسة مجلدات تمتد من عام 1969 إلى عام 1980 من أعماله العظيمة. وفي عام 1969 تم تعيينه أستاذاً لتاريخ العلوم في جامعة باريس 1 بانتيون-السوربون. كما قام بالتدريس في الولايات المتحدة، حيث أصبح أستاذاً في جامعة ستانفورد في عام 1984. تم انتخاب ميشيل سير لعضوية الأكاديمية الفرنسية في 29 مارس 1990. وفي عام 1994، تم تعيينه رئيسًا للمجلس العلمي الذي أطلقه جان ماري كافادا. يشارك كل يوم أحد، من 2004 إلى 2018، في عمود " معنى الاحداث" مع ميشيل بولاكو. كان ميشيل سير، مؤلفًا لما يقرب من مائة عمل ومقال، مفكرًا مشهورًا عالميًا، وكانت أعماله متعددة التخصصات تتعلق بنظرية المعرفة في العلوم والبيئة والفن والفلسفة. كان مؤلفًا غزير الإنتاج، وكان ينشر كتابًا واحدًا تقريبًا في السنة وأحيانًا كتابين. من بين مقالاته الأكثر شهرة: "جماليات كارباتشيو" (1975)، "الحواس الخمس" (1985)، "بوسيت الصغيرة" (2012،) و" قوة الفكر" (2015). لقد كان شخصية فكرية مألوفة لدى عامة الناس. يوجد شارع ميشيل سير في مسقط رأسه في آجا (لوت وغارون) حيث أقيمت جنازته في يونيو 2019. فكيف نظر ميشيل الى سيرته الذاتية واضافاته العلمية؟ وماهي رؤيته لمستقبل العالم؟