مقدمة
ليست الفلسفة سؤالا عن الوجود فحسب، بل هي تمرد على "الوجود المفترض". ففي ثقافة تقدس اليقين كدين مواز، يصير التشكيك جريمة، والتفكر خيانة! لكن أي هوية هذه التي تخشى الفكر حتى تعلن الحرب على روح ابن رشد؟ أليست الهوية الحقيقية هي التي تنبض بتناقضاتها، لا التي تحنط تحت راية الإجماع المزيف؟ لقد حولوا التراث إلى سجن للعقل، ونسوا أن ابن سينا نفسه كان "زنديقا" في عين من يرفعون اسمه اليوم دون فهمه. الفلسفة هنا ليست ترفا، بل مقاومة وجودية ضد من يسرقون السماء ويبيعونها أوهاماً.الإجماع في الفقه السياسي ليس حوار عقول، بل هو طقس لتصنيع الطاعة. لقد سخروا "التوافق" ليكون غطاء ميتافيزيقيا لاستبداد دنيوي بائس: فكل مخالف يرمى بالشذوذ، وكل صوت حر يهشم باسم "وحدة الجماعة". لكن أي جماعة هذه التي تختزل نفسها في صوت الحاكم أو الفقيه؟ لقد حولوا الشرعية إلى لعبة ميتافيزيقية، حيث يقدم القمع كحكمة إلهية، ويلبس الخوف من المختلف ثوب "حماية الدين". إنه إجماع السلطة، لا إجماع الحقيقة.
كيف لتراث أنجب ابن رشد — الذي أضاء عصر الأنوار الأوروبي — أن يتحول إلى سجان للعقل في أرضه؟ لقد صرنا أمام كارثة ثقافية: ماض يشيد تماثيله ويحرق في الوقت نفسه كل من يحمل روحه. ابن سينا وابن رشد لم يكونا "أبطال تراث" بل كانا ثورتين على التقاليد المتحجرة. أما اليوم، فيستخدم اسمهما كشاهد دفاع عن ثقافة القمع ذاتها التي حارباها. أليس هذا انتحاراً حضارياً؟
الإجماع — من أداة فقهية إلى أسطورة مقدسة
لم يكن الإجماع في أصله سوى رد عقلي على فوضى السلطة بعد ارتداد الخلافة الراشدة إلى ملك عضود. ففي ظل غياب مرجعية دينية مركزية، برزت فكرة "اتفاق العلماء" كحاجز واق من التشرذم. لكن هذا الحل الوظيفي تحول بدقة حرفي إلى سلطة مطلقة تتكئ على الميتافيزيقا.
ففي القرن الثالث الهجري، مع تشعب المذاهب وانفجار الجدل العقيدي، لم يعد الإجماع آلية لتنظيم الخلاف، بل أصبح أداة لإسكاته. هنا، تجلت مفارقة تاريخية: فبدلًا من احتضان التنوع، تم توظيف الإجماع لتكريس هيمنة رواية الأغلبية، حتى لو كانت تعبيرًا عن إرادة السلطة السياسية أو الطائفية. فالإجماع، بهذا المعنى، لم يكن "حكمة الجمع"، بل "قبضة الجمع".
تكشف محنة أحمد بن حنبل — في صراعه مع مسألة "خلق القرآن" — عن الجانب التناقضي للإجماع. ففي البداية، حين أرادت السلطة العباسية توحيد الرواية الدينية خلف رأي المعتزلة، تحول ابن حنبل إلى رمز للمقاومة، رافضًا تزييف الإجماع بسيوف السلطان. لكن التاريخ يضرب بقسوة: فعندما انقلب الميزان السياسي، استخدم أتباع ابن حنبل نفس الآلية — "الإجماع" — لسحق المعتزلة وتكفيرهم!
هذه المفارقة ليست سوى دليل على أن الإجماع لم يكن أبدًا مبنيًا على الحقيقة الدينية المحضة، بل على تقلبات الوجود السياسي. فكما يقول الفيلسوف "ميشيل فوكو": "المعرفة سلطة". والإجماع هنا هو السلطة المقنعة بقناع القدسية.
لو أردنا أن نحدد لحظة تاريخية حاسمة في تجذير الإجماع كأسطورة، لكانت هي مؤلف الغزالي "تهافت الفلاسفة". فهنا، لم يكن هدف الغزالي — برغم ظاهر النقد العقلي — هو تطهير العقل، بل إخضاع الفلسفة لهيمنة علم الكلام. بتصويره الفلاسفة كـ"ملحدين" وتحويل الفلسفة إلى "خادمة" للعقيدة، أسس الغزالي لثقافة ترى في كل اختلاف عن الإجماع خروجًا عن الدين نفسه.
هذا التوجه لم ينتج سوى عقلية دينية منكفئة، ترتعد من السؤال وتخشى التأويل. فالغزالي، باسم حماية الدين، قتل فيه روح الاجتهاد، وحول الإجماع إلى سجن للعقل.
لقد كان الإجماع — في جوهره — وهمًا كبيرًا: وهم الوحدة في زمن التشظي، ووهم القدسية في زمن الصراع. فكلما تراجع العقل، تقدم الإجماع كبديل مقدس. ولكن التاريخ يعلمنا أنه ليس هناك إجماع بلا دم، ولا قدسية بلا إسكات. فالمجتمع الحي هو الذي يرفض أن يجعل من إجماع الأمس سجنًا لعقل الغد.
التاريخ السري للعقل المقهور
إن التاريخ الرسمي يروي انتصارات السلطة، أما التاريخ السري فتجده منطبعا في شقوق الهويات المكسورة، والأسئلة المدفونة تحت ركام اليقين. هنا، نكشف عن مسار آخر للفكر الإسلامي: مسار يعترف بأن العقل لم يكن ضحية الجهل، بل ضحية من يخافون من سؤاله.
لن نخدع أنفسنا بأوهام "الحضارة الذهبية": ابن رشد، ابن سينا، والفارابي لم يكونوا أبطال الشعب، بل كانوا أدوات في يد السلطة تزين نفسها ببريق العقل. هؤلاء الفلاسفة، الذين تنزهوا عن صراخ الشارع، كتبوا تحت سماء القصور الموحّدية والعباسية، فصاغوا الحكمة بلغة النخبة، لا بلغة الجياع. نعم، كتب ابن رشد احترقت في المشرق، لكن الحقيقة الأقسى هي أن فكره لم يكن ليجرؤ على مغادرة أسوار القصر أصلا! الفلسفة العربية ولدت مشلولة، تختبئ خلف عرش الحكام، فلم تستطع أن تكون نارا تأكل الجهل، بل مسرّة فكرية لمن يملك القوة.
معركة العقل الإسلامي لم تكن خسارتها في ميدان الحروب، بل في صمت المفكرين. عندما أغلق باب الاجتهاد بعد القرن السادس الهجري، لم يُغلق مجرد باب، بل اقتلعت جذور السؤال نفسه. الفقه تحول إلى رواية مملة تعيد نفسها: "قال الشافعي… ذكر مالك… روي عن أبي حنيفة…". هذا ليس تدينا، هذا تكلس! حتى ابن خلدون، الذي كشف أن التاريخ حركة قوى اجتماعية لا وحي سماوي، ظل صوته كصوت متسول في موسيقى السلطان. لقد تم تجميع الدين ليكون سجنا للعقل، لا منجما للأسئلة.
التصوف كان آخر متنفس لعقل مختنق، لكن السلطة استطاعت أن تخنق حتى الحنين. نعم، الحلاج صرخ "أنا الحق"، لكن صرخته لم تكن ثورة فلسفية ترفض التقليد، بل نشوة روحية تائهة. الصوفية انتقلت من تمرد الفرد إلى طقوس الجماعات: ذكر متكرر، حركات مكرورة، سلم وهمي إلى السماء. لقد حولوها إلى "دين باطني" يخدم الدين الظاهري، فلا الروح انتصرت، ولا العقل ولد من جديد.
ليس المقهور هو العقل، بل الحقيقة. التاريخ السري الذي نكتبه اليوم هو اعتراف بأن السلطة لم تكفِ بسجن الأبدان، بل سعت إلى ترويض العقول. الفلاسفة اختزلتهم السلطة إلى "ضيوف ثقيلين"، والفقه مات عندما توقف عن إنتاج الحياة، والصوفية انحنت لتعبد ما كان يجب أن تهدمه. هذا هو الجرح: استيلاء السياسة على المعرفة، فصارت الحضارة وهما نحمله كتابعين، لا كخالقين.
البنى العميقة — سلطة الموتى على الأحياء
ليست المشكلة في الدين كوعي روحي يبحث عن المطلق، بل في تحويله إلى سلاح مرمي في ساحة الصراع السياسي. فالدين، حين يصبح أداة لهيمنة السلطة، يخسر جوهره كجسر بين الإنسان والغيب، ويتحول إلى "سرداب" تخبأ فيه أمراض الواقع. العلماء — في هذا المسار — ليسوا حملة مشاعل، بل حراس سجون. هم يبررون انتهاكات الحكام بفتاوى الطاعة، ويحولون النصوص المقدسة إلى شرعنة للظلم. فالإله يصير — في أيديهم — شريكا صامتا في جرائم السلطة، والمؤمن سجينا لخوف مزدوج: خوفه من الله، وخوفه من أن يكفره من يدعون وصاية على الله. الثقافة الإسلامية، ككائن تاريخي، بنت عقلها على ثنائيات تأكل بذاتها: فكل ما هو خارج الإجماع هو بدعة، وكل ما هو خارج الإيمان هو كفر. هذه الثنائيات ليست فكرا، بل هي سيف مسلط على العنق. فحين يعلن أن "من ترك الإجماع أصابته الفتنة"، يصير النقاش الفكري جرما، والسؤال الفلسفي خطيئة. لقد قتلت هذه الثنائيات التدرج في الفهم، وأغلقت باب الاجتهاد، حتى صرنا نرى العالم بعين واحدة: إما أبيض أو أسود، مع أن الحقيقة ولدت بلون رمادي. التعليم الديني — في أكثر تجلياته — ليس سوى آلة لإنتاج الأتباع. فالطالب يدرس الحاشية على الشرح على النص، دون أن يمس النص الأصلي بعقل نقدي. هكذا تصبح المعرفة طقوسا ميتة، والتلقين سلطة مطلقة. ليس الغرض تخريج عقول تسأل "لماذا؟"، بل تخريج ألسنة تردد "كيف؟". الفرق هنا جوهري: فالطاعة تتطلب قتل السؤال قبل ولادته، وهذا بالضبط ما تفعله مناهج الحفظ. فالتلميذ الناجح — في هذا النظام — ليس من يكتشف الحقيقة، بل من يحفظ الأجوبة عن أسئلة لم يطرحها قط. السلطة العليا في مجتمعاتنا ليست للأحياء، بل لأرواح ترفض أن ترحل. فالدين — باستبداده السياسي — والثنائيات — باستبدادها الفكري — والتعليم — باستبداده الثقافي — يصنعون سلسلة لا منتهية: كل حلقة فيها جثة تقيد الحياة. لكي نتحرر، علينا أن ندرك أن "البنى العميقة" ليست قدرا، بل اختيارا. فالأموات يسودون لأن الأحياء خافوا أن يكونوا أحرارا.
المعضلة الوجودية — هل من مخرج
الفلسفة ليست فعلا بريئا. هي محاولة لهز أسود اليقين، ولكن المجتمعات التي تخاف من ظلها تتعامل معها كـ"جريمة" تهدد نظامها الوجودي. لقد كان نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وغيرهما من المفكرين يحملون مشعل التساؤل في عصر يرتعد من النار. لكن السلطة الدينية والثقافية رأت في هذه الأسئلة خطيئة لا تغتفر. فـ"التكفير" ليس إلا وسيلة لقتل الحوار، وتحويل الفكر إلى جثة تتعفن في قبر الهوية.
أليس غريبا أن تخاف الحضارات من الفلسفة؟ لقد قتلوا سقراط لأنه علمهم أن يشكوا، واتهموا اسبينوزا بالكفر لأنه رفض الأصنام. التاريخ يعيد نفسه: كلما أضاء العقل شمعة، أسرعت القيود لإخمادها. الفرق الوحيد أن المجتمع اليوم يستخدم وسائل أكثر خبثا: العنف الرمزي، التهميش، تشويه السمعة. الفلسفة هنا ليست ترفا، بل مقاومة وجودية ضد جدران التابوهات.
السلطة السياسية لا تكره الفلسفة، بل تستعبدها. فحين يصبح "الإجماع" سلاحا لقمع التنوع، تتحول الفلسفة إما إلى خادمة للنظام، أو إلى سجينة في زنزانة التهميش. الوحدة الوطنية — بحكم تجارب التاريخ — ليست إلا وعيا زائفا ينتجه الاستبداد ليختفي خلفه.
أتذكرون كيف استخدمت أنظمة شمولية شعارات مثل "الشعب واحد" لسحق كل صوت مختلف؟ هكذا تعمل الآلة السياسية: تصنع عدوا وهميا (التفكيك، التغريب) لتبرر قمع الحرية. الفيلسوف هنا إما أن يصمت، أو أن يصير شهيدا. لكن الخطر الأكبر أن يتحالف مع السلطة، فيصبح فلسفته وسيلة لتبرير القهر. هل يوجد أمر أكثر إذلالا للعقل من أن يخون نفسه؟
الحرية وحش مرعب لمن لم يتعلم أن يمشي بدون قيود. في عصر الحداثة، حيث الانهيار الوجودي يطارد الإنسان، تتحول الجماهير إلى قطعان تلتئم الأمان في قبور الإجماع. لكن ماذا يحدث حين يتحول الملاذ إلى سجن؟
الفلسفة تطلب من الإنسان أن يكون "هو"، أن يصنع معناه في فضاء لا حدود له. لكن الجماهير — بفضل خوفها من الفوضى — تختار الأصفاد. هل سمعتم بـ"الفاشلية"؟ تلك الرغبة المرضية في الخنوع لسلطة أعلى، حتى لو كانت مستبدة. هذا هو المأزق: الحداثة تدفعنا إلى الحرية، والخوف يدفعنا إلى التخلي عنها. الفيلسوف الحقيقي هو من يجرؤ أن يشعل النار في سجن الوهم، حتى لو كان الثمن هو الاحتراق.
المعضلة الوجودية ليست حلما سيئا نستيقظ منه، بل وعي بأن الحرية مرادفة للوجود. المخرج يكمن في جرأة أن نعيش التناقض: أن نرفض التكفير ونحتضن السؤال، أن نواجه السلطة وترسم حدودها، أن نتحرر من خوفنا ونقبل مسؤولية الحرية. الفلسفة هنا ليست جريمة، بل هي الوعد الأخير بأن الإنسان قد يكون — رغم كل شيء — حراً.
هل من بصيص أمل؟
والحق يقال: لا ينبغي لليأس أن يكون خاتمة المطاف، فالتاريخ يشهد أن الأمم العظيمة لا تنهض إلا بعد أن تمر بمخاض الأزمات. فهل يمكن للعالم الإسلامي أن يعيد صوغ سياقه الحضاري؟ الجواب نعم، ولكن بشرط أن ندرك أن الأمل ليس وهما، بل عمل متواصل يجتاز الكلام إلى فعل التغيير.
لن تنجح أي محاولة لإصلاح حقيقي دون انطلاقة تأويلية جريئة تكشف عن حيوية النصوص الدينية وقدرتها على مجابهة أسئلة العصر. فمثلما جسد ابن رشد — بعقلانيته المتألقة — وجود وحدة بين الشريعة والحكمة، علينا أن نبني منهجية تفسيرية تخضع لقاعدة واحدة: "الحق لا يضاد الحق". فالنص ليس سجنا للعقل، بل حديقة تتفتح أزهارها كلما أعمقنا الفهم. وهذا يتطلب جيلا جديدا من المفكرين الذين لا يخشون مواجهة القرون المتجددة، بل يرون فيها فرصة لإثبات خلود الرسالة الإلهية.
إن الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبلنا ليس في الجهل، بل في تعليم يقدم الجواب قبل السؤال، ويقيد العقل بسلسلة التلقين. لذلك، فإن تحرير التعليم هو جوهر أي إصلاح. علينا أن نعيد صناعة المناهج لتصبح مساحة للتساؤل الفلسفي، والاشتباك مع الأفكار، كما كان الأمر في عصور الازدهار حين كان الطالب يدرس الفقه مع الرياضيات، والعقيدة مع الفلسفة. فالعلم الحقيقي لا ينتج إلا عقلا مبدعا، وعقلا قادرا على إعادة اختراع الواقع.
لن تزدهر الفلسفة، ولن تنمو الأفكار، إلا في مجتمع يقبل ب"صدام العقول" سبيلا للحقيقة. فالحرية ليست ترفا، بل ضرورة وجودية. ومن المخزي أن نرى مفكرين يوصمون بالإلحاد أو الخروج عندما يطرحون رؤى مختلفة. إن "المعتزلة الجدد" — إذا ما وجدوا — هم ورثة تلك الروح الراشدة التي كانت ترحب بالجدل، فليكونوا شركاء في الحوار، لا أشباحا تطارد. ففي الفضاء العام الحر تنبت أفكار تستحق الحياة، وتموت أخرى تستحق الموت.
الأمل موجود، لكنه ليس بمعجزة تنزل من السماء، بل بقرار جماعي بأن نكون جزءا من العالم، لا أن نكون أسرى تراثنا. فالحضارة الإسلامية لم يبنها اليقينيات الجاهزة، بل بناها الشك المقدس الذي يدفعنا للتساؤل: هل نستطيع؟ والجواب يبدأ بـ"نعم".
الخلاصة
السؤال الجوهري الذي يخترق جلد الواقع كسيف مشرع هو: هل يريد العالم الإسلامي أن يكون سيد نفسه، أم يظل سجين ماضيه؟ ليس هذا استفهامًا بريئًا، بل صرخة تستنطق مأساة التراجع والانكفاء. الفلسفة هنا ليست ترفًا فكريًا يمارس في أبراج عاجية، بل هي ضرورة وجودية تتجاوز حدود الكلمات إلى فعل المواجهة: مواجهة أسئلة العصر الحادة التي تنزف من جراح الحرية، وتصطلي بلظى العدالة، وتتشكل في محنة الهوية.
لن تكون الإجابة بمجرد إقرارنا بأن الفلسفة مطلوبة، فالسؤال الأعمق: هل نحن أهل لحمل مشعلها؟ الحقيقة — كالنهر الذي يجري بلا وقف — ليست ملكًا لأحد، ولن تكون. كل ما نملكه هو رحلة التأوه والتساؤل، فالإنسان ليس سوى كائن يسأل، والأمم التي تخشى السؤال تخشى نفسها قبل كل شيء. الفلسفة تشبه النار: إما أن تضيء، أو تحرق.
وهنا تكمُن المحنة: فالتربة التي تعظم القبور، وتقيد الحاضر بأغلال الماضي، وتجعل من التقليد إلهًا صامتًا، لن تنبت فيها زهرة الفلسفة. ليس العلم أو التراث هما العدوان، بل الخوف من الحرية. الخوف من أن نفكر بجرأة نقية، أن نشك في المقدسات لِنعرفها أعمق، أن نخرج من أسر الأجوبة الجاهزة إلى فضاء السؤال الذي لا ينتهي. العالم الإسلامي اليوم — في كثير من أحواله — يعيش انشِقاقًا: يُنافح عن هويته بحجارة التاريخ، بينما تتهاشم عليه أسئلة الحاضر بقوة الصاعقة.
الفلسفة ليست ميراثًا يُورث، بل مشروعًا يُخلق كل يوم. لن نستحقها إلا إذا اجترأنا على تصور عالم لا نعرفه بعدُ، عالمٍ نبنيه بأيدينا لا بأيدي أسلافنا. في هذا المكان، يجب أن نصادم أقداسنا قليلًا: أن نرفض أن نكون ظلًا لماضٍ مشدود إلى السماء، وأن نقر بأن الحقيقة التي نحملها ليست نهاية التاريخ، بل بداية لغز أكبر.
فإما أن نكون أمة تشق طريقها بسؤال لا يخشى النهايات، وإما أن نظل نرقص على أنقاض مجد ماضٍ، نخشى أن نسأل: ماذا بعد؟ هذا هو الامتحان الأعظم: أن نفاضل بين أن نكون أحياء بفلسفة تهزم الخوف، أو أمواتًا بتقليد يصنع الأصنام.
فلنكن جرأين كفاية لنقول: نحن لسنا ورثة الحقائق، بل بناتها. ولن تكون لنا غدًا إلا إذا تجاسرنا على أن نكسر قيود اليقين، و نمشي في وعثاء التساؤل، حتى ندرك أن الفلسفة ليست فخًا للعقل، بل جسرًا إلى الحرية.