بالفعل، أن يكون الوجود مدركا أو غير مدرك بشكل صحيح، مسؤولا، محددا، فهو قبل كل ذلك لامتحجب ومُتحجب قبلا وباستمرار في جوهره. والآن لم يبق لنا سوى أن نحاول، اعتمادا على روبنس بيليدور، شرح اللحظة الثانية من العلاقة بين الوجود والحقيقة، ولكن هذه المرة، سيتعلق الأمر بالحقيقة الأنطولوجية المفهومة كلاتحجب-تحجب.
كلما تعلق الأمر بمعنى الوجود، إلا وقلنا أن الوجود في اختباره الأصلي هو phúsis - لاتحجب منبثق عن تحجب، تدبير مصدره الانسحاب (انظر ص76 في النص الأصلي). ولكن يبدو أن هناك تناقضا بين هذا "الانسحاب" للوجود وبين انفتاحه. بين اختفاء ومجيء. بالفعل، بما أن هايدجر يحيل إلى الإغريق لتوضيح فكره، نسمح لأنفسنا بالرجوع إلى هذا القولة لهيراقليطس هذا من أجل توضيح تقريرنا: "الطبيعة تحب الاختفاء". لكن إذا كانت "الطبيعة" (أي الوجود في جوهره) تحب أن تختبئ، فلنسأل أنفسنا كيف يمكن أن ينكشف مثل بيان "في ذاته"، وإذا بان فكيف يختفى عن ذاته؟ إنما هنا يجب علينا أن نكون حذرين حتى لا نسيء التفسير، ولو ان أرسطو سبق أن حذرنا من مبدأ عدم التناقض، وهو أن الشيء لا يمكن أن يكون هو نفسه ونقيضه في نفس الوقت. ما ينبغي فهمه هو أن الامر لا يتعلق ذلك سوى قطبين لنفس الظاهرة. الوجود لكونه بالضبط نورا لكل شيء، بحسب برتراند ريو، يمحي في ما يضيئه. ليس تحجباً خالصاً وإلا لن يستطيع الموجود ابدا أن يظهر كالموجود في الوجود ولن يكون فيه وقوع في الموضوعية. لنفهم أن العبارة: "الطبيعة" تحب الاختفاء تعني أن التحجب واللاتحجب ينتميان معا إلى الوجود في جوهره.
لنضع في اعتبارنا دائما مفهومنا عن الحقيقة (alèthèia). ماذا تقول لنا هذه الكلمة، أليثيا؟ تقول لنا أولاً اللاتحجب واللاختفاء. بتعبير أدق، تقول الخروج من الèthè، الانبجاس إلى الظهور، القدوم إلى الحضور. أليس هذا هو نفس التعريف الذي أسندناه إلى كلمة phúsis، التعريف الذي طلبنا الاحتفاظ به في الذاكرة؟ عندما نقارن بين هذين التعريفين، ألا يمكننا ان تؤكد على وجه اليقين أن الوجود والحقيقة هما من نفس الطبيعة؟ بهذه الكلمات نفسها، تجعل alèthèia ممكنًا شرط معرفة الموجود، الphúsis ذاته وفقًا لتحديده الخاص، أي وفقًا لانفقاس الموجود في وجوده. ولأن alèthèia تعني أولاً وخاصة اللاتحجب، فهي تعني أيضًا وفي ارتباط وثيق الوجود الحقيقي لما هو لامتحجب على هذا النحو. األيثيا هي إذن ما خرج من الكمون أو الإختفاء. الاختفاء ليس نقصًا أو حرمانًا لوجود قد يكون في ذاته نورًا كاملاً في حد ذاتها، إنه الطريقة ذاتها التي بها يجعل الوجود نفسه معروفا، إنها- أي بها يعيش جوهره الكامل (Wesen)، كحضور لكل الحاضرين (AnwesendenJ). فالحضور باعتباره كذلك لا يأتي إلى الظهور، بل الحاضر يشعر بأنه متجمع فيه. إنما بهذا المعنى يحمل في طياته تحجباً معيناً.
عند تحليل كلمة alèthèia، نجد أنها مكونة من حرف زائد a والجذر lèthè الذي يعني النسيان. ما يريد هايدجر أن يفهمنا إياه هو أن هذه الـ"a" الزائدة هي في الواقع مزدوجة إيجابيا: من جهة، لأنها بمثابة إشارة إلى خاصية جوهرية لما هو لامتحجب، بمعنى أن هذا الأخير لا "يكون" إلا باعتباره "منتزعا من الاختفاء"، إلا باعتباره "مسروقا" منه وبهذه الشروط تحدث قبلا "الوجود والزمان" عن اللاتحجب، مضيفا أنه كان لا بد من تصوره ك"اختطاف". من ناحية أخرى، لأنه في ما وراء الlèthè، في التحديد الأساسي للأليثيا، يشير a الزائد إلى انتشار الليثي ذاته في الأليثيا، طالما أن الاختفاء منذ البدء يحكم جوهر الوجود بالكامل.
هكذا إذن، يشكل حضور وانتشار التحجب في جوهر اللاتحجب الإيجابية المزدوجة لa في alèthéia. بالفعل، كتابات هايدجر الاولى التي سلطت الضوء على اختفاء الوجود ذاته، ركزت كثيرا على هذا التصور الخاص للاتحجب. "الاختفاء الأصلي" (Grundverborgenheit) الذي تحدث عنه في "الوجود والزمان"، كما يقول برتراند ريو، يجب أن يُفهم كمجال غامض منه انتزع الموجود وإليه يشير. اللاتحجب في حاجة إلى تحجب، إلى الليثي، كآخر له من معرفة جوهرها الكامل.
للأليثيا إذن معنى مزدوج: تعني الكلمة اللاتحجب مثلما تعني phúsis الانفقاس الخالص؛ لكن المفكر الذي يبحث عن جوهر الأليثيا سوف ينقاد بالضرورة إلى الليثي. ذلك لأنه إذا تم التعرف على هذا الأخير من قبل هايدجر باعتباره جوهر الأليثيا، فلا يكون ذلك لأسباب لغوية بحتة، بل إنما في الفكر يحتاج اللاتحجب، حتى يكون ما يكون، إلى تحجب. الأليثيا إذن لاتحجب يتمثل جوهره في أن يكون محكوما بتحجب ثابت. هذا ما يدعم هذا التأكيد الهايدجري: الجوهر الكامل للحقيقة يحمل في طياته جوهره المضاد الخاص، وهذا الجوهر المضاد هو اليي يشكل التحجب أو الإخفاء. وبما أن الوجود يظهر ك phúsis، فإنه ينعقد حقا في لاتحجب الموجود (الحقيقة الأنطيقية). لكن لاتحجب الموجود كما هو يكون في نفس الوقت وفي ذاته إخفاء أنطولوجيا للموجود في مجمله. هذه الاتحاد بين التحجب واللاتحجب ينتمي إلى الوجود وإلى الحقيقة، هاتان الكلمتان باعتبارهما من أصل واحد، نستطيع أن نؤكد بشكل لا لبس فيه أن العلاقة القائمة بينهما هي من نفس الطبيعة. بالفعل، يمكننا شرح ذلك على النحو التالي: العلاقة الدقيقة التي يقيمها في الأليثيا التحجب واللاتحجب، يقدمها هايدجر كعلاقة ولادة، قدوم أحدهما انطلاقا من الآخر. وهذا يعني أن الأليثيا ليست لاتحجبا في "حاجة" إلى اختفاء، لكن الأمر الأكثر جوهرية هو ما يلي: "الأليثيا، كما يدل اسمها، ليست انفتاحاً خالصاً، بل لاتحجبا للاختفاء".
في ختام هذه اللحظة الثانية، دعونا نتذكر أن الإختفاء ال(ليثي) ينتمي إلى الأليثيا، ليس كإضافة بسيطة، ليس كما ينتمي الظل إلى النور، ولكن كقلب الأليثيا نفسه. إنما بهذا المعنى يجب أن نفهم عبارة "لاتحجب الاحتجاب". اللامتحجب منتزع من الاختفاء (الاحتجاب)، لكنه بهذا الانتزاع ينكشف، أي ينكشف هذا الاحتجاب ذاته، الذي ينكشف باعتباره شرطا (غير ظاهر) لظهور كل شيء منكشف. عبارة "لاتحجب الاحتجاب" هي الصورة المقلوبة لتعبير "وجود الموجود". هكذا يعني لاتحجب الاحتجاب لاتحجب الموجود المسموح به من قبل انسحاب الوجود - لاتحجب الوجود كانسحاب. الحقيقة مفهومة كلاتحجب هي نمط وجود (existential) الدازاين. في الفكر الهايدجري تعني existential طريقة أو نمط من الوجود، جهة وجود تميز الحياة اليومية، هذه الطريقة متجذرة في الوجود الأنطيقي للإنسان. إن تحجب الموجود في مجمله متأصل في الحرية المنفتحة الوجود والمحدودة للدازاين، لهذا السبب نعتبر أنه من الضروري إبراز العلاقة التي توجد بين الحقيقة والحرية في ما يلي من فقرات.
إن الحقيقة من حيث هي لاتحجب ليست سوى الوجود، وهو ما بيناه قبلا في علاقة وجود-حقيقة؛ قبل كل شيء، هي ليست شيئا "فوق الوجود"، ولكنها بالعكس هي الوجود ذاته، ما ينشر جوهره في الوجود (الحضور كلاتحجب). غير أن الحرية، بقدر ما تهيمن (Waltenlassen) على العالم، هي أصل الأساس بشكل مطلق. لكنها منتهية، "مهملة": ليس من اختصاث تصرفها الحر أن تكون وتتحقق ببساطة كتعال. من حيث كونها أساس الأساس، فهي أيضا تفتقر إلى أساس من اجل وجودها الأساس: بلا قعر. لهذا يؤول "في ماهية الحقيقة" الحرية ك"تحرر" سعيا إلى ما هو ظاهر في المفتوح، كترك الموجود يوجد" وبالتالي كواقعة الانعطاء لمنفتح اللاتحجب ولامتحجبه. باعتباره هجرانا للاتحجب، الذي ينفتح وينعرض، يحافظ الانعطاء بهذه الطريقة على اللاتحجب. علما بأن الحرية في دراسة "في ماهية الأساس"، مفهومة كأساس لا قعر له، يكون هجران الحرية نحو الحقيقة كلاتحجب ملزما بإستعادة الهاوية، غياب الأساس في التأسيس.
لأن الوجود يثيرها، تأتي الحقيقة من حيث هي لاتحجب مما هو حر، تذهب إلى ما هو حر وتؤدي إلى ما هو حر". لذلك يمكننا أن نقول إن هناك علاقة جوهرية بين الوجود-الحقيقة-الحرية. الحرية، مفهومة على أنها ترك الموجود يوجد، تستكمل وتنجز ماهية الحقيقة بمعنى لاتحجب الموجود. باعتبار أنها تجعل الانفتاح ممكنًا، والحرية هي "إلى جانب الوجود"؛ باعتبارها صيرت ممكنة بهذا الافتتاح نفسه، تكون الحرية "إلى جانب الموجود". هل هناك تناسق أم لاتناسق؟ وهذا ما يجب تبياته الآن في هذه المرحلة الثانية الخاصة بتناسق الفكر الهايدجري. إن لاتحجب الوجود هو دائمًا، حسب هايدجر، حقيقة وجود الموجود؛ على العكس في لاتحجب الموجود، ينعقد دائمًا لاتحجب وجوده. في تحليلنا، بالاعتماد فقط على نصي هايدجر الرئيسين، وهما: "الوجود والزمان"، و"في ماهية الحقيقة"، سنقتصر على ملاحظة نقاط الاتصال والاختلاف التي تجمع أو تفصل بين رسالة الحرية ورسالة الحقيقة. لقد اختزل "الوجود والزمان" التصور الكلاسيكي للحقيقة إلى التأكيد المزدوج على أن الحقيقة تجد مكانها في الحكم وماهيتها في توافق الحكم مع موضوعه.
لم يشك هايدجر قط في أن هاتين الأطروحتين كانتا بحد ذاتهما نتيجة المواقف الميتافيزيقية، الضمنية في أغلب الأحيان لدى كبار الكلاسيكيين، التي ناقشها وشرحها. واصل "في ماهية الحقيقة" تفسير هاتين الأطروحتين حول ماهية الحقيقة. "الوجود والزمان" و"في ماهية الحقيقة" يتفقان على القول بأن مطابقة الحكم لموضوعه، المطابقة التي تكمن فيها، بالنسبة للكلاسيكيين، ماهية الحقيقة، لا يمكن أن تكون إلاىنسبية في بعض الجوانب. إنها تهدف إلى أن تصبح الشيء الذي تعبر عنه، وإلى تسليم هذا الأخير كما هو. سبق لهايدجر أن دان، وما زال يدين بصرامة أكثر من أي وقت مضى، أي تصور للحكم يقوم بحمل الأخير على محتوى محايث للذات الحاكمة، على تمثيل. لكن هيدجر، وهو يتساءل عما يسمح بإقامة التوافق بين الحكم والموجود الذي وقع عليه الحكم، وجد أن هذا الإمكان يقتضي، في المقام الأول، أن وجود الموجود الذي وقع عليه الحكم ينكشف كما هو في ذاته ويمكننا اكتشافه. وجود الحكم يجد جذره في الموقف الذي يهدف إلى اكتشاف الموجود أو، وفقا للغة "الوجود والزمان"، إلى "اتركه-يوجد". لأسباب لا مجال للتفصيل فيها هنا، وضع "الوجود والزمان" على عاتقها مهمة إيجاد مدخل إلى مشكلة الوجود، لكنه في الواقع اهتم بشكل رئيسي بتحليل الوجود الإنساني، الدازاين. كل ما يعلمناإياه الكتاب عن الموجود، يتم دائمًا النظر إلى الأخير طبقا لنتائج التحليل.
لكن التحليل الوجودي يهدف إلى إثبات وجود الإنسان على جهتين أساسيتين، إحداهما الأكثر ممارسة كذلك، تميل إلى وضع الموجود الإنساني في حالة من عدم الوضوح والوهم تجاه ذاته، وبالتالي تجاه الأشياء. "في ماهية الحقيقة" يؤكد ذلك بصريح العبارة، فالطريقة التي يكون بها الدازاين منفتحا، تقرر أيضًا ما في قدرته على الحضور أمام نفسه. من ناحية أخرى، يتجاوز "في ماهية الحقيقة" التحليل الوجودي ويدرس بشكل مباشر علاقة الموجود، من حيث هو قابل لأن يعرف ومعروف، بالبنية غير المتميزة للدازاين. وهذه العلاقة تعلمنا أن الإنسان في الأصل قريب من الأشياء، لأنه هو أيضًا في الأصل موجود منفتح، أي موجود عليه أن يجد دائما وجوده موضوعا خارج ذاته، وهو ما يعود إلى البنية الوجودية في "الوجود والزمان". فكرة الوجود المنفتح حلت محل فكرة الوجود-- في-العالم. الإنسان في العالم لا يعني أنه يجد ذاته إلى جانب الأشياء والنوضوعات، بل إنه يفهم هذه الأخيرة في بنية مرجعية، لأنه في حد ذاته خارج ذاته وقريب من تلك الاشياء والنوضوعات. ولذلك يبقى صحيحا الادعاء بأن الوجود-في-العالم والوجود المنفتح مكونان للحقيقة.
لكن هذه العبارة (الوجود-في-العالم والوجود المنفتح مكونان للحقيقة) تتلقى معنى ليس على الإطلاق هو المعنى الوارد في "الوجود والزمان". إنها تعني أن الإنسان مصدر الحقيقة على نحو صوري، إذا كان لا بد من وجود الحق، كائن كاشف، أي موجود غير منطو على نفسه، قادر على أن يكون ذاته وخارج ذاته في نفس الوقت بالقرب من... بمعنى آخر، التضاعف الأنطولوجي المكون للحقيقة يفترض وجود الموجود المنفتح ek-sistant. إلا أن تلك العبارة اصبح باطلة إذا ألمحت إلى أن الإنسان يخلق محتوى العبارات الحقيقية التي يتلفظ بها. كان "الوجود والزمان" في هذه النقطة أكثر راديكالية. علمنا هذا الكتاب الأول لهايدجر أن خلق الحقيقة انطوي على إنشاء المعنى وهو (الإنشاء) مرتبط بإسقاطات الدازاين وقبل أن يسحب هذا الإسقاط --- وعليه وحده ان يسحب - الموجود من الفوضى الأصلية. ذلك ما يدل على أن هايدجر لم يفلت من قبضة الفلسفة الكانطية حول المعرفة. لم يعد هذا هو الحال بالنسبة إلى كتابه عن ماهية الحقيقة. الموجود منظور إلبه هنا في ذاته. فكرة الوجود التي كانت تتستهدف بالأخص خاصية الدازاين التي تجعله ينطرح أمام ذاته، وفي الوقت نفسه، يؤول الأشياء، يعين الآن هذه الخاصية الأخرى --- مختلفة بعض الشيء على نحو صوري - التي وفقا لها يكون الدازاين دائما بالقرب من الأشياء، التي تكتسب في حد ذاتها دلالة.
ويبقى الوجود والفهم مترادفين. لكن الحد المشترك الذي به يكون هذ الترادف مضمونا، ليس هو الإسقاط بقدر ما هو الانفتاح تجاه الموجود. بدون شك، ليست فكرة الإسقاط الغائبة من الناحية الحرفية، لاغية تماما من الناحية الذهنيه. لكنها تابعة لفكرة الامتثال للموجود، ل"ترك-الوجود-يوجد": لا تعبر عن ذاتها إلا بالمعنى الذي يقال فيه إن كل شخص لا يصل إلا إلى الحقائق التي ينفتح عليها
بمبادرته، أو حسب الاصطلاح الجديد، بسلوكه. بل سوف نؤكد أن التفكير الحالي يبرر بشكل أفضل الفرضية التي طرحها بالفعل "الوجود والزمان"، والتي مفادها أن الدازاين يشكل الحقيقة من خلال فعله الكاشف، وهي الجملة التي بقيت ذات مرة مشوبة بغموض لا يمكن تجاوزه.
أما الأطروحة التي تحدد حقيقة وجودنا بالقدرة على جعل الحقيقة ممكنة، يتم تأكيدها ولكنها تأخذ أيضا معنى مختلفا بعض الشيء. ذلك أن اكتشاف الوجود من حيث هو كذلك وفي كليته يرتبط بشكل مباشر ب"اتركه-يوجد"، يحصر داخل حدود معينة ميلنا إلى جعل الموجود الخاص، الذي يربطنا به الفعل النفعي، مقياس كل الوجود. يحدث هكذأ أننا لا نشرع في الكشف عن الموجود كما هو وفي كليته إلا بقدر ما نضع أنفسنا على مسافة من الكائن الخاص. ندرك إذن أن القدرة على إثبات الحقيقة، على التموقع خارج الذات وقريبا من الموجود من حيث هو كذلك وفي كليته، هي في نفس الوقت ضامنة لحقيقة وجودنا الخاص، الذي هو بالتحديد الوجود المنفتح. من الآن يستطيع هايدجر أن يقول بشكل لا لبس فيه أن هناك حقيقة لأننا نكون حقا ما نكونه.
الخاصية الاكثر إثارة هي أنه (الفعل اليومي) يسعى، دون تحقيق سعيه بالكامل، إلى نسيان هذه العلاقة من خلال ترك نفسه تخضع بالمطلق لكلية الموجود الخاص إلى درجة الضياع في تحديداته. عقوبة ذلك هي أن الدازاين اليومي سوف يفتقر حتى إلى المعنى "الحقيقي" للموجود الخاص نفسه، طالما أن الأخير لا يسمح لنفسه بأن تنكشف إلا من خلال اعتبار علاقته الداخلية بالموجود من حيث هو كذلك وفي كليته. لذلك نفهم مرة أخرى لماذا الأصالة، التي هي الآن "ترك -الموجود-يوجد" من حيث هو كذلك وفي كليته، تظل دائما شرطا لا غنى عنه للاتحجب. يتشكل المقابل الجوهري للحقيقة من اللاحقيقة، وبالتالي يتبين، إذا جاز لنا أن نقول، انه مشترك في الجوهر مع الحقيقة الأساسية نفسها. إذا لم تكن هناك من حقيقة سوى في وجود الموجود وإذا كان وجود الموجود لا يُدرك إلا في المعارضة الداخلية للموجود الخاص والموجود من حيث هو كلية، فإن أي لاتحجب لأحد الطرفين لا ينفصل عن انحجاب الآخر، وبالتالي عن لاحقيقة. وهكذا اختتم "الوجود والزمان" دراسة الحقيقة: "التأويل الوجودي والأنطولوجي لظاهرة الحقيقة يعلمنا أن (1) الحقيقة بالمعنى الأكثر أصالة موجودة في التداخل-الكاشف للدازاين، الذي يجلب للموجود الدنيوي إمكان أن يكون مكشوفا. (2) الدازاين موجود أصلا وفي نفس الوقت في الحقيقة وفي اللاحقيقة. وهذا ما يثبته كتاب "في ماهية الحقيقة". لكن الدازاين ذاته مستوعب ومؤول من منظور أكثر عمقا، تحديداً في علاقته بالوجود. "ترك-الموجود-يوجد" يتوقف على انفتاح الدازاين، وهذا الانفتاح بتوقف على العلاقة التي يقيمها الأخير مع الوجود. إنما الطريقة التي يظهر بها الوجود للإنسان هي ما يحدد إمكان انفتاح الأخير على هذا الموجود أو ذاك بهذه الطريقة أو تلك. لقد رأينا بالفعل أنه تم التفكير في الأليثيا كنقيض للإختفاء، أي كلاتحجب.
واللامتحجب - أي أن الموجود - كان، دائما وفي كل مكان، يُختبر باعتباره "ذلك الذي يظهر"، باعتباره الحاضر الخالص والبسيط، دون النظر أبدا إلى علاقته بالليثي (lèthè) والاختفاء. هناك إذن مفارقة أكيدة. ولكن، بحسب هايدجر، إنما بالضبط التوازي بين هاتين النقطتين غير المتناسقتين، هو الذي يثير، من خلال الدهشة التي يحدثها، السؤال الحاسم: لماذا هذا الاحتجاب للاحتجاب؟ لأن ما يظهر وينعطى باستمرار كحاضر يفترض بالضرورة ما يختفي ولم يعد حاضرا، أي أنه يفترض هذا الآخر لكل موجود لا يمكن أن يتلقى أي اسم آخر غير اسم الوجود.ىذلك لأن الوجود لا ينعطي إلا على شكل انسحاب؛ الأفضل من ذلك: الوجود ليس شيئا آخر سوى هذا الانسحاب. الانسحاب هو الطريقة التي ينشر بها الوجود جوهره، أي يرتسم كحضور. لهذا قدمنا تأويلا لشذرة من كتاب الميتافيزيقا لأرسطو الذي فهم فيها الوجود وأوله على أنه حضور ثابت. أرسطو الذي اكتشف العلاقة بين سؤال الحقيقة وسؤال الوجود، لم يتساءل، كما أكد جان گيش، لماذا تكون الحقيقة هي التحديد الاكثر صحة الوجود. ومن هنا ضرورة أن يطرح هايدجر هذا السؤال: ماذا يعني "الوجود" حتى يمكن أن تكون الحقيقة مفهومة باعتبارها سمة الوجود؟ يسلط هذا السؤال الضوء على العلاقة التي تطرقنا إليها بين الوجود والحقيقة.
(يتبع)
نفس المرجع