أمّ ربيحة التي لا يشقُّ لها في الحارةِ غبار، وقف شعرُ رأسِها، وقلبُها أصابه حريق، أمّ ربيحة التي تحلفُ في الشدائد بالطلاق؛ حملقت في مدخل الزقاق، لا تقدّم، ولا تؤخر، وعقلها صاح من فوق الرؤوس!
- ما الذي ... يحدثُ؟
تدافع المتجمهرون، وهوت أمّ ربيحة؛ لتدقَّ الأٌقدامُ غضاريفها .. ومن تحتهم تسمعَ فرقعة عظامها ..
- ملعون أبوكم!
.. غادرتها الأقدامُ؛ لكنها عاودتها في هرولة رجوع ...
وفي الضجيجِ وصلت أذنيها كلمات: أمسكوه .. بلطفٍ .. يا رجال .. لا تخيفوه .. من يقفل أنبوبة الغاز؟!
قامت، وقعت .. سبّت أبوهم .. وأبا الحارة .. وسبّت اليوم الذي سكنت فيه الزقاق .. غطاءُ شعرِ رأسِها صار في البعيد .. شعرُها الذي لم يره غريب؛ انكشف، بان طبق ليف ..!
عادت الأصوات: أخرجوا الصغار .. قبل كلّ شيءٍ الصغار ..!
من بين الأقدام ظهر لها ثوبُ زهيّة الممزق .. ورجفُ أخوتها جوارها!
يوميات عاشقة ـ قصة : أميمة أزرقان
جميلة هي، ذات شعر أسود طويل وعينين عسليتين تلمح بريقهما من بعيد. واقفة على حافة الرصيف طوال اليوم تنظر بشوق لنهاية الشارع.
توقف سائق سيارة الأجرة الصفراء ليسألها:
- أ ليس لديكِ نقود لتستقلِي سيارة أجرة وتغادري إلى وجهتكِ؟ هل أقلّكِ؟
بعزيمة وإصرار أجابته:
-ـ لا، شكرا لك. فأنا أنتظر حبيبي.
أردف السائق:
- لا أظنه سيأتي، منذ بداية دوامي قبل ساعات وأنتِ هنا.
قالت ونبرة الغضب ترافق صوتها:
-ـ لا، سيأتي. كان برفقتي إلى أن اتصلت والدته به لسبب ما وذهب، لكنه حتما سيعود. لن يتأخر أكثر. هو يحبني ويخاف عليّ، هذا دون أن أخبرك عن غيرته الشديدة عليّ. قد وعدني بأن لن يتركني يوماً.
حكاية ذرّة ـ قصة : محمد هللو
يوماً ما، قرر الأكسجين أن يشترك مع الهيدروجين في تكوين الماء. كان مشروعاً واعداً، وقصة نجاح تلمع في الأذهان، ستكون كل الكائنات الحية بحاجة إلى لمركّب الجديد. وسيصبحان معاً جزءًا من السائل الأهم في العالم. هذه أيضاً مغامرة رائعة، سيطيران معاً في غيوم عالية تجوب البلدان دون تأشيرات، سيهبطان كل مرة في بقعة مختلفة من العالم، سيجريان في الأنهار الطويلة والجداول الضيقة. سيتعرجان أودية بين حقول القطن في إفريقيا عاماً كاملاً، وسيرسمان قطرات الندى فوق أزهار التوليب ذات صباح في أوروبا. سيشاركان في تنظيم مسابقات المراكب الشراعية، وسيحملان فوق رؤوسهما عمالقة السفن البحرية يراقصانها دونما رهبة. سيشاهدان عن قرب أروع أسراب الأسماك الملونة وأكثرها غرابة. ما أروع أن تكون ماءً.
فناجين لإتقاء المطر -قصة : رشيد بلفقيه
"عشت معه
لأرى
كيف يحيا ..
بدوني"
هلا محمد
تحسبا لأن تمطر مساء كما تفعل أحيانا،تناولت قصفة قصائد ظلت تؤجل خواتيمها منذ مدة و حملت مظلة سوداء بحواشي زرقاء تليق بالأسود الذي يطرز ملامحها ، ثم قصدت ذلك المقهى حيث لم تلتق يوما سوى بحطام خيبتها لأنه لا يكون غالبا ... هناك .
في الشارع كانت الأرجل تنافس بعضها الخطى في إحساس واثق أنها تدين للإسفلت بالتسكع ،مشت هي الأخرى دون أن تفكر في شيء محدد قد يبعد فكرة أن تمطر بغتة عن ذهنها.
أفكار صغيرة ظلت تنط هنا و هناك في رأسها و مع ذلك لم تغادر مجال فكرة أن تبلل رزمة الورق التي تحملها معها في مكان ما من الرغبة في البوح المكتنزة بداخلها ،لن تبوح بكل شيء فربما .... يأتي .
لم تمض سوى دقائق و بضعة شوارع مبللة، حتى طالعتها تلك الواجهة الزجاجية للمقهى حيث تنعكس عدة أضواء و ملامح وألوان ،منبعثة ربما من الأرض حيث زرعت –كالنوايا تقريبا- عدة مصابيح .
لا يهم ،جلست دون انتقاء محدد لمنضدة معينة و انهمكت في تكهنات غير واقعية بالمرة لما قد يحدث أو سيحدث ،لو، أو لن يحدث بالمرة ،أذابت في النهاية قطعة السكر الثانية في الفنجان و ظلت تتابعها وهي تتحلل بهدوء .
حب فتاة تحب الكتابة ـ نص : أسماء بوفود
اعشق فتاة لم يسبق لك أن رأيتها في ملابس نظيفة تماما، بسبب قهوتها التي تحملها معها دائمًا، وبسبب بقع حبر قلمها. ولديها مشاكل دائمة في ترتيب غرفتها، وجهازها المحمول ليس مملًا على الإطلاق لأن داخله كلمات كثيرة، وعوالم كثيرة، تتحرك أمامها في الهواء.
تقرأ في شاشتها صفحات مليئة بالغرابة.
وترى في الأسفل أيقونة أغنية مشهورة وهي ترقص في أذنها.
تراقبها وهي تقرأ عن تاريخ كاثرين العظيمة، وعن خلود قناديل البحر.
تضحك بشدّة حين تخبرك أنها نسيت تنظيف غرفتها، وملابسها مبعثرة حول أغلفة الكتب وتعتذر منك وتخبرك أنها ستحتاج وقتًا أطول لتنزل إليك.
وأن حذاءها مخبّأ أسفل جبل من الأقلام المكسورة التي كانت تحتفظ بها منذ أن كان عمرها 12 سنة.
قبّلها أسفل عمود الإنارة عندما تمطر السماء، وأخبرها عن تعريفك للحب.
ذكريات محارب ـ قصة : أسماء عطة
رفع رأسه عن تصاميمه وهو يفرك عينيه المتعبتين من شدة السهاد، فمن رام العلى سهر الليالي، هكذا أخبرته جدته. انتصب من على كرسي مكتبه الواقع بالطابق الخامس واتجه نحو النافذة يتأمل بهاء المدينة الساحرة، تتحسسها أنوار صباح جديد ينفض عنه عتمة الليل، يحمل نسائم دافئة تذكره بمدينته الساحلية الجميلة بالوطن.
شعور راكد مبهم يلفه كلما هاجت به ذكرى ذلك الوطن، لا يدري إن كان يشتاق إليه أم أنه سعيد بمغادرته، فهولا يرتسم أمامه إلا كوجه حزين مليء بالكدمات، لقد عاش فيه طفلا صغيرا مشاكسا يعشق اللعب في المروج مع رفاقه بكرة بلاستيكية بالية حيث تتعالى أصواتهم كلما تعالى الغبار من حولهم، كان يهوى القفز من أعلى أشجار التين والتقاط حبات الرمان الحامض المتدلية كقناديل معلقة بفروع مائلة خفية عن أصحابها، والتسابق مع أقرانه عبر الحقول البورية المنتشرة هنا وهناك بمرتفعات قريته الصغيرة، قرية معزولة نائية انعدمت فيها أبسط شروط الحياة الكريمة. كان يقضي معظم أيام العطلة الدراسية عابثا لاهيا إلى أن يشتد به الجوع فيركض نحو كوخ بني من حجر وطين، تضوع منه رائحة خبز أمه وينبعث منه عطر الفقر الممزوج بريحان الألفة والتآزر.
إليـــــــــــها ـ نص : أحمد الحارون
إلي التي شغفتُ بها عشقاً.. ولن أبوح، إلى التي بين أحضانها شممتُ للدفء رائحةُ تفوح، إلى التي ملكتْ عليَّ ذاتي وكياني، إلى التي تمنيتُ أن تحتويني ولكني فشلتُ في أن تحتويني، إلى التي إذا أدمعت ـــ أدمعت كلُّ دنياي، إلى التي أتنسمُ وأشمُّ من عبقها روح البقاءِ ـــ ودعوى الاستمرار، إلى من أحبُّ وأهوى، إلى من أذوبُ فيها و أحيا، إلى من ضاق صدري لغيرها بالنجوى، إلي جنتي ونعيمي، إلى عذابي وأنيني ، إلى من جئتُ (....) وإليها تنتهي كلُّ أمالي.
لا أدري لماذا تسيطر عليَّ ولأول مرة؟ لماذا طيفها لم يعد يفارقني؟
طالت حبالُ الصمتِ بيننا كثيرا ولأول مرة ، لا أدري ولكن..
بداخلي إحساسٌ أني لن أراها بعد الآن، أو أنها لن تراني منذُ فارقتها
هل لهذا الإحساس أصلٌ؟ أم أنه من تداعي الخيال؟
أمام المرآة ـ قصة : سعيد بوطاهـر
لم يسبق له أن وقف أمام المرآة كل هذا الوقت، اليوم ليس كباقي الأيام، أربعون سنة من عمره تبخرت، ذابت في بركان الضياع، تسللت منه بدهاء ثم وقفت بعيدا تودعه بسخرية وشماتة، و لكن أيضا بحسرة وشفقة.
بالأمس فقط كان شابا يافعا وأول أمس كان طفلا بريئا، إنه يتذكر صورا من الماضي وكأنها حدثت للتو، مزيج من حنين وندم يعصر قلبه إلى درجة الألم؛ لم يكن سعيدا في حياته ولكن أيضا لم يكن شقيا، كان في حالة من الوعي اللاواعي أو اللاوعي الواعي، لا يدري، كان فقط يحلم، طول الوقت يحلم، يحلم بالأفضل والأمثل، صار الحلم عنده إدمانا يرهق أعصابه ويستنزف طاقته، ولكن كان أيضا يستهويه ويستعذبه.
كان ذاهلا عن الدنيا، يحياها ولا يعيشها، كان فيها حاضرا غائبا، كان كالورقة اليابسة اليتيمة، تنقلها الرياح من مكان إلى مكان فلا تستقر في مكان، تتوق إلى اليوم الذي تعود فيه ورقة خضراء تنتمي إلى غصن وشجرة لها جذور، ورقة تنبض بالحياة.