إن مُصطلح الآخر نستعمله كمشجب لنُعَلق عليه إخفاقاتنا،انكساراتنا، ضَعْفنا، فكلما عجزنا عن شيء معين ألصقنه بالآخر ...هذا الآخر الذي أوجدناه لنتستر به على إحباطاتنا ،إنه الوهم الساكن فينا..المقَوِّض لمطامحنا...المبرر لهفواتنا.
ولِماما ما نجسر على الاعتراف بهناتنا.
هذا " الآخر" نحن من أوجدناه لكوننا لا نستطيع البتة أن نجهر بأننا صورة ممسوخة مشوهة في أحايين كثيرة،إنه الغول الذي نخشاه،نحن في مجابهة الآخر لا نقوى أن نكون نحن إلا بوجود إلا بوجود آخر ننعكس من خلاله،فالآخر كشرارة نار متوهجة نحتاجها لتبرير تصرفاتنا ومواقفنا المتناقضة والمتباينة،هو مرآة انعكاس لذواتنا،حقيقتنا الثانية التي نأبى انكشافها أمام الجميع.
الجدار السري ـ قصة : ريم بدر الدين
كونه يقبع فوق تلة عالية معزولا عن كل ما يمكن أن يحيط به من مظاهر الحياة له دلالتان .. إما إن من بناه كان يريد أن يعتزل المجتمع و يكوّن مملكته الخاصة و إما أنه أراد أن يشرف على كل ما يحيط به بنظرة بانورامية سمائية ... أو أن ما يحيط به لم يعد يطيق أن يحتوي هذا الكيان بما يشمل بين جنباته.
الأصعب هو أن تزور هذا المكان ليلا .. و على غير المتوقع تفتح لك سيدته ببشاشة و ترحيب لطيفين تردك فورا إلى قصة لعلك سمعتها في طفولتك عن ساحرة في عمق الغابة تزين بيتها بالحلويات و تستهدف الأطفال تستضيفهم و تسمنهم ثم تأكلهم .. و لعلي كنت سأضحك من هذا الخاطر الطفولي لولا أننا قرأنا كثيرا في الآونة الأخيرة عمن لم تعد تستهويهم أية لحوم حيوانية فقرروا أن يجربوا لحوم البشر ...
انتابتني رعشة و أنا أضع قدمي في داخل البيت و أحاول أن أوازن بين الأفكار التي تعصف ببالي و بين ابتسامة مجاملة أحاول أن أرسمها دون أثر للتوجس في ثناياها.
كانت المرأة لطيفة و لديها بنات ثلاث في سن المراهقة و كان البيت يشي بنظافة مثالية غير أن هناك رائحة واخزة جدا استجديت كل قوى ذاكرتي لتحديد كينونتها غير أنني فشلت ..
فتاة أحلامي ـ قصة : عمر قرطاح
الشاي الأخضر يصب ككل مرة بلا رغوة، والخبز يقطع إلى أجزاء ثم يدهن بالزبدة الرومية والعسل المغشوش، لم يلاحظ أحد أن حدوثة الإفطار هذه أصبحت مملة، والصمت الذي يطوف بالكؤوس فضح كل الأفكار السيئة التي تروج في الرؤوس، تمنيت ساعتها لو جرى الكلام بيننا و ستر سوء النيات و خبث التخيلات، لكنهم كانوا مصرّين على تكرار الحياة..لم أكن أستطيع أن أوقف مهزلة الأكل بلا شهية و العيش بلا أمل.. بعد قليل سيتفرقون في البيت و خارجه وسيلبسون نفس الملابس و سيقولون نفس الكلمات و يخطون نفس الخطوات و سأبقى أنا جالسا مكاني أراقب برّاد الشاي والكؤوس الفارغة بكره شديد وأنتظر إلى أن يتلاشى عني ألم المعدة الذي يجتاحني عادة بعد كل إفطار بالشاي والزبدة وسأقوم بعد ذلك وأنا أدندن بكل الأغاني التي أكرهها وأخرج من المنزل لأقف مع الأصدقاء وقفتنا المقدسة، و سيدور الكلام بيننا عن كل شيء غريب.. حتى الكلام عن عدل الملوك..
رسالة الى وثني ـ نص : ماجدة غضبان المشلب
اعلم ان الأمر لا يعنيك ، قدر ما يعني لصنم ما صنعت به الأصابع الملطخة بالطين..
أنا التي دونتك في كتبي ، و رسمتك ، و نحت تماثيلك كلها ، ثم ناديتك:
هيت لك..
قد قالت أمي حقا ان هذا دأب أهل الطين و الماء ، فهم ينسون الشجر ، و حلاوة الثمر ، و غرابة شروق الشمس ، و يبحثون عن عشق غير منظور ، فلا يمكثون ليلتهم حتى يكونوا قد قرروا صناعته من طين ، يسلمونه نبضهم ، و يضعونه أمانة بين أضلاع من صنعوا.. ثم يشتكون دموعهم الى صمته ، و ليالي السهد في انتظار أول همسة منه.
رأيت بأم عيني كل ما مرّ بأمي ، غير انني أستغفلت بصري و بصيرتي ، و وضعت إيمانها بعدمية وثني تحت باب خرافة امرأة عجوز قد قتل الزمان كل أمانيها ، فأصبحت تحذرني من أمل هو كل ما أمتلك من غدي..
"ليه يا بنفسج" ـ نص : رامي ياسين
هذا صباح آخر كما أشتهي..
كلّ يومٍ يطرقُ أبوابَ صباحاتِه بجملِ أملٍ كهذه لعلّها تسخر منه حين يقولها، ولعلّه يسخر بها من اجتياح اليأس لزمنٍ مشى به جسدهُ عبره، ولم يتبقّ له الكثير من الوقت.
يحمله دوماً هذا التناقض الغريبُ: بين ما هو فيه وبين ما هو عليه فعلاً ؛ الى الابتسام، واختراعِ ضحكاتٍ جديدة لا يُتقنُ حتّى اعادتها بذات النبرة وبذات الايقاع، وبعد كلّ ضحكةٍ أتساءلُ اذا ما كان يعيش داخلَ عالم خيالي ابتكره له وحده بكل ما يحمل من رؤاه؟ هروباً على ما يبدو من تحمّله لمسؤولياته تجاه واقع ربّما لا يستطيع مواجهته بما يملك من أدوات.. أو أنّه يرى ما يرى ويحس بالاشياء بما لا يستطيع الاخرون احساسه، ولعلّه يرى ما لا يراه الاخرون.
أُغْرُومْ * ، نص : أحمد الوكيلي
عند الغبش , وجدت نفسها ممتدة قرب جثة لحمية ضخمة بشوارب ستالينية , تحاملت على نفسها وغادرت الفراش , غسلت وجهها ولبست جلبابها وانصرفت بهدوء .. حتى لا يستيقظ ستالين !! ضاغطة على اوراق النقود التى كسبتها من ليلتها وكأنها تخنقها .. تنتقم منها ..
في طريق عودتها الى منزلها مرت بعدد هائل من "الشماكرية" ذكرانا و اناثا مثلهم مثل النفايات المرمية على جنبات الطرقات. تسلل خيالها وخرج من جسدها المهلك والمتعب و ارتمى في احضان الماضي , بدأ ينبش في الذاكرة المتعبة بقلة النوم والسهر الدائم .. جراح مثخنة .. العمل بالبدن لتوفير الخبز .. الخبز علة وجودها !! تمنت لو كان الوأد عرفا ساريا في هذا الزمن الجاهلي الذي تموت كل يوم مرات ومرات .. تموت للحصول على الخبز. ابوها قتله البحث عن الخبز , أمها الخبز قوس ظهرها وشيب رأسها وكمش جلدها .. وها هي تكمل لعبة البحث عن الخبز ..!!
الرماد ـ قصة : عبد الفتاح المطلبي
لمْ يكنْ بدّ مِنَ التململِ اوتحريكِ ساقيّ لجرّ قدميَ فقد شعرتُ كأني والمدينةَ في جوفِ كائنٍ خرافي من ذلك النوع الذي ينفث النارَ ، الأرضُ تحت قدميَّ محروقةٌ وبصيصٌ من غبشٍ مقهورٍ يُغلفُ المنظورَ بسلطة ظلامٍ مُعتق لم يغادرأمكنته منذ زمن بعيد فلا شيء غير الرماد، الرماد وحده المهيمن مشبعا برائحة الحرائق ، ذاكرتي قد مُحيَتْ تماما إلا من شعور ساحق بالخوف والترقب محاذرا من التمادي والإفراط في الحركة أشعر بثقل عيون كثيرة تراقبني وتتحين فرصة للإمساك بي ، لا شيء في كياني بهذه الآونة غير انتفاض غريزة البقاء، أمد نظري نحو الإتجاهات فلا أجد غير الرماد ، حتى السماء كانت تمور بها من فوقي سحبٌ رمادية والظلام لا زال يكتنف الأبعاد مخلوطا مع بقايا ضوء محتضر مغلفا كل ما حولي بالأسرار والغموض وبينما كنت أختلس نظراتي اختلاسا انبثق ليس بعيدا عني عمود من دخان رمادي أعقبه على مسافات متباعدة أعمدةُ دخان أخرى .
ما لا تستطيعه الشفتان ـ نص : سيف الدّين العلوي
رجفتُ.. رجفتْ دون ارتعاشٍ..قالتْ في غيرِ خطابٍ، لأفهمَ.. فهمتُ... استنجدتْ عيناها حكايا جفْـنيّ.. حالمٌ منْ قال تعطلتْ لغة الكلامِ.. كلُّ أشياءِ الكائن ناطقةٌ.. الفمُ ..الشفتان..الأنفُ والسمعُ.. الأصابعُ.. وقفةُ القوامِ ناطقةٌ.. للشعر، جدائلَ،أو جداولَ، لَغوٌ..وكذلك العينان نابِستَان..
نحن نتراءى. كلانا يرى الآخرَ. والمسألة هنا أمتع..بيننا مسافةٌ تملؤها قِصّةٌ ..عُمقُها عُمقُ المسافةِ ..هي لا بالطّول..قصّتنا لا ..أروعُ ما في القِصصِ أنّها تملأ الكُوى والفراغات،تلك التي تحفرُها الكائناتُ في الأحيزة بمجرّد حلولِها.. ثمّة مسافةٌ قِصّةٍ .ولو قلنا قصّةَ مسافةٍ ،جاز لنا كذلك الأمرُ.لكنْ ، أيّتهما تملأ الأخرى يا ترى؟..