مصادفة عجيبة أن أجد بطنجة مقهى شبيهةٍ بالتي كانت لصديقنا "الهيبي" لكن أثرها امَّحى ْكباقي المعالم الأثرية بمدينة القصر الكبير العتيقة؛ مقهى تقبع في ركن ليس ببعيد عن " سور المعكازين" و "حومة الشياطين " اختارت لنفسها مكانا يضمن لروادها وقارا وزهدا عما يُرَوٍّجُ له فتيان وفتيات "البولفار" المنفتحين على كل "موضات" الغرب السافرة، كما أنها بعيدة كل البعد عن ضوضاء الحياة الباذخة لرواد " الكورنيش"؛ أصحاب الأموال السكرانة.
"خاي الزوين " نادل المقهى، وزبون من زبائنها بعد انتهاء دوريته، و"عمي علي " الملتزم - رغم كبر سنه – بتواجده الدائم خلف " الكونطوار" لتحضير طلبات الزبائن، والزبائن (البسطاء) أنفسهم وإن اختلفت أنواع مشروباتهم، وسجائرهم: الكل في عوالم المثل - في تلك المقهى - سواء بسواء. إن شاركتهم الحديث يحترمون رأيك، بل هم مستعدون للموت دفاعا عن حقك فيه ( وإن لم يكن مقنعا لهم )، كل وممكنه اللغوي والفكري، لكَ لسانٌ فاعقله وتوكل على الله وقل ما تشاء ، قبل الفطور أو حتى في وقت متأخر بعد العشاء. بتلك المقهى لك الحق الغير المشروط في حرية التعبير، ولو كنت سائسا للبعير. وحتى لا أنسى صاحب المقهى هو الآخر مدخن كبير، لكن طمعه صغير في أموال دنيا طنجة الساحرة؛ باستحضار الأثمنة الرخيصة القارة للمشروبات التي يقدمها في مقهاه في عز الصيف، والحكومة قد زادت في الأسعار.....
المذهل في الأمر أني وخلال ترددي على تلك المقهى طيلة شهر غشت؛ بحكم قربها من مسكني الذي اكتريته بمحض صدفة نادرة الوقوع في " قيسرية المكسيك" بعمارة مطلة على السفارة، لم أشهد قط أية خصومة أو عراك بين زبائن تلك المقهى الشعبية العجائبية ، وكأنهم إخوة ذكور من آباء وأمهات متعددة، أو لكأنهم كلهم واحد في نسخ متعددة، يسري في عروقهم جميعا دم واحد من فصيلة الفقر، وتجمعهم (شبابا وشيبا) أواصر العطالة، ويوحدهم استهلاك عمر الفراغ. أنا موظف بسيط راض ببساطة عيشي وقد وفرت لأبنائي – هذا الصيف - بحرا يسبحون فيه وإن كان مرتبي زهيد والزمن حديد إن لم أصهره بالتدبير وشد الحزام، سَهَّرني ليال طوال، كما أني شيخ مقبل على التقاعد إن لم يطل الله في عمر الحكومة؛ لذا فأنا لا أكاد أغادر تلك المقهى ولي في الجلوس فيها متعة غير قابلة للعقلنة.
ما رأيت روادها أبدا يتحدثون عن سلاليم أجور الغير؛ المعقولةِ، أو الغير معقولة، أو عن مشاكل الحياة ومن يحيونها في طيب عيش أو إكراه واقع مرير، ولا مكان بينهم للصراع لأنهم جميعا في أسفل الهرم الطبقي؛ ناموس عظيم خفي ينظم فقرهم: الكل ملزمٌ بالتفريق بين الشخصي والمشترك؛ للبيت رب فليتدبر كل رب أمره لنفسه، وللمقهى فراغ فهات ما عندك من فراغ. ولا رأبتهم أبدا ينمون أو يتنابزون بالألقاب كما قد يفعل غالبية الأحباب؛ ولا حتى سمعت صوت أحدهم يعلو على آخر ابتغاء الاقناع بالصراخ، كبيرا كان أم صغير السن؛ ليس في قلوبهم مكان للحقد أو الغل، أقولها - والله - بلا رياء؛ بالرغم من أنهم مدمنون على لعب الورق "الكارطا " ولعبة " البارتشي" اللعبتان الأكثر إثارة للأعصاب واختلاقا للمشاجرات بين الناس من بين كل الألعاب القاتلة للوقت: " الكارطا " قد تجعل الإبن البار يسب أباه إن هو غالبه، كما أن " البارتشي" قد يجعل الأب الوقور لا يقصر هو الآخر في حق العناية بابنه، فيرد له الصاع صياعا، ويورثه شتى أنواع الوقاحة، ويربيه بألفاظ موغلة في السفالة والفحش والزندقة إن هو حالفه " النرد" اللعين؛ هذا هو المتعارف عليه. لكن مع صنف زبائن مقهاي العجيبة فإن الأمر لا ولن يحدث إطلاقا؛ يقدرون صمتك بالذهب إذا أنت صمت، ويحترمون عزلتك بكل وهابة ووقار إذا أنت انعزلت، ومستعدون للإنصات لرَغْيِكَ بإمعان المريد الخانع الطائع إذا أنت ثرثرت. إنها حقا "المقهى الفاضلة".
تنامت بيني و"الزوين" علاقة تكاد تكون أخوية لولا أني لست سوى عابر كباقي السواح؛ فقبل أن أختار لي مكانا في تلك المقهى الجميلة بساطتها، يكون أخي " الزوين" قد سحب لي كرسيا قرب مائدة في ماكان ما، من اختياره، وحرك نحوي رأسه "أَنْ تعالى واجلس هنا". وقبل أن تستقر مؤخرةُ تفكيري على اختيار المشروب الذي قد يوافق مزاج حالتي النفسية، بتلقائية يبادر "أخي الزوين" ومن غير انتظار طلب ولا تأخير، فيحضر لي ما اشتهاه لي من مشروبات وفق مزاجه وحالته النفسية هو. في الحقيقة كنت أعتبر " الزوين" قبيحا؛ لأنه يحقد عليَّ، بل يحتقرني دونا عن باقي الزبائن؛ الذين كانوا ينعمون بحقهم - كاملا - في اختيار مشروباتهم، وبحرية - غير مشروطة - في انتقاء أماكن جلوسهم، إلا أنا المعلم - المسكين - وقد كنت أنصاع لقرارات مزاجه بلا نقاش؛ تفاديا لأي احراج أو اختلاف قد يُودِي بي إلى ما لن أحمد عقباه، كما أني أريد أن أستمتع - كباقي خلق الله - بعطلة صيفية ممتعة لطالما وفرنا لها (أنا وزوجتي ) نقودا شهورا طويلة، وأعرف سلفا أنه لا داعي للتسرع في إبداء نخوة زائفة لا تُوفي معلما كاد أن يكون رسولا تبجيلا؛ بل قد تُسرع بتوريطه تسريعا، وكذا لأجتنب استنطاقا عقيما إذا ما أنا زرت بعد عراك - لا قدر الله - مخفرا للشرطة بعيد أو مستشفى رديء، أو هما معا ، لذا كنت - فقط - أجتنب مجادلته في ما يعنيني.
في مساء عليل زاد طنجة عذوبة ولينا، وطراوة وياسمينا، وكان البحر لتوه قد خبأ كرة الشمس وراء ظهره، ونفخ زواره ( مدا ) نحو عمران طنجة العالية، كي يتدحرجوا اإليه ( جزرا ) للسهر في مقاهي أوحانات " الكورنيش". وجدت أخي "الزوين" كغير عادتي به يرقص بعشوائية تجعلك تحتار في أمر تصنيفها، إن كانت شرقية؟ أم غربية ؟ أم إفريقية؟ حركاته لا تشبه حتى رقصة "زوربا" ل "أنطوني كوين". وبنشوة كبرى كان يصيح:
- بناتي سبع، والذكر جاء هذا الصيف، وسأسميه "سيف".
هنأته وبعكازي شاركته رقصة فرحه ، واستغلتها مناسبة وهمست في أذنه:
- لِمَ تفرض علي اختيارك لموائدي ومشروباتي ؟
على مائدتي حط لي كأس شاي منعنع رافقه سرب نحل ركب جناحه وتبع السكر، أفرج كفيه بين كأس الشاي على نحو يتيح له أن يقرب وجهه من وجهي أكثر، وبالتالي ليفسح مجالا للنحل يرفرف بجناحه كي يبرد كأسي ( المشحر ) وبوداعة همس في أذني:
- أنت تُعزني وأنا أكثر، فلا تسل عن أشياء إن تَبَدَّتْ ساءتك، وساءتنا أكثر.
زادني كلامه استغرابا، حتى كدت أصير غرابا وأنا أنعق عليه إلحاحي لمعرفة السر العجيب من وراء تصرفاته معي بالخصوص؛ سيما وأنَّ كل المشروبات التي احتسيتها في تلك المقهى، وكذا مواقع الموائد التي كان يختارها لي "خاي الزوين" وافقت ذوقي وأراحت حالتي النفسية، هل أنا "ماشوزي " الطبع؟ أم أن "خاي الزوين" عالم بالنفس؟ هذا هو - بالضبط - ما كنت أريد أن أفك طلاسيمه.
"ك اللاعب " ميسي " في اتجاه " الكنطوار " سلك " خاي الزوين " طريقا له بين رواد المقهى (الفاضلة ) التفت نحوي، أح، قهقه، ثم قال مهمهما:
- إن بُحْتُ لك بالسر، فلن يبقى لـطنجة سحر.