...و أضافت كاترين بلغتها المتلعثمة :
ــ يبدو أن اختلافنا في فهم محمود هو السبب، كان من الأنسب ملازمته والوقوف إلى جانبه كي يتخلص من مشاكله.
رد عليها وسيم بسرعة وكأنه كان ينتظر فترة إتمام كلامها :
ــ أعتقد بأن المشكل أكبر من ذلك بكثير... محمود صديق منذ الطفولة، أعرفه جيدا، وأعرف لحظات فرحه، ولحظات حزنه، ربما غموضه يحسب عليه، وأنتم تعرفون عجرفته وغروره...
قاطعته سامرة في اتفاق ضمني معه :
ــ اسألني أنا التي كنت حبيبته ذات يوم، إنه صعب المراس.
ثم أردفت بعد إطلاق زفرة عميقة :
ــ لكن مع ذلك فإنه ظل نموذجا للجدية والعطاء، وهو ما يبرر عجرفته وغروره.
قال سمير بعد ذلك محاولا إضفاء طابع العمليّة على هذا النقاش :
ــ يا جماعة، أظن بأننا لسنا في جلسة لجلد الرجل، وذكر مناقبه ومحاسنه، الأمر أكبر من ذلك بكثير.
كانت كلمات سمير المقتضبة كافية لجعلهم يتفقون معه، حيث ساد صمت طويل كسره صوت منى قائلة :
ــ لن تصدقوني إذا قلت لكم بأن إحساسي كان ينذرني بوقوع ما وقع، وأنتم تعرفون أن إحساسي لم يكذبني إلا مرة واحدة...
وقبل أن تتمم كلامها، تناولت قنينة الكونياك التي جاءت بها، ثم وضعتها برفق وأشارت لسمير قائلة:
ــ أرجوك يا حبيبي أن تذهب إلى المطبخ، كي تحضر المرطبات ومنفضة السجائر فقد نسيتهما.
وبدعابة مصطنعة أجابها سمير:
ــ ألهذا الحد أنساك محمود ما لم تنسيه من قبل.
تناولت كاترين سيجارتها المفضلة، ثم قالت برفق :
ــ نسيت أن أخبركم بأني تلقيت رسالة مبهمة من محمود قبل ان يقدم على ما أقدم عليه.
وبسرعة البرق بادرها وسيم بالكلام :
ــ وهل يمكن نسيان مثل هذه الأمور أيتها النبيهة ؟
أجابته منى في محاولة للدفاع عن كاترين :
ــ من فرط توترها واهتمامها بمحمود، فقدت حاسة التركيز، ما لا تعرفه أيها الذكي هو أنها لم تذق طعم النوم منذ مدة طويلة.
حدق وسيم في عيني كاترين فتبينت له آثار السهر بادية على وجنتيها، عندها لم يجد بدا من طلب الاعتذار، وكي يضفي في الأمر حسا لطيفا تناول كأسا ثم قدمه لكاترين هامسا بلغة غير مسموعة :
ــ بصحتك أيتها الغالية، سأكون ساقيك في هذا الليل العميق .
ابتسم الجميع بعدئذ، ثم رفعوا كؤوسهم عاليا في محاولة لإضفاء جو مرح بعيدا عن هذا السخط، وبمعزل عن حادث غريب كل الغرابة لا أحد يعرف بدايته من نهايته، وبينما هم في تلك الحال من الغموض السائد على المنزل، وجد كل واحد منهم نفسه غارقا يهيم لوحده دون مشاركة الآخرين، صحيح أن محمود هو سبب تجمعهم ولقاءهم خلال هاته الليلة الليلاء، لكن ما لا يعرفه الجميع هو أن كل فرد منهم يحمل محمودا بحسب زاوية نظره، كل واحد يحس بأنه هو الأجدر بوصفه، وكل فرد منهم يرى نفسه يمتلك من المعلومات عن محمود ما لا يمتلكه الآخر، كاترين تتبجح دوما بأنها كانت صديقته الحميمة التي لا يخفي عنها شيئا إلا وباح لها به... وسيم يستغل علاقته القديمة به منذ الطفولة، فتراه دوما يردد هذه اللازمة باعتبارهما كبرا وترعرعا معا... أما سامرة فقد كانت تعتقد بأن علاقة الحب التي كانت تجمع بينهما كافية لأن تكون الناطق الرسمي باسم محمود، مادام المُحبُّ يبوح بخصوصياته لحبيبه مهما كانت الأحوال، علما بأنه لا أحد يشك في نزاهة محمود وفي إخلاصه... كان محمود قد تعرف على سمير خلال دراستهما بالجامعة بفرنسا، حين ذاقا طعم الغربة حينا وليالي التيه بين شوارع باريس وأزقتها حينا آخر، بذلك كان هذا أكبر معيار لمتانة وشدة العلاقة بين محمود وسمير... أما منى فقد كانت علاقتها بمحمود علاقة عادية مما جعلها خارج الإطار حسب رأيهم، لكنها كانت تحتفظ لنفسها بذكريات خاصة معه، حين كان يخبرها ببعض أسراره ويطلب منها المحافظة على هاته الأسرار مدعيا أنها الوحيدة التي تعرف ذلك... وبما أن كل واحد منهم يرى لنفسه الأحقية في الحديث عن كنه محمود، فقد كان من الصعب أن يقتنع فرد منهم بكلام الآخر، وحدها منى من انتبهت لهذا الشعور المبهم، فكسرت الصمت بعد تفكير طويل عندما وجهت لهم الكلام قائلة:
ــ محمود بات كالمرآة المنكسرة، والحل الأوحد لفهمه، وفهم ما أقدم عليه هو توحيد الرؤى.
قاطعها وسيم بنفس النبرة :
ــ ومن أدراك بأننا نحاول حصره في زاوية واحدة؟ محمود إنسان...
انتبهت كاترين لهذه الثقة في النفس، فقاطعت وسيم قائلة :
ــ كلنا يعرف بأن الرجل لا يظهر من شخصه إلا النزر القليل لكل واحد منا، وأنتم تعرفون مدى غموضه، لدرجة كان يخبرني في بعض الأحيان بأنه لا يفهم نفسه حتى...
حافظت منى على ابتسامتها المعتادة، وفي حركة غير منتظرة وجهت الكلام لسمير قائلة:
ــ عفوا حبيبي، صب لي كأسا آخر !!!
ثم أردفت بعدئذ قائلة :
ــ ذات يوم أخبرني محمود بأنه عازم على القيام بهذا الفعل، قالها بنبرة مازحة فخلته يريد معرفة قيمته عندي ليس إلا.
صمتت ردحا من الزمن ثم أضافت بنبرة متأسفة:
ــ ربما كنت غبية لأني لم انتبه لذلك.
ــ تفضلي حبيبتي لكن إحذري من السكر.
لكزت منى سمير بإبهامها، ثم رسمت ابتسامة بعدئذ تفاديا لأي تعليق قد يوجه لها إحراجا أو ما شابه ذلك، وبينما انتظرت كلام أحدهم رأت كل العيون مصوبة نحوها، ارتبكت قليلا ثم وفي محاولة لدرء هذا الارتباك خاطبت كاترين بتودد:
ــ أرى أنك كففت عن الشرب، على الأقل شاركينا هذا النخب وإن كان في وقت غير مناسب.
ابتسمت كاترين هي الأخرى، أرخت شعرها المنسدل على كتف واحد ثم همت بالكلام :
ــ لن أكذب عليكم أيها الأصدقاء إن قلت لكم بأنني ما عدت في حالتي الطبيعية منذ أن حل ما حل بمحمود، من الصعب تصديق الأمر.
ثم تنهدت وأضافت بصوت منكسر :
ــ إنها خسارة كبيرة، خاصة وأن محمود يعني لي الشيء الكثير...
خيم بعد هذا التعليق جو من الكآبة كان كل واحد منهم يحاول إزالته دون أن يلوذ بملاذ. وبمبادرة مفاجأة، قامت سامرة من موضعها حيث تبعها الجميع بعيونهم بمن فيهم كاترين، ثم توجهت إلى علبة الموسيقى حيث ضغطت زر الاختيار الموسيقي لتنطلق حينئذ موسيقى بيتهوفن تعلن بداية عرض السمفونية التاسعة، تحت ضوء خافت، وقنينة رفيعة، ونقاش تحت وطأة التشبث بالرأي دون الخروج بموقف مقنع للجميع.
ساد جو من الخشوع كانت تكسره بين الفينة والأخرى أصوات الكؤوس عندما تتقارع فيما بينها، كل واحد منهم هائم دون مشاركة الآخرين، ومحمود بقي معلقا بين السماء والأرض، بقي هو الآخر يهيم في خضم من الهواجس والعواصف الهوجاء التي قذفت بالجميع في فضاء معدم، حيث الأحلام المغتصبة، والشعور بالانكسار هما عنوان هاته اللحظة التي لم يكن ينتظرها أحد. فجأة انتبه الجميع لصوت سامرة وهي تبكي بصمت، كانت الدموع التي اختلطت بالكحل الموضوع أسفل عينيها كافيا لإثارة الجميع، فبدت بمظهر مضحك وكأنها تؤدي دور مهرج في مسرحية كوميدية، وبحنان الأم تناولت منى منديلا موضوعا أمامها، ثم بدأت تمسح وجهها أمام ذهول الجميع، خاصة وأنها كانت معروفة لديهم بكبريائها، لدرجة أنها لم تذرف ولو دمعة واحدة إبان وفاة والدتها، وبصوت متحشرج حدقت فيهم طويلا قائلة :
ــ لا أحد يحس بما أحسه، منذ تلقيت الخبر وأنا مستاءة، لا أعرف ما الذي ينبغي القيام به...
فركت أصابعها بعد ذلك ثم أردفت بقسوة لم يعهدها أحد من قبل:
ــ أحس أنكم تلعبون أدوارا ليس إلا، لا تعرفون مدى فقدان شخص عزيز رغم أننا نراه ويرانا، ويتحدث إلينا دون أن يتعرف على تقاسيمنا ووجوهنا التي لعب بها الزمن، فتحولت إلى وحوش آدمية بفرط التمثيل...
كانت كلماتها متثاقلة بفعل السكر، جعلت الجميع يخلق لها عذرا وإن كانت كلماتها جارحة بعض الشيء، خاصة وأن ارتباطهم بمحمود لا يقدر بثمن، فما بالك بحكم صادر عن صديق حميم.
بعد صمت مطبق، رفعت رأسها ناحية إحدى اللوحات المعلقة بعناية، بدت أكثر بهاءا عند انعكاس الضوء الخافت على الجانب الأيمن من وجهها، ثم تمتمت بصوت رخيم :
ــ اعذروني أيها الأصدقاء، أحس برأسي يدور بشدة، لست متحكمة في ما أتفوه به، لا تضنوا أن ذلك بسبب السكر ... لأني لست بهاته السهولة أمام كأس بها خمرة...
كان الجميع ينظر لها بصمت، بل إنهم أصيبوا بذهول كبير عندما بدأت تضحك وتضحك بصوت مرتفع، غطى على سمفونية بيتهوفن وإيقاعها المرعب، حدقت فيهم مليا بعدئذ ثم قالت لهم مخاطبة بكل ثقة في النفس :
ــ سأبوح لكم بشيء آخر أيها الأحبة، محمود لم يكن شخصا عاديا، كان يفعل بعض الأشياء الخارقة، لم يكن يعلم بها أحد، أما كيف عرفت ذلك...
صمتت برهة ثم أردفت بصوت مهموس :
ــ إنه سر لا يجب أن أبوح به...
ساد صمت طويل بين الأصدقاء الذين لم يعيشوا مثل هذا الإحساس من قبل، لدرجة أنهم توجسوا من أن سامرة أصابها مس من الحمق، لم يجرؤ أحد على مخاطبتها، كانوا يعرفون مدى تعلقها بمحمود، وكيف أن حياتها لا تستقيم إلا بوجوده، ومن حيث لا يدرون وجدوا لها عذرا، لكن أحدا ما استطاع أن يجد لنفسه مثيلا لهذا العذر، وأن يخاطبها عله يجد جوابا في دواخله، على الأقل توصلوا لفكرة واحدة وهي أن محمود الغائب كان حاضرا أكثر منهم، فبدا مثل إله قديم أو طوطم معبود، كان هذا هو السر الذي حملته سامرة بين طياتها، لكنها وامتنانا لمحمود فقد أخذت على نفسها رفع شعار الغموض، وكأنها تحاول الاحتفاظ على الأقل بخصلة من خصاله...
ثم استمر المشهد لا متناهيا، لا أحد استطاع أن يقوم بمبادرة ما، في حين أن سامرة بقيت جامدة في مكانها، وحدها أصوات محمود القادمة من بعيد نشرت أجنحتها تحت ضوء خافت يزينه صوت الموسيقى المنبعث وشيء من الإمتنان العالق بدون معنى... بدون طلب للعفو... وبدون تحليق بين رسوم ملامح، أقل ما يقال عنها أنها ملامح صاخبة ليس إلا...