جربنا الهمس والصراخ.. جربنا الصمت والكلام.. جربنا الضحك والابتسام..
لم لا نجرب الفرح..؟
لعل أمام محرابه نندهش.. ننبهر.. ننفعل.. نعود لطفولتنا ونترك لإنسانيتنا أن تنساب شفَّافة تمحو ما علق بدواخلنا من ألم وحزن وانكسارات وخسارات.. ونفتح بالفرح للأمنيات كفا ترتاح على أعتابه البسمات.. ونطوي صفحات ذوات تُجيد احتراف الحزن..
الفرح.. ضدا على القهر والغبن.. ضدا على الألم والحزن..
الفرح.. حتى لا نفقد عادة الابتسام ولا نعطي للآتي فرصة أن يُسقط أسناننا ونحن نَعْبر الزمن الظالم..
الفرح.. فعلٌ للمقاومة..
خفايا ـ قصة : نهله أبوالعز
فتح الهواء البارد نافذة الغرفة المقابلة لنافذته، لمحها وهي تلملم خُصلات شعرها الناعم القصير وترفعها بيدها لأعلى، شعر بأن الهواء كان يقصدها فهي ترفض الظهور دائماً، يقولون في الحي إن موت والدها منذ سنوات افقدها الثقة بمن حولها، ويقول البعض الآخر أنها متزوجة سراً بهذا الشخص الذي اعتاد التردد عليها بين الحين والآخر.
لا أحد يعرف عنها شيئاً مؤكداً ولكنه عرف اليوم أن جمالها ليس له حدود ترتدي قميصاً أزرق ناعما يُخفي كل مفتانها، وفي نفس الوقت يُظهر جمالاً لا يعرفه إلا متذوق مثله، تنهد وهو يدخن سيجارته أنزلق الدخُان في صدره دَفعة واحدة غلبه السعال، سمعته واكتشف تلصصه أغلقت النافذة بغضب، أدار ظهره للهواء وهو يفكر في نظرة عينيها وعمقها.
هل تتذكرين؟ ـ قصة : إلياس أعراب
هل تتذكرين ؟ أم انك، مسحت كل الذكريات الجميلة التي جمعتنا من قاموسك؟ اعرف أن لك حياة جديدة، بصحبة رجل ثاني. هو لا يعلم، أن رجلا أخر، سبقه إلى شفتيك الجميلتين، لا يعرف أن يدا أخرى، تحسست جسدك تحت جنح الظلام، غير يديه، لا يعلم بالمواعيد الغرامية، بالهدايا، بأنك قلت احبك لشخص أخر.
أنت تتذكرين ذلك، حتى وان تخلصت من كل الهدايا التي تذكرك بي، و مسحت اسمي من مفكرتك، لن تستطيعي مسح قبلاتي ، ولا لمساتي الدافئة.
هل تتذكرين تلك الليلة؟ قبل أربع سنوات، أواسط شهر مارس، كان اللقاء الأخير، كان الجو زمهريريا، جعل أذني تلبسان اللون الأحمر و أنا انتظر قدومك. أتيتني مسرورة، في ذاك المكان المعهود، تحت شجرة البلوط، تذكرينها، أليس كذلك؟ كانت الابتسامة بادية على محياك، ظننت انك فرحة للقائي، أمسكت بيدك كما العادة، لكنك على غير العادة سحبتها بسرعة، وقلت لي: لدي كلام يجب أن أقوله .
رائحةُ الرّجال ـ قصة : خيرالدين جمعة
المرأة هي فاكهة الحياة و الرجال أشواكها ......المرأة هي رائحة الوجود أما الرجل فظلٌّ باهتٌ لشمس الخريف و صوت مزعجٌ....بلا نجومٍ و لا رائحة !!! ..
هكذا كنت أتصور النساء و الرجال عندما كنت صغيرا إذ لم يكن حولي من الرجال الراشدين سوى رجليْن : جدّي الطاعن في السن ّالذي كان يؤانس وحدتنا في بيتنا العتيق ، و خالي الذي كانت صورته تثير فيّ الرهبة و الوجل و لا أراه إلا حين أزوره مع أمي ، في تلك السن كنت أشعر أنه بعيد عني .... و قد رسمتُ صورة غامضة متداخلة عنه من خلال حديث أمي وهي تروي مغامرات أخيها الأكبر و سطوته وجبروته إلى درجة أنني لم أكنّ تجاهه سوى شعور الخوف ...كانت أمّي تتحدّث عنه بإعجاب فتسهب في الحديث عن أخلاقه العالية و رجولته و قوته و رغبته في الالتحاق بالجبهة العربية في حرب الأيام الستة و كذلك مساهماته في حرب تحرير الجزائر حين كان شابا إضافة إلى حنانه المتدفق على كل أفراد أسرته .و لكن الحقيقة أن كلام أمي لم أكنْ أصدّقه إذ أنني ما إن أرى خالي حتى يرفض عقلي أن يصدق أن هذا الشخص الذي أمامي يمكن أن يكون طيب القلب ربما ما رسّخ هذه الفكرة في باطني هو صمته القاتل إذ كان خالي طويلا ضخم الجثة ..قمحيّ اللون قوي البنية بشعر قصير و نظرات عميقة حادة ، كثيرا ما يلبس سروالا أبيض فضفاضا و بلوزة طويلة رمادية ، يملؤه الصمت دائما ...ظلّتْ تلك الصورة المهيبة محفورة في ثنايا طفولتي ....
زمن النكران ، نص : محمد ريان
يجلس ثلاثتهم على مقاعد إسمنتية، مغروسة في قارعة طريق عام، كأنها أوتاد يتشبث بها الوطن المتداعي قهراً، تحت أنامل المتحكمين في البلاد والعباد، لا ينبس أحدُهم ببنت شفة، كما يبدو للعيان، لكنهم غرقى في متاهات جارفة من التفكير ينتصرون في مناظرات جدلية، ويهزمون في أخرى، يخوضون حروبًا ضارية تخيلتها عقولهم، فيحلقون مع روبن هود ليعيدوا الحق المسلوب إلى أهله، يثورون مع جيفارا إذا ثار يحارب الظلم والعبودية، يقفون خلف الفاروق، إذ وقف بالعدل والمساواة بين الخلق على اختلاف مشاربهم، ثم يفيقون من نشوة انتصاراتهم الموهومة على أم كلثوم، تشدو بعذب صوتها "أعطني حريتي أطلق يديَّ إنني أعطيت ما استبقيت شيئا"، ليغرقوا مرة أخرى في أنكاد أنفسهم وهمومها، تخيم عليهم مثل خريف أسود، يقتل الجمال الذي يولد ويزحف بالموت على قمم الأشجار الشامخات، يعريها من الأمل المنثور على أغصانها فتمسي وحيدة لا عزاء لها إلا الهيام بقادم الأيام.
سباعية التحدي ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
لقد أنهكوه، لم تبق زاوية واحدة إلا ونظروا إليه من خلالها، استنزفوا كل طاقاتهم النفسية، والمادية، صوروا الأمر له سهلا لاشيء فيه من الصعوبة أو العناء، وضعوا أمامه كل الأحلام كحقائق، البيت الواسع فوق قمة الجبل الأخضر بزيتونه ولوزه، السيارة الوردية ذات الفرش الفخم، الأموال الطائلة، والفتيات، دنيا الشباب، والرفاه كله، دنيا الأمنيات البراقة اللامعة الواقعة بين أعطاف الحلم ونوازع الشباب المتقد الملتهب، دنيا الحلم الوردي المصاغ بأقلام رومانسية تعج بالحرارة اللاذعة للحقائق، دنيا الغرائز المتلاطمة في مجاهل موج عات تزأر به تفاعلات مقتبل عمر يجوس أقبية الوجود بحذر الاكتشاف واندفاع الطاقة، كل الأشياء ستتحقق لك، ليس هناك أمرٌ تتمناه بعد اليوم، فقط اشر بإصبعك على ما تريد يكون لك دون نقاش.
سر في دمعه ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
أحست الدنيا تموج تحت قدميها، تنزلق من مكانها، وكأن زلزالاً ناعماً يداعب مركزها بخبث ودهاء. وبدا الأفق على امتداد البصر يترجرج كالزيت حين تهز خابيته. غارت عيناها في المحاجر، أمسكت رأسها بكلتي يديها، حاولت التركيز ولو للحظة واحدة، لوهلة واحده، لكنها فشلت، وبسرعة غريبة راودتها فكرة العجز.. العجز... الموت، وجهان لحقيقة واحده، تؤرق العقل، وتكتسح المشاعر. قد لا نستطيع التأكد من الوحدة بينهما بسهوله. لأن التأكد يحتاج إلى فهم عميق لمعنى الوحدة، الاندماج، وقد نكون لا نريد التأكد. لأننا لا نريد الاعتراف بهذه الحقيقة، بهذه الصدمة، أو بتعبير أدق، الورطة. ولكن السؤال الذي يلح إلحاحاً شديداً، عاصفاً، مغرقاً، ما الفارق الحقيقي بين من يجلس على الأرض دونما فائدة، دونما فضل، دونما طموح أو رغبة، وبين من تضمه الأرض بذراتها؟ لا فرق. فالأول فاقد لكل معنى من معاني الحياة. والحياة نفسها تسخر من الاثنين بنفس القدر، بنفس الحجم. ولكي نكون أقرب للإنصاف، فإنها تسخر من الأول دون أن تعير الثاني أي اهتمام. لأن دوره ذهب وانتهى، مع ذهابه وانتهائه.
حذاء جدي صالح ـ قصة : ياسين كمالي
عندما امتطيت السيارة ، ودعتني أمي بالزغاريد و لم تنس أن توصيني بالحذاء خيرا ، بينما بدا الحزن على وجوه شقيقاتي ، و لم أدر في تلك اللحظة هل أبكي أم أشكر جدي على كل حال .. نفورا من ضجيج المحرك توغلت في مستنقع اللحظات المنتحرة ، كانت الصور تتقافز في ذهني لتوقظ الثعابين الراقدة .
يمكنني الجزم بأن حياتي ظلت تسير بشكل هادئ إلى أن بلغت سن الصيام ، ثم دنا آدم من الشجرة و هوى ابن يعقوب في ظلمات الجب. غدوت ملزما بانتعال حذاء جدي بما أني الذكر الوحيد في سلالته ، هكذا شاءت أمي تنفيذا لوصيته و تواطؤا مع القدر و النرد . حين عاد جدي من الحج قبل أن أولد بزمن طويل ، لم يجلب معه شيئا سوى حذاء مصنوع من جلد بعير حجازي ، و المدهش أنه مصبوغ بخليط عجيب من القطران و شحم الإبل ، و لعل هذا هو سر لونه الداكن الذي لا يتأثر بالزمن ، إنه يشبه إلى حد ما بشكله الحربي تلك الأحذية التي ينتعلها رعاة البقر . كانت أمي تخبئه في غرفة جدي المقفلة ، و لا ينفتح الباب إلا ليلة الجمعة . يحضر شيخ مجذوب يحمل مبخرة ، يظل يمررها فوق الحذاء و هو ينشد بصوت رتيب : « اللهم صل على المصطفى / حبيبنا محمد عليه السلام » ، و يأتي فقيه الجامع رفقة جوقة من المقرئين ، ينخرطون في تلاوة جماعية لسورة الكهف ، بأصوات متمردة على كل المقامات.