كان "رضوان" جالسا في الطائرة غارقا في التفكير بمصيره بعد صدمة الخيبة العظيمة التي يعيشها منذ ليلة امس. بين حين وآخر يتمعن بالتابوت الموضوع جنبه في ممشى الركاب، حيث يرقد فيه زعيمه الراحل "الشريف الميروني". بالامس فقد الامل بتحقيق حلم حياته وانتهت الى الابد آماله ان يصبح وزير خارجية السودان. لقد مات حلمه بموت زعيمه الذي كان يعد لانقلاب عسكري يصبح بفضله رئيسا للوزراء .
منذ طفولته و"رضوان" يحلم ان يكون زعيما كبيرا. ولد في القدس، من ام سورية واب فلسطيني من بقايا جنود(ابراهيم باشا) السودانيين الذين استطونوا فلسطين قبل اكثر من قرن. وبعد نكسة 1948 هاجرت العائلة الى السودان حيث نشأ الطفل (رضوان) وكبر في الخرطوم. لكنه امضى طفولته وصباه متنقلا بين اقاربه في دمشق والقدس والخرطوم والقاهرة. ومنذ أول شبابه توسع حيز تنقله الى اوربا التي دخل مجتمعاتها طالبا ومناضلا وعاشقا ودبلوماسيا. وهاهو منذ سنوات يقيم في باريس، مطلقا من إمراة فرنسية خلف منها بنتا. لا احد يعرف كيف يعيش وهو عاطل يمضى وقته في مقاهي "الشانزيليزيه" بحكي مغامراته الخائبة ونهاية حلمه بأن يصبح وزير خارجية، ثم رئيس وزراء السودان.
يصح القول ان "رضوان" يستحق فعلا ان يكون وزيرا في السودان بل حتى رئيسا للوزراء. يجلب الانتباه بقامة فارعة وهيئة سلطانية بجبهة عريضة وعينين واسعتين كحيلتين ثاقبتين، لا تكفان عن النط في جميع الانحاء، ثم تغرقان في تأمل روحاني عميق. بشرته سمراء وشواربه حربية سوداء معقوفة نحو وجنتيه. منذ اللحظات الاولى يخلبك ببراعته الفائقة في الحكي وصوته الخطابي الدافئ وسرده الممتع الخليط من الافكار والاخبار والطرائف والحكم والنوادر واسماء الشخصيات السياسية والثقافية العربية والاوربية المهمة التي يدعي انه التقى بهم شخصيا، بل اكثرهم اصحابه وعاش معهم تجاربا. رغما عنك يستحيل "رضوان" امامك الى ممثل كبير على خشبة مسرح فخم، حتى وهو جالس جنبك على كرسي متواضع.
يقول عن نفسه: (انا رجل القضايا الخاسرة). انه منحوس، لم يدخل مشروعا الا وانتهى بالخسارة. لم ينس ابدا تلك الليلة السوداء التي تحطمت فيها احلامه قبل اعوام:
(( يا اخوتي، ذلك اليوم كنت مع "الشريف الميروني" في احد فنادق باريس. بعد انتهاء اجتماعنا الذي تم فيه توضيح بعض التفاصيل المهمة عقب الانقلاب المخطط في الاسبوع القادم لاسقاط السلطة في السودان. كان برنامجنا اقامة حكم ديمقراطي أكون أنا فيه وزيرا للخارجية وزعيمي رئيسا للوزراء. بل فهمت منه بصورة غير مباشرة، اني خلفه في رئاسة الوزراء، لانه يأمل، بعد بضعة سنوات التقاعد والاستراحة من السياسة. تركته ليستريح، وذهبت الى غرفتي على امل اللقاء عند العشاء. وقفت امام مرآة الحمام ورحت أتمعن بوجهي. أحست فجأة في صدري بغيمة من القلق، ورحت اسأل نفسي:
هل يستحق فعلا وجهي ان يكون لوزير خارجية؟ بشرتي ليست بما يكفي من السواد لكي اكون وزيرا سودانيا. يقينا ان المعارضة سوف تستغل بياضي، لتسود علي حياتي.. طز.. لا يهم حتى لو بقيت بضعة اسابيع، تكفيني لكي احمل لقب "وزير سابق" وهذا فخر يبقى معي طيلة حياتي، بل حتى ورثتي سوف يفتخرون به. ابنتي"سامية" سوف تفتخر امام الفرنسيين: "ابي وزير خارجية سابق".. اتمنى ان لايسألها أحد في أي بلد، عسى ان يظنوا انها تعني فرنسا. المهم "وزير سابق". ها انت اخيرا يا رضوان، بينك وبين عرش السودان بضعة ايام، وتضع مؤخرتك على كرسي الوزارة ثم يقينا فيما بعد رئيسا للوزراء. دون وعي التفت نحو مؤخرتي ورحت اتحسسها بكفاي وانا اسألها: هل تستحقين يا عزيزتي شرف الجلوس على كرسي الوزارة بعد ان هلكتك الاعوام بالجلوس على كراسي الغربة والترحال؟
في المساء ذهبت الى غرفة زعيمي لكي ننزل الى قاعة العشاء. طرقت فلم يفتح. جربت قبضة الباب فلم يكون مقفولا. عندما دخلت وجدته راقدا على سريره غارقا في موت مفاجئ. فارتميت عليه باكيا نادبا. طبعا يا اخوتي بالحقيقة لم اكن ابكي على زعيمي، بل على كرسي الوزرارة الذي فقدته الى الابد. ودون ان وعي مني، وجدتني اكيل الضربات الى مؤخرتي وانا اصرخ بها: طاح حظك يا مسكينة، عودي الى كراسي العطالة والشانزيليزية.
في الطائرة كنت مع وفد الحزب المتكون من خمسة خائبين مثلي تبددت احلامهم بكراسي الوزارات، نرافق تابوت زعيمنا الى ليبيا، ليتم نقله من هنالك الى السودان، ميتا وليس رئيسا للوزراء. وانا في لجة تفكيري في مصيري المجهول، واذا بصوت المضيفة يسالني:
ـ دجاج ام سمك؟
وعندما رفعت راسي اندهشت من رفاقي يتبادلول قطع السمك والدجاج من فوق التابوت. اجبتها دون تفكير بفرنسية مكسرة:
ـ قطعة وزير رجاءا.. une pièce de ministre s'il vous plaît