الحاج معزوز، جارنا منذ عهد بعيد، نعرفه معرفتنا لتفاصيل الطفولة والشباب، قصير القامة، ذو وجه متغضن، تشرئب قسوة الزمن من طياته، وينفجر الأسى من عينيه كمصب لا ينضب، محني القامة، يتنقل الذهول بين طيات وجهه، لا يتكلم إلا في المناسبات، وتحت ضغط الأسئلة الملحة.
يعيش في غرفة صغيرة حقيرة، تتكالب عليها الأوساخ والبقع، تكالب الرائحة على فضائها المحصور بين جدران من لبن متآكل، رغم أن أولاده العشرة، الموزعين على المدينة، يتمتعون بوضع مستقر مريح، ويلبسون ثيابا نظيفة، ويخرجون متأبطين زوجاتهم المترجلات.
من عادته الجلوس على رصيف الشارع، يبحث بعينين ذابلتين في صدور الناس، أو هكذا كان يهيأ لنا، ويحاول أن يرتب الأشياء والأحداث في عقله، بطريقة تقنعه بضرورة الحياة والوجود، لم يكن سهلا، ولم يكن من الذين يعبرون الذاكرة كوميض يختفي لحظة ظهوره، بل ينشر مخالبه بأعماق النفس، ليستقر فيها كحدث لا يمكن نسيانه أو تناسيه.
تحدثت معه أكثر من مرة، والغريب انه لا يطلب منك أن تركز عينيك به وهو يتحدث، كبقية الناس، بل تشعر أحيانا انه لا يهتم بما يقول، أو بأنك تسمع أم لا، ولكن الأكيد، انه يملك ثقة غير معهودة، بان من يسمعه لا يستطيع، حتى ولو عقد عزمه، أن يتجاوز كلماته وجمله، وانه لا يملك أي قدرة لنسيان حرف مما يقول، كان يدرك، بشعور ما، بان البئر لا تستطيع أن تخنق الكلمات، مهما كانت هوتها عميقة، بل وزاد على ذلك يوما، بان ما يقال أحيانا، لا تستطيع الآماد الموزعة على الكون، أن تحتفظ به داخل نواتها المتقدة المتفجرة.
سألته يوماً: لماذا لا تعيش مع أولادك؟ فهم كثر، ولن يضيق بهم الحال إن ضموك إلى حضنهم الواسع؟ برزت نظراته من محجريه، ولمعت، كانت هذه من المرات القليلة التي يوجه عينيه نحو محدثه.
أولادي؟ وانحدر نحو صمت ثقيل، لاحظت أنه بدأ يرتجف، وان صلابة نظراته، بدأت تتكسر، كزجاج قديم غير متماسك، ثم بدا التشظي القاتل ينهال منها نحو يديه الضعيفتين الراجفتين.
يوم غادرنا يافا، كانوا ثلاثة، حملتهم فوق كاهلي، نقلتهم من صدري إلى ظهري، ومن خصر إلى خصر، شققت الأرض والفضاء، كي أجنبهم الموت، أطعمتهم مما كنا نحمل، وبقيت مع أمهم نقتات على الجوع والظمأ، تركنا يافا من أجلهم، تركنا الأرض والزرع، ومقابر الآباء، حملناهم على صدورنا حتى نقيهم الرصاص بظهورنا، ونقلناهم على ظهورنا حتى نستقبل الرصاص بصدورنا.
ووصلنا إلى هنا، إلى المخيم، بدأنا من تحت الصفر، تقبلنا الإهانة، وغاصت بحلوقنا مذلة الهجرة، ولكننا قاومنا، عملنا، أجراء، في كل شيء، هل تفهم؟ في كل شيء، من أجل أن نشد عودهم، وكانت زوجتي تعمل كمفرخة، كل عام تأتيني بولد، أو تجهض بولد، هل تعلم كم مخاض جاءها، وكم من الآلام عانت وهي تضع وتجهض، لكنها صبرت، كانت تقول بأنها تود أن تجعلهم سندا لبعض، وسندا لشيخوختنا، لكنها رحلت وهي تنظر في الأفق الخالي من أي منهم لحظة موتها، لحظة موتها القاسية، قساوة الإنسان.
لم أكن أعرف بان الحاج معزوز يحمل هذا الكم من الألم، وأنه يختزن هذا الأسى، ولكني كنت أعرف بان علاقة ما نبتت بينه وبين الرصيف، وانه قبل ذلك كان يصادق كلباً اسوداً، أمي قالت: بأن الحاج معزوز وجد الكلب طريحا في احد الأزقة، لا يستطيع السير، حمله فوجد أحد رجليه مكسورة، والأخرى مقطوعة، تعهده بالعناية، رعاه إلى أن استطاع أن يخطو على ثلاث، حمله وأعاده إلى نفس المربع الذي احضره منه، وعاد، ففوجئ بالكلب يتمدد على باب غرفته، وحين تلاقت نظراتهما، اندفع كل منهما نحو الآخر، بقوة فتية عارمة، وتعانقا، كصديقين حميمين، التقيا بعد فراق قسري.
بدأت حياة الحاج من تلك اللحظة تتغير، فوجهه الصامت القاسي، دخلته بعض ملامح الفرح، ومشيته الثقيلة، تلاشى زحفها ليتحول إلى نشاط، وأخذت عيناه تشعان ببريق لم نعرفه فيه من قبل.
نعم، الكلب، احدث انقلابا في كل خصوصياته، فهو لا يأكل إلا إذا أكل سيده، والويل كل الويل للطفل الذي يحاول اعتلاء سطح الغرفة لأي سبب من الأسباب، كل منهما أحب الآخر، تعلق به، فتداخلت الأحاسيس والمشاعر، وتوحدت الرؤى والطموحات، وتعانق الهدف، أصبحا لا يفترقان أبدا، أنت لم تشاهد الكلب حين يتوسط الرصيف مع صاحبه، كل المخيم شهد، بان الوميض الذي يخرج من عيني الحاج معزوز، هو ذات الوميض الذي يخرج من عيني الكلب، بل زاد بعضهم، على أن الوميض قسم إلى نصفين ووزع عليهما.
وبدأت الصفات تتشكل تباعا، تتوحد، فالحاج معزوز يسير على ثلاثة أقدام، وكذلك كلبه، وكأن الصدف رتبت وجود العكاز بيده كي تتوافق مع مأساة الكلب، السن والتجاعيد والهزال، توسط الرصيف، تأمل الناس والبحث في صدورهم، السهوم الطويل الممتد كموجة غضبى، كل هذه، كل الأشياء، توافقت بينهما، كتوافق لوحة فسيفسائية متناسقة متناغمة.
بدأ الحاج معزوز ينغرز في راسي، فكرة ملحة، مغلفة بالغموض، بالمجهول، وبدأت التساؤلات تستوطن أعماقي كجيوش نمل جرارة، تتعرج في مسارب النفس، فتزيدها توقدا واشتعالا.
أصله من يافا، تلك المدينة الجميلة المزروعة على شاطئ ازرق ممتد، تعانق الموج والرطوبة، وتمتلئ أجواؤها برائحة البحر وزهر الليمون، ويتفجر الربيع بأرضها كتفجر الينابيع الصاخبة، يتجول التاريخ بملامحها وقسماتها، ويحط رحاله المتجددة على ألوان زهرها وجدرانها العتيقة، فيها تستحم الشمس كل مساء، تغسل نفسها من حرارة يوم شاق، وتنطلق في الأفق وأشعتها تنتظر المساء لتغطس من جديد في مياهها الرائعة، وأثناء غطسها، ترسل من مساماتها حرارة لاهبة، تنحو نحو أفق المدينة مشكلة لوحة من شفق متوهج، مصبوغ بانعكاسات التربة والشجر، تغطس رويدا رويدا، ليغيب الشفق بنعومة نرجس يغص بروح الحياة والوجود، ولكنها حين تغادر، يكون الظلام، وعمق البحر، ومجهول يافا وسرها، يكون كل هذا، قناعا من غموض لا يحل، ولا يجيب على فضول الناس حين يتساءلون: حين غربت الشمس، شاهدنا غروبها، شاهدناها وهي تنزف لتنشر دماءها على الأفق كله، ولكننا لم نعرف حتى اليوم، كيف انسلت من البحر لتشرق من جديد من الجهة الأخرى؟
المخيم يروي قصصا عديدة عنه، وكأي شيء تفلت تفاصيله من الناس، يبدؤون بتكوين قصص وأفكار، من مخيلتهم، من وهمهم وفضولهم، يحاولون تفصليها لتناسب مقاساتهم، وأعمارهم، دون الالتفات لشخص المروي عنه أو الاهتمام بوجوده وكينونته.
قيل أن الحاج معزوز كان من الثوار القساة، الذين يفتتون الصخر، ويخرقون البحر، وظل كذلك إلى أن أعلن العرب انتهاء القتال، وطلبوا من الناس الانسحاب والالتزام بالهدنة، لكنه رفض ذلك، وظل يترصد الأعداء ويقنصهم، حتى قبض عليه العرب، قيل أنهم نكلوا به، عذبوه، واتهموه بالخيانة لخرقه الهدنة، ثم أطلقوا سراحه على ألا يعود للمعركة.
لكنه حين خرج، عرف الناس انه تبدل، فاغلبهم كان قد انسحب، ومن تبقى، كان يقع تحت ضغط الاحتلال، وضغط الجيوش المتمرسة من أجل الحفاظ على الهدنة، لكن شيئا جديدا قد نبت في رأسه هو، لم يتبينه احد، ولم يصرح به إلى احد، لكنه كان ينمو بسرعة، يشق طريقه من صدره إلى ساعديه القويتين، وفي ليلة، دوى الرصاص، فمزق سكون المدينة، خلع هيبتها، وجثم على صدرها ثقل لا يزاح.
وفي الصباح، كانت ثلاث جثث تتوسط معسكر الجيوش العربية، قيل أن اليهود، وفي غفلة من الليل اغتالوهم، وسرى الخبر سريان النهر في مصبه، ودفنوا.
لكن هناك من قال: بأن الحاج معزوز، خرج خلسة، والظلام ينشر عتمته، ومزق أجسادهم بالرصاص، ثارا لكرامته التي استباحوها، وثأرا للمدينة التي بدأت تسلم للعدو شبرا خلف شبر، ولكن أحدا ما، لم يجزم بذلك، وتلفع الحاج بالصمت، تلفع المقابر بصمت الموت.
سألته ذات يوم، هل كنت تقاتل العدو؟ وهل قتلت أولئك الذين حالوا بينك وبينهم؟
تنفس بقوة، يا بني، كل واحد يسير على هذه الشوارع، كل من في المخيم، وكل من في المدينة، له قصة، ولكن، يقدر لبعض الناس، بعضهم فقط، أن تعرف قصته، أن ترى عيون الآخرين وهي تذرف الدمع، أو تمتلئ بالدهشة، ولكن البيوت أسرار، والصدور أسرار، هل سمعت بالمثل القائل" صدور الرجال صناديق مقفًلة"؟ هذا صحيح، ولو قدر لك أن تعرف عن بعض الناس ما أعرف، أو نصف ما أعرف، لتحولت إلى عجوز في التو واللحظة، الناس تقترف الأشياء، بكل صلف وعنجهية، لكنها تؤمن بان صلفها وعنجهيتها حق يتماشى مع شخصياتهم وتكوينهم، الموت، لا يحل مشكلة، والمرض يحل بعض المشكلة، لكن العجز المقرون بالخوف، وحده القادر على نسف بؤر الأشياء من قاعها، من جذورها.
هل رأيت بحياتك ظالما بيديه كل أدوات الموت، ينشر الرعب والخوف والهلع، هل رأيته وهو مقيد بين يدي رجل والموت يجول بعينيه؟ يتكلَب بجوف نظرته، كيف يتحول إلى قطعة قماش نتنة، ممزقة تخترقها حتى النسمات الرقيقة، يبكي كامرأة أقعدها موت ابن أو أخ، وحين تبدأ بالتوجه لاستلال روحه، يتهاوى، كغصن جاف، يتحطم في قبضة طفل.
الناس صور، صور مجملة، بخلفيات، بأبعاد غير منتسبة إلى الصورة ذاتها، كلهم يروي عن ذاته قصص الكرم، والنخوة، والبطولة، كلهم ابيض ناصع، لا خيط فيه ولا خط، لكن الحقيقة، الحقيقة، لو قدر لك أن تقد جلودهم، لتفتح على صدورهم، ومنها تطل على قلوبهم، لوجدتهم غير ذلك، لفاجأك السواد المتراكم فوق بعضه، طبقات كثيفة.
أنا يا ولدي عجوز هرم، أكل الزمن مني، وتكالبت الأيام على جسدي، ولدت لاحيا هناك، ككل إنسان، مع زوجته وأبناءه، لكني أجلس هنا، على رصيف لم استطع حتى هذا اليوم أن استجمع ملامحه وتكوينه، أجلس مع ذكرى كلب اسود، يشفق علي وعلى حالي، وأبنائي يعيشون في الجهة الأخرى من المدينة، يلاعبون أطفالهم، ويدغدغون زوجاتهم.
قال ذلك وانصرف، فأحسست بعيون الكلب الذي لم أعرفه من قبل، تخترق الموت والرصيف لتصوب نحوي نظرات قاسية، فيها عداء مريب، ووعيد مرتقب.
يوم عدت من جامعة الخليل، لقضاء إجازة الصيف مع أهلي، رافقني زميل من هناك، كنت قد حدثته عن الحاج معزوز أكثر من مرة، لكنه لم يحمل كلامي، محمل الجد، بل جل ما قاله، انك تنظر للأشياء من زاويتك الرومانسية، الناس جميعهم واحد، يختلفون، تماما كما تختلف تضاريس الأرض، ويتلونون كما الطبيعة تتلون في ربيع غني، ولكن المفاجأة التي رجت كياني وكيانه، أتت في اللحظة التي رأى فيها الحاج معزوز يتوسط الرصيف تاركا مساحة خالية تتسع لكلب مقعي.
قال لي مرة واحدة، باندفاع مفاجئ، الحاج معزوز، هذا هو، أليس كذلك؟ قالها بعد أن تجمد مكانه كقطعة جليد تغوص ذراتها ببرودة لا ترحم، أنا أعرفه، منذ زمن بعيد، صورته معلقة ببيت عجوز في مخيم قريب منا، هو، نعم هو، هذا رجل يخاف الخوف منه، كل الذين يعرفونه منذ الهجرة، يتحدثون عنه، يروون عنه قصصا تلامس الخيال.
نظرت نحو زميلي، ملامحه بدأت تتفكك، تتساقط، تحول من الرجل المنطقي، إلى رجل تستبد الدهشة منه وتتمكن، هالني المشهد، فلم أعرف كيف أتصرف، توجهت نحو الحاج معزوز، وأنا ممسك بيد زميلي، قلت: هذا الشاب يعرفك، يقول أن صورتك معلقة، في بيت رجل في مخيم قرب مدينة الخليل.
لم ينظر إلينا أبدا، كان على غير عادته، يمعن في البحث عن أفق مغلق، عن سر لا يفتح، ثم انسل دون أن ينظر إلي أو إلى زميلي، بهدوء مربك، وتوارى في الزقاق.
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم