كنت وحدي حين هبطت من ذلك الشاهق، أراوغ غيبتي وأنتظر، أسكن نفسي، ألزم صمتي، أرتلّ ما تيسّر لي من خفقة القلب، قطيع من الظلمة يخبط ناظري، أنكفئ إلى الخلف، أدور حول نفسي، تنبسط كفّاي، تتسلّل قدماي من جوفي، تضرب سطح العتمة فرحة، ذراعيّ يخال لي أنّهما جناحان، أحلّق بهما في فضاء من سائل لزج، تهدهدني مويجاته، أتأرجح فرحاً في فراغ شاسع، يمتدّ ما شاء لي، أتبعثر كما قطرات الندى، ألج بحوراً وفضاءات، أغفو على وريقة وردة، يلملمني نبض له كنه النغم، أنقبض، أعود إلى نسغي الدافئ، يراودني النعاس، أتشبّث بأضلع تحيط بكوني الفسيح، أشهق برائحة التفاح؛ فأنام على سرير من موج ساكن. الساعة المعلّقة على الضلع الأول متوقفة عند الثانية عشرة بعد منتصف الظلمة، تتوهج بين الحين والآخر أقمار زاهرة، تنتصب أمامي تسعة أبواب، خلفها نافذة صغيرة، يندلق منها ضوء وامض، مذ رأيته أصابتني رعشات من القلق، أغمض عيني، يرتبك رقادي، تتفتّح أذناي على أنين ريح عاتية، تحمل غيمة ملبّدة بالسواد، موبوءة بالرماد، تجوب جهات عوالمي الجميلة، تهرول خلفي، أتعلّق بأضلع كوني، تقتلعني، أسقط في الفراغ، أتدحرج مزدحماً بالخوف، تصهل في جوفي صرخة، أكتمها إلى حين، كقابض على جمرة، لأول مرة أحسّ بضيق المكان.
المبصر ـ قصة : رشيد بلفقيه
حلم الليلة الماضية حلما جميلا ، رأى فيه في ما يرى النائم كل هوامش أفكاره الماضية تتوحد في النص الشارد و تلمع تحت الضوء الساطع و قد تبخر كل ما كان يغمه و يقض مضجعه وصارت كل العوالق المتبقيات على ما يرام. باختصار ، رأى أن حياته قد صارت مكانا مثيرا و جميلا و يصلح فعلا للعيش ، عندما استيقظ قرر أن يحبس نفسه داخل الحلم ، لذلك غادر السرير بعد لأي بعينين مغمضتين .
وقف أمام المرآة ،غسل ذاكرته من كل ما فات و نسق ملامحه كما اشتهى لأول مرة منذ سنوات ، تناول فطوره بتأن و لأول مرة استساغ مذاق الخبز الجاف و الجرعات المتتاليات من كأس الشاي المعتادة .
إلى الخارج مشى يعيد اكتشاف العالم كما يشتهي عبر ظلام جفنيه الاختياري ، رسم الوجوه باسمة بعمق، و الشوارع منسقة و قد شفيت من فوضاها المزمنة و التأمت حفرها ، ورود نبتت هنا و هناك و زّينت الشرفات اللامعة ، جرائد توزع بالمجان و كتب على مد البصر، مقاه ولجت عصر ما بعد عرض المباريات و التهام الأجساد الغادية الرائحة ، الكل منخرط بتلقائية في السير بتلقائية في نظام خفي تحرسه يد لا مرئية . شرطي المرور العابس غالبا بدوره بادره بالسلام مبتسما بود ، بائعة الفواكه كذلك تبسمت له رغم انه لم يشتر منها شيئا . انتشى كثيرا و أحس بجسده بالكاد يلامس الأرض.
دمى من القش ـ قصة : إبراهيم البوزنداكي
طفرت من عينيه عبرات حارة و انحدرت على وجنتيه المتغضنتين بصمت. تراءت له الدنيا خلاء و قفارا من دون شريكة حياته التي قاسمت معه الحلوة و المرة، و قاست معه من شظف العيش و نكد الحياة مدة غير يسيرة.
هاهي الآن يحملونها عاجزة على هذا النعش الخشبي الأصم، يرددون عبارات شهيرة:" مولانا نْسعاوْ رضاك و على بابك واقفين...
يكاد يرى ابتسامتها الأخيرة على وجهها الذي أنهكه الهم و الحزن. عيناها الممتلئتان محبة و حنانا ودّعتاه، و لسانها لم ينطق إلا بكلمتين: نلتقي هناك، وداعا.
"هناك" لم تنطقها شفتاها و إنما كانت إشارة من سبابتها إلى السماء. كانت تعني أن العشرة الطيبة لا تنتهي بفناء الجسد، إن هو إلا غلاف لما لا يفنى: الروح.
الروح هو الكيان الخالد في الإنسان، و على هذا فالعشرة بينهما لا تنتهي بانتهاء الأجل في الدنيا، بل ستستمر هناك. إن هو إلا انقطاع يسير، لمدة معلومة، و كأنه عقاب من نوع ما. لأن المتحابين المتآلفين لا يرضيان بالفراق و لو لبرهة. الأكيد أن مثل هذا الانقطاع يزيد من المحبة و يقويها.
يا شيخ ـ قصة : حميد بن خيبش
أطلق عليه النار فندت عنه آهة سرعان ما خفتت ليسلم خده للإسفلت .
اشتباه ؟
ربما،لكن لغة محاضر الشرطة لا تسعفه ليلا ليخلد إلى النوم صافي الذهن كأي بريء في هذه الزنزانة الأبدية . تلك الحقيقة الموجعة التي تسربلت ساعتها بظلمة دامسة ,في ليلة شاتية بُعيد صلاة العشاء, تؤرق مضجعه.لم يكن الأمر اشتباها بل رغبة دفينة في "تنظيف " الحي من الملتحين أمثاله! هذا الشيخ الذي ما إن وطئت أقدامه مسجد الحي حتى أومضت في العقول والأرواح شعلة اليقظة.
للكينونة سحرها,وحين يطمئن الآدمي إلى تعليل ما لسر الوجود ,وحكمة الباري من تتابع الفصول الأربعة بين الرحم والقبر، فإن جذوة في الروح تتقد,ويحملك الذي كان حتى الأمس القريب مخدرا وملقى على ناصية الدرب كسقط متاع ,على احترام حقه في الظهور وصنع الحدث !
ابن تلك الأرض البعيدة ـ نص : أسماء بوفود
نحن النائمون فوق صخور الأرض الباردة، والمياه العكرة، التراب الداكن الذي أنجبنا عاقر لا يخرج إلا شوكا اسود.
تم ولدت وسط الجبال الشامخة والحياة الهادئة، والنفوس التي لم يرزقها القدر ذهبا ولكن أكسبتها الجبال عزة وصبرا.
الأيام هناك في ارضي أوراق مبعثرة، خطوط مبهتة، كلمات قليلة، تمر الأيام دون أن نعلم أن الكلمة فراشة تطير لتجعل الجو مخضرا مزهوا بلحن جميل. كان الصمت سيد المكان ومالكه، والابتسامة أميرة الزمان تلك الرشيقة التي تتحرك كل صباح بدون كلل لتنشر الدفء في الأجساد الباردة وتزرع الحب في الدماء الراكدة، تترنح يوميا في بين الحقول والوديان، بين الزرع والريحان، لتنير الطريق وترقى بالشعور والإيمان.
سيرة الفرح ـ نص : عبد المطلب عبد الهادي
جربنا الهمس والصراخ.. جربنا الصمت والكلام.. جربنا الضحك والابتسام..
لم لا نجرب الفرح..؟
لعل أمام محرابه نندهش.. ننبهر.. ننفعل.. نعود لطفولتنا ونترك لإنسانيتنا أن تنساب شفَّافة تمحو ما علق بدواخلنا من ألم وحزن وانكسارات وخسارات.. ونفتح بالفرح للأمنيات كفا ترتاح على أعتابه البسمات.. ونطوي صفحات ذوات تُجيد احتراف الحزن..
الفرح.. ضدا على القهر والغبن.. ضدا على الألم والحزن..
الفرح.. حتى لا نفقد عادة الابتسام ولا نعطي للآتي فرصة أن يُسقط أسناننا ونحن نَعْبر الزمن الظالم..
الفرح.. فعلٌ للمقاومة..
خفايا ـ قصة : نهله أبوالعز
فتح الهواء البارد نافذة الغرفة المقابلة لنافذته، لمحها وهي تلملم خُصلات شعرها الناعم القصير وترفعها بيدها لأعلى، شعر بأن الهواء كان يقصدها فهي ترفض الظهور دائماً، يقولون في الحي إن موت والدها منذ سنوات افقدها الثقة بمن حولها، ويقول البعض الآخر أنها متزوجة سراً بهذا الشخص الذي اعتاد التردد عليها بين الحين والآخر.
لا أحد يعرف عنها شيئاً مؤكداً ولكنه عرف اليوم أن جمالها ليس له حدود ترتدي قميصاً أزرق ناعما يُخفي كل مفتانها، وفي نفس الوقت يُظهر جمالاً لا يعرفه إلا متذوق مثله، تنهد وهو يدخن سيجارته أنزلق الدخُان في صدره دَفعة واحدة غلبه السعال، سمعته واكتشف تلصصه أغلقت النافذة بغضب، أدار ظهره للهواء وهو يفكر في نظرة عينيها وعمقها.
هل تتذكرين؟ ـ قصة : إلياس أعراب
هل تتذكرين ؟ أم انك، مسحت كل الذكريات الجميلة التي جمعتنا من قاموسك؟ اعرف أن لك حياة جديدة، بصحبة رجل ثاني. هو لا يعلم، أن رجلا أخر، سبقه إلى شفتيك الجميلتين، لا يعرف أن يدا أخرى، تحسست جسدك تحت جنح الظلام، غير يديه، لا يعلم بالمواعيد الغرامية، بالهدايا، بأنك قلت احبك لشخص أخر.
أنت تتذكرين ذلك، حتى وان تخلصت من كل الهدايا التي تذكرك بي، و مسحت اسمي من مفكرتك، لن تستطيعي مسح قبلاتي ، ولا لمساتي الدافئة.
هل تتذكرين تلك الليلة؟ قبل أربع سنوات، أواسط شهر مارس، كان اللقاء الأخير، كان الجو زمهريريا، جعل أذني تلبسان اللون الأحمر و أنا انتظر قدومك. أتيتني مسرورة، في ذاك المكان المعهود، تحت شجرة البلوط، تذكرينها، أليس كذلك؟ كانت الابتسامة بادية على محياك، ظننت انك فرحة للقائي، أمسكت بيدك كما العادة، لكنك على غير العادة سحبتها بسرعة، وقلت لي: لدي كلام يجب أن أقوله .