إن التفكير في الإنسان في مثل هذه اللحظات شيء مخيف، التفكير في الوضع البشري الذي لا يبعث على التفاؤل أبدًا، بله، يكون التفاؤل سخرية من الوضع، لكن يا لشقاء الإنسان إذا لم يكن قادرا على طرح السؤال، فذلك يعني أنه لم يعد بمقدوره أن يمارس الرفض، أي أن يفكر أي أن يقول لا.
مالذي يُعدِم الإنسان في الإنسان؟ ليس هذا الذي نسميه انسانا سوى الكائن الوحيد القادر على قول لا، القادر على ممارسة الرفض، ومتى توقف عن ذلك فقد انسانيته، لقد نَاصَب سقراط-افلاطون الكتابَة العداءَ، لأنها العنصر الذي كان يحفظ النظام الإجتماعي، فمتى شاعت، شاعت الحكمة وفقد مجتمع القلة أفضليته بحصول المشاركة في ما يمثل القوة على البروز والتعبير عن الذات وتحققها، بعنصر الكتابة يدخل الكائن مجتمع الأنداد لأنه يصبح شخصا، شخصا لأنه مارس الرفض، وقد كان قبل ذلك مجرد أداة، مجرد تعبئة داخل المدينة، إنه الحطب الذي يسمح لشعلة النظام الاجتماعي بالاتصال.
هذه هي أعظم قضية من قضايا المدينة إن لم تكن موضوعتها الأساس، كيف يتم الحفاظ على النظام الإجتماعي، كيف يتم انتاجه، وكيف يصبح الإنسان مجرد حطب وتعبئة للحفاظ على هذا النظام
لقد سمحت الكتابة دائما بنزول المتعالي إلى الساحات العامة، فقد كانت دائما قائمة في ضدية المطلق قائمة في ضدية الميتافزيقا، إن الكتابة هي العملية التي يتم من خلالها خلخلة كل سلطة وكل هيمنة، فهي التي سمحت بنزول التعاليم السرية إلى الساحة العامة، إنها ما يمنح القانون أحقيته ليكون على رأس المدينة تحفظ سلطته وتحفظه هو نفسه (فرنان 1962 )، وبذلك فإن الحدث الأكثر جلالا في تاريخ أي حضارة إنسانية هو الخروج من الشفاهة والدخول في عرف الكتابة، ذلك أن الشطط كل الشطط في ممارسة السلطة دائما ما كان لصيقا بالشفاهة وبالخطابة، غير أن البئيس جدا هو الدخول في الكتابة دون التخلي تماما عن ذهنية الخطاب وشطط الكلام.
إن مجتمع القلة هو مجتمع الإقتران الحاصل بين السلطة والرأسمال، هو نفسه قضية خلق مجتمعين أو أكثر داخل ما يُفترض فيه أن يكون مجتمعا واحدا، وتغيب فيه الندية والشخصية، ثم إن قيمة الشخص لا تقوم إلا داخل مجتمع الأنداد بوصفه مجتمع الفرص المتكافئة، أما مجتمع القلة ولكونه يتكون من مجتمعين فإن الذين يكونون دون ندية القلة في الغالب هم نفسهم أداة حفظ هذا النظام وهذا التراتب، وهم في الغالب يسيرون في طريق فقدان انسانيتهم، حشد من الناس لا يستطيع أن يمارس الرفض، يتم افراغهم بمختلف الكيفيات من شخصياتهم وحملهم على الدخول والانخراط في الدفاع عن حقائق لا تمثل شخصيتهم ولا مصالحهم.
في مجتمع القلة يحصل الإنسان على ما دون الكفاف، ويعيش دائما على حافة الفاقة والعوز، إن المحرك الأساسي له هو الحاجة، وبذلك لا تتعدى أقصى مطالبة مجرد العيش، مجرد الاستمرار على قيد الحياة، وقد تم بذلك تعريضه للحصر، للقمع، للكبث، كلما أراد أن يقول لا، توجس خيفة من شبح الحاجة، إن أغلى ما يملك هو مجرد العيش وهو ليس مستعدا للتنازل على هذا المِلك، وهو بذلك انسان عارٍ من الإنسانية.
قامت الحضارة على موضوعة الحصر، كبث مقومات الابداع والاقتدار على المبادرة، والسعي في خلق فرد لا يسأم وبالتالي لا يمارس الرفض، ويبدو -أنه بعد إحلال مبدأ العائد محل مبدأ الواقع، وحصر مبدأ اللذة بوصفه منبع كل رفض أصيل يمكن أن يمارسه الكائن- يبدو أن مبدأ العائد يتراجع في مجتمعات القلة ليصبح مبدأ الحاجة، الذي يؤسس لمقولة مجرد العيش
إن مجتمع القلة بوصفه مجتمع غياب الندية والشخصية وغياب تكافؤ الفرص نتاج بؤس الديموقراطية داخل المجتمعات البئيسة، ذلك أن الذي تقوم عليه هذه القلة هو الانتخاب، والأغلبية التي تعيش مجرد العيش هي نفسها التي تنتج هذه القلة بل هي ضرورة وجودها، ذلك أن الانتخابات داخل مجتمعات اقتران السلطة والمال لا تعدو أن تكون وهما، وبهِ، فليس كل كائن دون القلة سوى أداة لحفظ النظام والتراتب الاجتماعي، والديموقراطية في المجتمعات البئيسة تنتج نفس معضلة المدينة، إنها تخلق مجتمعين داخل ما يُفترض فيه أن يكون مجتمعا واحدا، والفلسفة نفسها بوصفها اشد أنماط التفكير مناهضة للعبودية غير قادرة على حل المسألة ذلك انها – الفلسفة – تزيد من بؤس المجتمعات البئيسة ( نيتشه 1873 )
من أقنع الضفدع أن البركة الضحلة خير من الجدول الرقراق. هذه خير استعارة للتعبير عن مسألة مجرد العيش، وكيف يصبح كل نظام اجتماعي مبرّرا سلفا، لأن الإنسان يقع بسهولة تحت عبودية البداهة والعادي، وما تنجح فيه السلطة في مجتمع القلة هو جعل الكائن ناسيا، إنه ينسى مساءلة أسباب هذا التبرير، ولأنها تُشغله بمجرد العيش فهو ينسى التفكير ويخرج عن خاصة ممارسة الرفض، فالغاية هي ألّا يملك المرء الوقت للتفكير لكي تستطيع مظاهر البؤس والشقاء وانفعالات الحزن أن تتقوى، وحين تتقوى هذه الانفعالات فإن أي واقع اقتصادي يصبح مبَرّرا.
وبالتالي فكل فكر جدير بأن يُسمى كذلك هو الذي يَجْهَدُ في إعلان ضديته للبداهة، المقتدر على التفكير في العادي دون أن يصبح عاديا، القدرة على طرح السؤال؛ مالذي يؤسس لهذا العادي، لما يبدو عاديا وبديهيا، يَجْهَدُ مجتمع القلة سَعْيَهُ في جعل الفرد يسقط في عبودية العادي، هذا العادي الذي لا بد له أن يَستمد سلطته من سلطة أولى، غير أن كل سلطة تبدع في جعل الفرد ينسى، ينسى منشأها، ومن الضروري أن تكون قد نشأت على تهافت سلطة أخرى، إنها نتاج فوضى، غير أن ماهيتها التي تقوم على حفظ ذاتها ومقولاتها تجعلها تبدع في جعل الكائن ينسى هذه الموضوعة، وتؤسس لحقيقة أنها نتاج نظام، نتاج نوع من الترتيب، ومن هذه الموضوعة تستمد مقولة التبرير سلفا قوتها.
الحقيقُ أن لا شيء مبرر سلفا، وإن بدى عكس هذا، كل، فكر، هيمنة، حقيقة، نص، يؤسس لمقولات تبريره، يؤسس للمعرفة، للحقيقة التي تشد عضضه، إن الكتابة هي ما سمح لموضوعة الساحة العامة، الفضاء العمومي، بأن تقوم، فهي التي أسست للنقاش، لإمكانية النقاش، بأن جعلته ممكنا بإبعاده عن شطط الكلام، والدخول به الى نظام الكتابة، الى ترتيب الكتابة، وبهكذا شكل أسست الكتابة للنقاش الاجتماعي والسياسي، من باب تأثيثها للفضاء العمومي، لقد انزلت مقولات سلطة المدينة الى الفضاء العام، لقد أمسكت الكتابة المتعالي، وقالته، وحفظت القانون من حيث رسمته، اعطته حرية، حررته من المدينة، وحررته من شطط الكلام، وتغريض الشفاهة.
إن الكتابة، يبدو، كانت أكثر أشكال الرفض أصالة، لكنها نفسها ستغدو أداة عزل ومشاغبة أخلاقية حين عادت حكرا على فئة دون أخرى، إن الكتابة وحدها إذن لن تؤسس للفضاء العمومي أبدا، ولن تكون أداة النقاش العمومي، فلابد لها من القراءة، إن هذه الموضوعة لا تبعث على التفاؤل ابدا، وذلك حين نفكر في القنوات التي تمر منها الكتابة، النوع الجديد من الرقابة في زمن تعدد القنوات التي يمكن أن تمر منها أداة الرفض هذه، إن أي سلطة من حيث ماهيتها المتمثلة في حفظ ذاتها ستفكر في كيفية كسر أداة الرفض هذه، وفي ظل تعدد القنوات التي تسمح لها بالظهور فإن الحل هو أن لا تتم القراءة، إن ما يقوي الكتابة هو القراءة، وهذا ما يتم إضعافه في مجتمع القلة.
ستغدو الكتابة، إذن، التي كانت في البدايات هي ما يُنزل المتعالي الى الساحة العانة، ستغدو متعالية، ستعيد أشكال الهيمنة إقناعها بأنها لا تنتمي الى الفضاء العمومي، وإنما تنتمي الى المتعالي، الشيء الذي سينجب مجتمع النفاق المعرفي، أي النخب، وهو مجتمع ثالث يسكن بين القلة، ومجتمع ما دون الأنداد، هذا المجتمع الثالث لا يخدم لا مصالح القلة، ولا مصالح ما دون الانداد، ولا مصالحه هو، هو مجتمع يقع تماما خارج الحياة، مجتمع يُعلن أن العالم أقلية قياسا اليه، وبالتالي يبتعد بنفسه عن هذا العالم ويعانق المتعالي ويؤسس ما يشبه الاخويات، غير انها اخويات لا تستطيع التأثير في المدينة ولا المشاركة في نقاشها بحق.
هل هي نفس معضلة الديموقراطية داخل المدينة؟ لقد كان الفكر الفلسفي أبدا ابن الاخويات السرية، غير أنها داخل نظام المدينة كانت اخويات فاعلة، لقد أسست أولا لفكرة الهامش، لضدية الرسمي، للمغاير، ثم تسربت الى الساحة العامة عبر قنوات متعددة، تعرضت للنقاش العمومي، انبرى لها الفرد داخل مجتمع الانداد بالتأويل والتفسير، فولِد هذا الذي نسميه فيلسوفا، لكنه ظل يحمل في طياته انتماءه للمتعالي والنقاش العلني على حد سواء، سيظهر مجتمع النفاق المعرفي، النخبة، حين تعود المدينة وتقنع الفيلسوف أنه لا ينتمي الى الفضاء العمومي وإنما الى تعالي السر. (فرنان1962)
لطالما كان السر سلطة أولى، ولطالما كان مقولة من مقولات المدينة التي تحفظ استمرارها، من باب حاجة كل سلطة الى نظام حقيقة، ولطالما كان هذا السر نفسه هو ما يهدد المدينة، ويبدو، لهذا ظل السر يسير على هامش ما هو رسمي.
غير أن موضوعة السر تتخذ أشكالا ثلاثة، داخل كل قناة، فهي تؤسس فكرة السلطة الأولى، وتؤسس للمجتمع الذي ينمو بجانب رسمية المدينة، وتؤسس لركود مجتمع النفاق المعرفي وسكنه خارج الحياة.
يستمد السر سلطته من أسمٍ أولٍ ما، إن وظيفة السر ليست فيما له من وجود فعلي، أو ما يمكن أن يكتسيه من موضوعية، إنما وظيفته تكمن في قدرته على تغذية التأويل، فتحه المستمر لأفقهِ، إن كل فلسفة ليست سوى استجابة لفكرة السر، لشبحية المعنى، لضبابية الحقيقة، يصبح السر معطىً فقط من باب كونه محرك عملية التأويل المستمر، ومن يمتلك سلطة التأويل دائما يمتلك سلطة التشريع للحقيقة، على كل سلطة أن تملك سرا، أن تشارك في اسم أول، فمن خلال ذلك تمتلك التأويل، تمتلك سلطة تشريع الحقيقة.
لا بد لكل سر أن يكبر فوق تهافت حقيقة سر آخر، وهذه قضية سياسة محضة، السر القديم يستمر في النمو مجددا على هامش المدينة، إن بقاياه تستمر وتعمل على تقويض السر الجديد الذي أسس لحقيقة المدينة الجديدة، غير أنه لا يملك من الجهد ما يستطيع به بلوغ الحقيقة، لقد فقد نديته داخل نظام الحقائق، إن المجتمع الذي يخلقه السر القديم هو مجتمع ما دون الانداد، مجتمع تنعدم فيه الشخصية، عوض مجتمع الأشخاص الذي عبرت عنه المدينة بحق.
ما هو سرّ أوديب، هذا هو سؤال مجتمع النفاق المعرفي، السر الذي يجعل أوديب يشيح ببصره عن العالم، إعلان، لم يعد العالم يعنيني بعد هذا، وسر الوحش الأسطوري المفترض. إن الذي لم يتمكن اوديب المازوخي من تحمله هو العاقبة الأخلاقية، وهي عاقبة واقعة لا محالة، فهي محكومة بسلسلة الوقائع المادية الأخرى، هذا السر الضئيل هو الذي حمل اوديب على تحمل عماه، وأعلن اقلية العالم، ان الضغينة اتخذت منحى معاكسا عند المازوخي، الحدث الأكثر سادية، هو ذاك الذي قام به المازوخي الذي يحمل ضغينة اتجاه العالم، محاولة عقاب العالم من خلال إنزال العقاب بذاته هو، هذا ما قام به اوديب.
إن سر أوديب، وسر النخب، مجتمع النفاق المعرفي، سر واحد، إنه الضغينة الحادة اتجاه العالم، انه ما يسمح لكل هيمنة باستغلال مقولة الخطيئة، إن مجتمع ما دون الانداد يبقى دائما تحت نير الخطيئة، تحت نير القدر المحتوم. واشاحة مجتمع النفاق المعرفي بصره عن العالم هو ما يسمح بهذا التغريض والمشاغبة الأخلاقية.