يرتجف اللحظة كديك مبلل..
لم تسعفه ركبتاه على الوقوف فألقى بجسده على مقعد مهترئ بجوار مكتب القائد. عسو الذي يهابه من في الحي, ولا يجرؤ أحدهم على التنديد بعربدته أو التذمر من متتالية الكلام الساقط التي تعقب جلسات الشرب الصاخبة كل ليلة.
عسو الذي قلما غاب اسمه عن حادثة نصب أو احتيال ,ثم أفلت من قبضة الاتهام بدهاء ثعلب.
عسو الخبيث وقاهر الأرامل سيحج بيت الله الحرام !
أية قرعة عمياء تلك التي أوردت اسمه ضمن محظوظي البعثة الرسمية لأعوان الوزارة ؟! لا شك أنها مزحة ثقيلة من "سعادة" القائد المتجهم طيلة أيام الأسبوع. لكن الورقة بين أصابعه ترتجف اللحظة, وفيها إخبار بانتسابه هذه السنة لبعثة الحج. لا,هذا غير معقول ! كيف بلع الجميع ألسنتهم ولم يعترض أحد ؟ أهي الصدفة أم مشيئة في السماء ترتب لمنعطف آخر في حياة عسو ؟
حيى زوجته على غير العادة ثم ارتمى فوق سريره.عم المكان هدوء مشوب بالحذر.لا شك أن الزقاق سيضج بالنكات الساخرة حين يذاع الخبر :
ـ " الحاج" عسو عائد من الخمارة !
ـ ما ذنب ضيوف الرحمن حتى يعكر عليهم صفو المناسك.
ـ يهدي الحجيج لذويهم قارورات من ماء زمزم أما الحاج عسو فلن يتوانى عن تقديم مشروب آخر !
لن يتحمل الغمز واللمز من أبناء ال...لا وقت للشتائم القذرة الآن حتى يفرغ من أداء المناسك.
وقعت عيناه على مصحف صغير في الدولاب المحاذي لسريره.إنه للابنة الوسطى التي تقضي سحابة يومها في دار القرآن. أرغمت المسكينة على الزواج من مهرب للأحذية والسجائر مقابل تسديد فاتورة غامضة.وحده عسو الرابح دائما ! بعد شهر عادت إلى البيت مهشمة الأضلاع وحول العينين هالات زرقاء.لم يملك القاضي غير الحكم بالتطليق غيابيا بعد أن قدمت المسكينة عرضا هستيريا ليوميات العذاب.
لم يكن عسو أبا بالمقاييس العادية, فالزوجة التي انتابها خوف من المستقبل سارعت إلى امتلاك سلاح الذرية لتثبيت وضع هش :
ـ لكل مولود رزقه !
تلك ذريعتها دائما كلما انتفخ البطن ليُرغم عسو على إضافة متسابق جديد إلى قائمة الأمعاء الخاوية. لم يفلح في ثنيها عن خوض حرب ديموغرافية لذا قرر التعبير عن تذمره بشكل عملي : ما إن يشب أحدهم عن الطوق حتى يلقي بالصبي في ورشة للنجارة,وبالفتاة خادمة في البيوت مع تحميلهم الصائر !
تفحص الورقة مجددا عل تشابها في الأسماء يعيد الأمور إلى نصابها. لكن رقم الخدمة التسلسلي يفيد أنه المعني. حدق في السقف كعادته حين يستعيد شريط حياته في لحظات الصحو المعدودة :
ـ كيف يعبأ الله بخنزير مثلي لم تطأ قدماه باحة المسجد سوى مرتين,الأولى للتبول في مراحيضه النقية,و الثانية لإبلاغ الفقيه احتجاج السلطة على تماديه في شتم اليهود, وتذكيرهم بفاجعة خيبر !. أجدير أنا حقا بلفتة ربانية تمحو كل الويلات السابقة؟
ارتبك قليلا قبل أن يطرق باب غرفته.الضوء الخافت المتفلت من شقوق الباب يفيد أن الفقيه لازال مستيقظا :
ـ في الأمر حكمة قد تحجب عنك غشاوة الآثام وميضها. لكن, من يجرؤ على التشكيك في رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟ أسمعت يا عسو؟ كل شيء ! فاهنأ بما ساقته إليك المقادير.
وضع رأسه المثقل بالأسئلة على المخدة. جوفه متقد كجمرة لكنه لن يسلم نفسه مجددا لغواية سفلية. سالت على الخد المتغضن دمعة ساخنة ثم دمعتان. بكى بحرقة كيوم خذلته أمه لتسلم نفسها لأخدود رملي في مدخل البلدة. صدى دعائها يتردد اللحظة في ثنايا ذاكرة متعبة. هتف بشوق وهو يستجمع ما تبقى في الفؤاد من ندم :
لبيك !