حين تنطفئُ جذوة الكلام تشتعل مسافات الصمت..
قالوا قديما.. إذا كان الكلام من فضة.. فالسكوت من ذهب..
فهل فعلا ـ في زمن الرداءة والخيبات ـ السكوت من ذهب ؟
أين ذهب الكلام حين أغلقنا دونه الأبواب والنوافذ واسترقنا الهمس والدَّندنة والصراخ الأجوف ؟هل تمرَّدت علينا الحروف وغيَّر الكلام مواقعه وسكن الآذان وحكم على الألسن بالصمت والخرص والبوار ؟
رغم الكلام.. لا صوت يُسمع في المحافل هنا وهناك.. نتكلم ونتكلم ولا نقول شيئا.. تصفيق يتلوه كلام وكلام.. ولا شيء.. كأن الكلام صمت..
هل نعرف متى يولد الصمت ؟
قال أحدهم وقد أصاب..
" يولد الصمت حين تموت الكلمات..
ويُعلن الكلام الحداد..
وفي حمأة الظلام.. ينغمس الحرف.. "
فهل ماتت فينا الكلمات ؟
منذ أولى خطوات العمر ونحن نسير معانقين الصمت.. بل نعيش على أهبة الصمت إلى أن أصبح الصمت عقيدة روَّجتْ لمِثل .. " حشومة.. عيب.. ادخل سوق راسك.. شغلك ؟.. وانت مالك.." ليبقى الصمت ذهبا والكلام فضة أو أقل بكثير..
تعلمنا الصمت فاحترفناه ولم نتعلم الكلام فضيّعناه.. وكان أجدى أن نُربي الحروف والكلمات داخل حناجرنا كما تُربَّى صغار الأسود..
إلى متى نؤجل الكلام ونمد للصمت مساحات وأد الكلمات ؟
متى بالكلام نضع الصمت وراء الأبواب المواربة التي تحجب ـ غدرا أو فضولا ـ عيونا تنشط في الظلام ؟
متى نجتاز باب الصمت إلى الكلام ونُحرِّر الحروف من المحاجر.. لا لنُثرثر كالببغاواة.. ولكن لنُعطي للكلام معنى ؟
لا بديل عن الكلام سوى الكلام في زمن أصبح فيه الصمت شعارا.. بل عقيدة..
صعب أن نبدأ بالكلام حين تعب كثيرون منه، وأصعب منه أن تجد الحروف لكلمات عميقة.. قليلة.. بليغة..
متى يُصبح للحرف حق الصراخ وللصمت أن يتوارى خلف الصدى ..؟
متى يُسمع للصوت حس وهمس ومعنى .. نراه عيانا.. يتلون.. يتعدد ولا يتبدد ؟
صوت يحلق بالحقيقة " لأن الأصوات العالية، الفارغة، تحمل هزائمها في ارتفاعها "..
حين يرتفع الصوت يُعلن انهزامه.. وحين يرتفع الكلام يُعلن التغيير والوقوف في وجه الصمت والفراغ والانهزام..
بالحروف نصنع موج الكلام.. حين تقف في وجه الانكسارات والتخاذل والسير مع القطيع الخانع..
باللام نُطيح وجه الظلم لاآت تمتد حتى تلامس الفضاء وامتداد المدى..
بالكاف نُكفْكِف دمع الواقف وحده في متاريس المواجهة لصد زحف القبح والممجوج..
بالميم نلملم بقايانا التي انسحبت إلى ظل الصمت حين كان للصمت سطوة وحين كان لونه من ذهب.. لننسج أسرارا تجعل من الكلام بداية ومنتهى وننخر به عمق الصمت لتنبعث منه الحروف قوية.. لمَّاعة.. شفافة تقف في وجه القبح والبلادة والممجوج والذي لا معنى له لتلون زمانا نسِي سر الكلام..
متى نجعل الكلام ذهبا والصمت فضة أو أقل ؟
متى نجعل من الكلام آية الصد ومواجهة القبح في زمن هجوم الصورة التي اتخذت لها مواقع الصدارة وهي تساند الفرجة المجانية والصمت؟
بالكلام نصنع الواقع.. نغير الواقع.. نقف به في وجه الظلم بأشكاله التي تنزلق بين الأشياء والمسميات متَّخذة أقنعة تصطبغ بالصمت والنفاق والتراجع..
الصمت في زمن الكلام تراجع.. نفاق.. وقوف حد التصلب والانكسار..
وبعد.. لنُخرص الصمت.. وليأخذ الكلام مواقعه لأنه الأجدر بالمقدمة .. والأجدر بأن يكون من ذهب..