مرضت زوجته فجأة وذهب بها إلى المستشفى حيت خيروه بين الانتظار لشهرين أو الرحيل بها إلى مصحة خاصة، حدثهم عن فاقته وعن شح دراهم يومه التي بالكاد تسد لقمة عيشه رفقة أسرته، احتقروه وتفننوا في إذلاله، طالبوه بشهادة الفقر متناسين أنه هو الشهادة بعينها، تم تركوه يطرق أبواب مكاتب عديدة ليخرج منها مهانا ذليلا.
بعد معاناة وبإصرار شديد أتى بالوثيقة المشؤومة، تم أدخلت زوجته إلى غرفة الفحص ودعاء الأمل لا يفارق لسانه، انتظر خلف الباب حتى خرج الطبيب فعلم أنها بحاجة إلى عملية جراحية عاجلة يعجز المستشفى عن القيام بها. قبل يده واستعطفه لعله يرأف بحاله، بلطف لم يعهده من قبل في مثل هذه الأمكنة، أجابه الطبيب ربما مشفقا عنه لبؤسه أو لجهله: العملية تحتاج إلى أجهزة متطورة لا تتوفر لدينا، تم نصحه بإحدى المصحات الخاصة.
ذهب على وجه السرعة مترجلا إلى حيث أرشده، وصل بعد ساعة من الزمن مرهقا والعرق يتصبب من جبينه ومن أطرافه، أخبروه عن الكلفة فأدرك على الفور أنها تتجاوز طاقته. عاد بخفي حني محبطا جريح القلب والأمل، تَراءى له من بعيد شاب متوسط القامة، أبيض البشرة، كان قد لمحه يتحدث إلى موظفة الاستقبال في المصحة أو هكذا تصور، قدم له نفسه على أنه ناشط جمعوي فتبادلا الحديث عن أسرتيهما وعن حكايته فاطمأن له أو هكذا توهم.
رمى بحجارة إلى النهر فأيقظني من كابوس مستمر، نظر إلي مليا وصمت قليلا تم تابع: انفرج صدري للحظات، قلت في أعماق نفسي لازال هناك طيبون في دنياي، أخد بيدي وتوجهنا نحو سيارة فارهة ركنت بجانب الطريق، خرج منها شخص رفقة زوجته الأربعينية يتحدثان لغة أجنبية، ربما الفرنسية، سرد عليهم الشاب حكايتي أو هكذا فهمت. همس بعضهم لبعض تم ربت الشاب على كتفي برفق وحنان، وحدثني عن حبهما للأطفال وعن سبب عقمها وأشياء أخرى لم أعد أتذكرها. انتابني شعور غريب وأحسست ان الأمر ينطوي على شيء خبيث لم أستطيع أن أفهم مغزاه ومبتغاه.
نظر برهة إلى حقيبة الطعم التي كانت بجانبي بين الصخور وتنهد بحرقة وتحسر: ذلك الشاب الذي حسبته من المحسنين ساومني على ابنتي على ان يضمن لها الزوجان حياة سعيدة وأن يأتياني بها في كل السنة مرة. لم أتمالك نفسي وأخدت برقبته وصرخت في وجهه بغضب شديد: اسمع يا هذا لا اريد منكم نفعا وإحسانا...
انهمرت الدموع وحفرت لها أخاديد فوق لحيته البيضاء، حاولت تهدئته: لا عليك سيدي هكذا اصبحنا وهذا هو حالنا مند سنين، مسح لحيته المبللة تم واصل متحاملا على نفسه : استجديت مدير المستشفى والأطباء والأقارب وكل معارفي لكن بدون فائدة فعدت بزوجتي إلى منزلي المتواضع...
تسللت العبرات من جديد وانسكبت على خده وتدحرجت حتى اختلطت بغمغمة التقطت منها بعض الكلمات...
- هون عليك سيدي، إنا لله وإنا له راجعون، لقد فعلت الصواب واخترت طفلتك وتركت المال...
- يا ليتني لم أفعل !
- لماذا يا سيدي؟
- بعدما قضت زوجتي صعب علي إعالة بناتي الأربعة، أشفقت علي أكبرهن فاشتغلت خادمة في بيت أحد كبار مسؤولي الدولة، أدلنا عليه أحدهم، باب رزق لم يكد يفتح حتى أغلق بعدما فقدنا الاتصال بها بعد وقت قصير ولم نعتر لها على أثر إلا مند أيام، أنها...
لعلكم اهتديتم إلى سبيلها؟
يا ليتني لم أعثر لها على سبيل؟
تم أشار بيده إلى الضفة المقابلة من النهر حيت الأضواء والسيارات وبائعات هوى وغرام وعشق وأشياء أخرى. أحزنني هذا أشد الحزن ولم أشاء أن أستمر في نبش جروحه التي لن تندمل.
أخرج صنارته من الماء خالية من دون طعم ولا صيد، سافر ببصره المتثاقل خلف الصخور الضخمة حيث عشاق متعة لحظية وسارقو بهجة أبدية وقال بصوت خفيت : لم يكن ذلك المسؤول صاحب المنزل الفاخر والسيارة الفارهة الذي اغتصب ابنتي سوى الطبيب الذي تاجر في الالم والأطفال والسياسة. تم استنشق الهواء بصعوبة وأتبعه بزفرة مجلجلة تأبى الخروج.