أنفاسالتحقت بالفصل الدراسي باكرا حتى أتمكن من كتابة أمثلة الدرس اللغوي قبل حضور التلاميذ . حجرة هذا الفصل تثير أعصابي فهي مقابلة لمكتب الحراسة العامة وأدنى حركة تقع في القسم يهرع لها طاقم الحراسة بكامله ويقتحم الحجرة بطريقة تشبه فرقة التدخل السريع ،كنت في البداية أظن أنهم يبالغون في أداء الواجب والسهر على انضباط المؤسسة ،إلا أن زميلا  أخبرني أن ما يصدر في الفصل من ضجيج يقلق راحتهم ويعكر صفو الهدوء الذي ينعمون به،وكم من مرة طلبوا من رئيس المؤسسة تغيير مكان مكتب الحراسة العامة،وكم فرحت لهذا الطلب فهو رغبة متبادلة بيننا رغم اختلاف الحسابات.
دخل التلاميذ الفصل وشرعوا في نقل الأمثلة على دفاترهم ،فانتهزت فرصة الفراغ الذي أوجد فيه وتوجهت نحو النافذة لأستطلع ما يدور بداخل مكتب الحراسة العامة ، أحسست بغبطة كبيرة وصلت حد الحسد وأنا أشاهد الطاقم الإداري يعيش لحظة استغراق في تصفح الجريدة أو ملء الشبكة المسهمة ومنهم من ذهب بعيدا إلى حد التمايل فوق مقعده منسجما مع ما يسمعه عبر سماعات يضعها في أذنيه.
ما أسعد هذه اللحظات، بينما أنا غارق في هذا الفصل أصرخ وأتراقص بين التلاميذ، أكتب وأمسح، والغبار يثناتر على جسمي كالرذاذ ،فلماذا لا أنعم أنا أيضا بهذه الراحة ، فجل من أعرفهم من أساتذة غيروا وجهتهم نحو الحراسة العامة بينما أنا أتشبث بالتدريس وأدافع عن رسالته النبيلة وكيف أن المعلم كاد أن يكون رسولا، كما أخذت عن الشاعر أحمد شوقي الذي ورطني حتى أصبحت أعتبر ما قاله حقيقة وليس شعرا .

أنفاسانتظار وراء انتظار ، انتظار يعمي البصيرة ، كأن الزمن رماد ينثره الهرج بسخرية سوداء . لم يبق سوى ساعة واحدة على بدء عرض المسرحية ، فصولها مرة و حامضة .  تدور أحداثها حول التطبيع وإشاعته ، يكثر المخرج النظر إلى ساعة يده متأففا :" أوف " ممطوطة ممدودة و مؤرقة . يسرع الممثلون إلى التواجد و الاستعداد لبدء العرض و الدقائق تمر مرا دقيقة بعد دقيقة ، ها هم الممثلون وراء الكواليس يعدون أنفسهم وملابسهم للحظة البدء . بعض الممثلين بربطات عنق مزركشة مزوقة بألوان شتى ، مصنوعة في أمريكا ، و ربما في إسرائيل .. البعض منهم بأحذية  لها بوز رفيع و بالبوية السوداء مطلية ، و أخرى ببوز عريض لامعة و براقة.. هنالك من هم  بكوفية ربطت بإتقان و تؤدة مثبتتة بعقال مدّور فبدت رؤوسهم كالطبلة البلدية .. منهم من يرتدي جلابية طويلة تجر على الأرض لونها ابيض ناصع مثل البفتة . تمتد أمامهم كروش كبراميل النفط ، وأجساد ملظلظة مكتنزة باللحم والشحم ومترهلة .. مع قلة الهموم يزداد حجم البدن أحيانا ليمتلئ بالفجوات والتلال .
أما الممثلات فقد بقين أيضا وراء الكواليس بصدورهن النافرة والعامرة بأثدائهن المشدودة شدا بسنتيانات أصلية قريبة إلى قلوبهن قرب حكوماتهن و تتكئ عليها ظهورهن و تستند. هن في غاية الجمال و لا يوجد أحلى منهن ، بالرغم من أن وجوههن مدهونة وملغمطة بالمساحيق إلا أن أجسادهن منحوتة نحتا بالجوع الاختياري -  الرجيم - فظهرن كعرائس بلاستيكية .. ارتدين تنانير ميني جيب إلى ما فوق الركبة بمسافة شبر فبدت سيقانهن مدّورة مثل شموع أعياد الميلاد البرتستنتي .

أنفاس تمايل جسده على السرير .يزداد مذاق النوم حلاوة في أيام البرد القارس.هكذا فكر،قبل أن يرن جرس المنبه ،على يسار وسادته، للمرة الخامسة. وقف فجأة متعصبا . مفعول سهرة البارحة الخمرية ، في أفخم صالونات المدينة ، ما يزال ساريا في دواليب دمه . سار حافيا تجاه المرحاض . وجد هناك ماءا دافئا جاهزا .غسل بسرعة فائقة . فعاد إلى المطبخ . تناول وجبة الفطور. بعدها أفرغ كأس "بيرة" في جوفه الغائر . نظر إلى وجهه في المرآة . وجده وجه خفاش أشقر ، كما كان منذ زمن بعيد . وبعد لحظات ، أراد له أن يكون وجه طائر وديع ، يوزع البسمات على شجيرات هذه الغابة ، فكان له ذلك.الجو جد بارد .أفرغ كأسا ثانية في جوفه العطشان .تحولت أنيابه ،في رمشة عين ،إلى منقار بهي ، وقرناه الحادان انهارا انهيار جبل ثلجي في بياض إشراقة شمس . من عادته أن يعاملنا بكل احترام و تقدير، في وطن الورود والأشجار المغـتـالة ، والقـطيع المدجج بسلاح الخوف والصمت القاتل ، والنار المحاصرة في زنزانة النار ، تأكل ذاتها ،عند عتبات الحرف والغضب الوهاج ... إن هذا الخفاش الأنيق ، ليس غريبا أن يعيش أكثر غربة و غرابة  في مغارتنا ..مغارة جسد حي ، كله حيوية و نشاط ، ينتج كل طاقة البلد ..،بما فيها طاقة الخفافيش الذين يحكموننا ..،في غابة ،يكاد يشلها الصراع غير المجدي ،صراع يشبه دورة العجلة المملة  .
هو خفاش من هيئة الخفافيش الوازنة .. مدمن على امتصاص دم الشجر و البحر ..بحرنا الذي يعترف التاريخ بقوته وعزة نفسه ،و الذي يبحث لنفسه، عن جهة أخرى ،غير جهة الصراع ضد العواصف الحديثة..تائها ضائعا بين دهاليز الليل العاتي .لا هو ليس ضائع .بل يؤجل فقط سعادته إلى اليوم المناسب .

أنفاس

====1===
مند أن أدركت معنى الأشياء من حولها ،وهي ترى ابن عمها ماثلا أمامها ،تحبه فيكرهها ،تتعلق به فيسحب يدها ويصدها .كانت مشاحنتها معه يصل الى حد لا يطاق ،ورغم كل دلك فقد كانت دوما رفيقة دربه في الكتاب والمدرسة ،ومساعدة له في أعمال الحقل وجليسته في أماسي الشتاء الباردة ،داخل مطبخ الأسرة القروي قرب موقد النار .
بين الدفء والدخان اشتد عود الصغيرة الوديعة استوت وأينعت لتصبح مرمى لأعين شباب القرية ،يحاصرونها ،يضايقونها ،فتعود إليه باكية مشتكية ،وككل مرة تثور ثائرته ،يشتط غضبا وحنقا يخرج مهتاجا نحو غريمه ،لكن بمجرد ما يواجهه يعود إلى رشده ويهدأ روعه دون أن يجرأ على تعنيفه أو حتى الكلام معه ،كان يحس وكأن يدا جبارة تمسكه من قفاه ،تفرمله تسحبه بقوة إلى الخلف تجره إلى دلك الركن المظلم قرب المسجد تطبق على فمه فيختنق وينهار ،يتجمد في مكانه .
====2===
كانت صفية دائما تشعر ببرودته وغور صمته في أعماق جسده النحيف ،حاولت مرارا اتارثه بشتى الطرق ،أغرته ،قبلته ،داعبته ،لكنه كان دائما شاردا ومنفلتا من قبضتها ،تحس بحرقته العجيبة ،بلوعته الخفية فتحاول استفزاز رجولته بحركاتها بعيونها ،بغنجها ،لكن صدى كل محاولاتها كان يتردد في الخواء …أضحت تحس بالوحدة والفراغ المهولين ،يؤرقها سؤال أنثوي غريزي حول ماهية من تحب ،هل هو فعلا….؟

أنفاس تركوه ملقى على سريره, بعد أن جَروه بعيدا هاشين عن جسده القتلة ... من الذباب , ولكن بعد أن احترقت يداه وما تبقى من اللحم النتن ....
 وقد اعتزم الرحيلَ عائدا إلى قريته بعد أربع سنوات قضاها هنا , منذ أن انتهى به المطاف إلى شارع المحجر بحي الخليفة بالقاهرة هارباً من البلد الصغير إلى بلاد الله العريضة الوسيعة , تَذَكَّّر يومَ جلسَ يكتبُ الخطابَ الأولَ لأسرته بعد  أن أمضى تسعةَ أشهرٍ في القاهرةِ ,  كان ذلك أول يوم يستشعر فيه , أنه يسير معتدلا , فعلى مدار الشهور التسعة  الفائتة , كان يبدو وكأنه يسير مقلوبا ويبدو غريبا لكل من يراه أو يسمعه , لم يهتم لكونه يبدو لنفسه مقلوبا ويبدو لمن يراه غريبا , بسحنةِ وسلوكِ الآتين من كوكب آخر , وإنما استمر في جهاده يحاول  أن يثقبَ تلك الحصون من العادات والتقاليد بإبرةٍ صغيرةٍ من الصلبِ , رغبة في استيعابِ أسرار القاهرة , و الاستغراق فيها شكلا وروحا , ورفضا أن يعيش أبدا ضيفا عليها ,غريبا ومقلوبا  , تبدأ الجملة الثانية في خطابه قائلا : في غرفتي نافذةٌ , أي نعم هى تطلُ على حارة ضيقةٍ , إلاّ أنني عندما ترنو عيناي فوق مستوى البيوت , تبين القلعةُ شامخةُ بهيةُ , ومن أجل أن تظل في عينيَّ شامخة بهية , أهزُّ رأسي متعمدا أن تتساقط  صورةٌ رأيتُها للسجونِ التي مازالت تئن فيها أشباحُ الآلاف من المصريين واللذين ماتوا مكبلين بالجنازير, وفوقهم كلُّ تلك المآذن والقباب الشامخة لا تشفعُ للصراخ , بل تبدو وكأنها  اسْتُخدِمتْ , ليرتفعَ بها الآذانُ خمس مرات في اليوم  عاليا  .. عالياً  , فلا تستمعُ القاهرةُ , لهديرِ الموت وهو يلتهم  أجملَ أبنائها  تحت هذه القلعة الشامخة البهية , أو ربما ..حتى لا تتأذى آذانُ الجواري والإماء والغلمان فيها .

أنفاسمد رجليه مستريحا، وتأملهما برهة طويلة ثم خطرت له فكرة.. لماذا لا يستغلهما في الجري والسباق..سباق الحواجزالتي أحكمت عليه الخناق من كل الجهات .. لماذا لا يجرب حظه فيتخطاها بجريه.. لقد جرى كثيرا..طاف الشوارع والدروب..دق أبواب جميع المؤسسات..الخاصة والعمومية بحثا عن عمل..لكن الحظ لم يبتسم له..ظل مكشرا عن أنيابه، أو ربما جهل عنوانه فلم يلتحق به.. بحث عنه ..جرى في جميع الجهات .. لكن الحظ كان أكثر سرعة فابتعد عنه .. ومع ذلك لم ييأس.. على الأقل أصبح يملك قدمين صلبتين وساقين قويتين بسبب خبرته في الجري..فليجرب هذه الخبرة وليشارك مع المتسابقين في السباق..الكل يجري ويتسابق..ابتسم الحظ للكثير.. ربما يبتسم حظه إذن هذه المرة.
هاهي الفرصة مواتية.. الكل يتحدث الآن عن تنظيم سباق جديد نحو القبة.. والباب مفتوح لكل المترشحين .. دعوة عامة لكل صاحب موهبة.. والفائدة كبيرة .. جميع وسائل الإعلام تشجع على ذلك..فليتوكل على الله.. وليأخذ موقعه بين الصفوف !
الجميع يهيئ حملته للسباق .. والباب مفتوح لاستقطاب المشجعين الهاتفين بأصواتهم .. الأصوات مهمة في هذه المناسبة .. وما على المتسابق سوى معرفة كيفية اقتناصها .. على كل هناك أبناء الحي الذين سيمثلهم .. إضافة إلى زملاء الدراسة الذين خانهم الحظ مثله.. لابد أن يتعاطفوا معه .. فقد شاركهم الاعتصام كثيرا.. ونال معهم ضربات مختلفة ماتزال آثارها بضلوعه .. سوف لن يخذلوه لأنهم يعرفون إخلاصه ..

أنفاسفي يوم من أيام الشتاء الباردة حيث الغيوم الكثيفة والأمطار الغزيرة جاءه عماه معا وأخذاه من القسم الداخلي . وقد قيل له بعبارة مقتضبة أن عليهم أن يذهبوا إلى القرية بسرعة . وما كان صاحبنا يجرأ أن يسأل عن السبب لما يعهد عليه عمه الكبير من جدية بالغة  وصرامة قاسية ، إلا أنه توقع أن هناك ولا شك أمرا جللا قد حصل ، وإلا فما كان هناك من تبرير لأخذه إلى القرية في هذا الوقت المتأخر من الليل ، والمدارس مستمرة على الدوام ، ولا اجازة أو عطلة أو ما يتطلب التعطيل في هذه الأيام ولا التي تليها . لقد مضى أكثر الطريق - الذي لا يتعدى الخمسة عشر كيلومترا - بسكوت قاتل ، فلم ينبس أحد خلال ذلك ببنت شفة قط . وكان هذا السكوت القاتل يشجع على التسريح في الخيال ، وتوقع ما يمكن قد حصل من أمر مهم . وبعقله اليانع الذي لم يتعد ثلاث عشرة سنة أخذ يتفرس في الاحتمالات المختلفة . وكان مركز التفكير في كل مرة ينصب على والدته المريضة بالتدرن الرئوي منذ فترة ليست بالقصيرة .
- أواه ماذا حصل ؟ هل ماتت والدته ؟ انها لفكرة ثقيلة جدا كصخرة كبيرة جاثمة على الصدر لا يمكن أن تزاح أو ككابوس طويل على القلب لا ينتهي أبدا . إنه لا يريد التفكير في ذلك قط . لا ، لم يحصل شيء من ذلك مطلقا . إنها الأوهام والظنون ، الشكوك والوساوس ، ولا شيء غير الوساوس ، والوساوس من الشيطان الرجيم . فعوذ وحولق ، وقرأ سورة الناس والفلق ، ثم رجع يحلق مرة أخرى في عالم الخيال الواسع الشاسع :

أنفاستدب على الأرض بعنف  , تتسارع أنفاسها فيعلو صدرها ويهبط  ثائراً , رقبتها الخمرية منتصبة وعليها يتوهج رأسها الصغير منفعلاً , شعرها الأسود الفاحم يلف وجهها منسدلاً  تتقاذفه حركات جسدها النافرة.
تدب الأرض.. تدور حول نفسها وتدور معها أعين تحسبها ترقص .. يتماوج شعرها تخفي به دموعها الغزيرة .. يدها تقبض على صناجاتها النحاسية تدق بهما بعنف لتخفي دقات قلبها الصاخبة .. تلقي برأسها للخلف في كبرياء جريح .. تمسك بطرف ثوبها الموشى بلون جرحها ..  تلف حوله.. تدخله بين أهدابها المسافرة.. ينظر إليها ..يعانقها بعينيه ويقبض بيده  على يد  أخرى تلبس خاتمه ..تقترب منه , تلفحه أنفاسها التي تشبع منها , يشم عطرها , يتذكر عرقه الذي اختلط به.. تميل عليه , تجذبه الأخرى  , يحكم قبضته على يدها فيشعر بوخز الخاتم ..
 شعرها يخفي نصف وجهها ونصف وجهه.. يرتعش.. تقف مبتعدة ..يظهر كل وجهه وقد اختفت معالمه.. تعانقه صاحبة الخاتم ,  تنبت له عينان ..تدب الأرض ويعلو التصفيق , ينبت له فم وأنف.. ينهض ثائراً..يدب الأرض معها , يدور حولها ممسكاً بخصرها.. يرتفع الضجيج تجذبه صاحبة الخاتم ,  يدور حولها , يقع قلبه على الأرض  .. تدب الأرض بقدميها.. تركع .. ترفع قلبه .. تضمه إلى صدرها بشوق .. تخرج قلبها ..تخيطهما معاً  .. تنسج منهما وشاحاً .. تعطيه لصاحبة الخاتم.

 

مفضلات الشهر من القصص القصيرة