أنفاس-1-
لقطة أولى

الشتاء ينزل ضيفا ثقيلا على الدواوير المحيطة بالضريح,الوقت ليل ،والطريق الملتوي،المحاذي للمقبرة يبدو شبه مقفر كفؤاد أم موسى،إلا من بعض السكارى وشمامي النشوق.
من جهة البحر أتت،فتاة ذات قد قويم ،لسبب ما تركت شعرها مرسلا دون تمشيط،تتأمل الوجوه بحزن ويأس اقربين إلى التذمر,لا احد كان يجرؤ على سؤالها أو مجرد اختلاس النظر إليها...في العيون خوف مبهم.
نثرت آمنة التراب على رأسها وهي تهمس ،صباح اليوم الموالي ,لجماعة لاقطات الطحالب:"ذكرنا السمن والعسل،كانت لابسة احمر في احمر،ورجليها بحال الناقة."
ثم ثفلت فثفلت النسوة على صدورهن منصرفات إلى جمع قوت اليوم.

لقطة ثانية

أوقف دراجته بمحاذاة "مقهى تيط"،اتجه صوب جماعة لاعبي الورق،قال وهو يتجشأ:
-بنية مليحة...تايقولوا كانت سكرانة الله يجيب.
صفق العربي وهو ينادي النادل:
-أش عجبها في هاد البلاد...الله يستر.
-قالها المجذوب "هذا زمان المرارة ...ما يهنا فيه بنادم ولا شجر...طلبوا التسليم آالخوت.

أنفاسولا يمل من سرد حكاياته لكل من جالسوه , ودائما يقتحم كلَّ جمعٍ يراه , في البيت , في المقهى , في وسائل المواصلات , في المساجد , فيقصُّ حكاياتِه المؤلمة , حتى أنه كان يقصُّها على المارة .
أكسبته هذه الممارساتُ مهارة في اصطياد من يسمعه , فيحظى مرة بتعاطف بعضهم , كما أنه اعتاد ألاَّ يغضَبَ حين يستشعرُ عدم الاهتمام واللامبالاة عندما ينصرفُ البعضُ من مجلسه , فيتابعهم بابتسامته التي يتكسّر على بريقها , جبلٌ من اليقين , بأنهم كانوا منذ لحظة يجالسون واحدا من المجانين .
ظل يسردُ حكاياتِه , وكأنه يحفظُها عن ظهر قلب , فإذا انتهى منها , تتعلقُ عيناه على شفتي الذي ظل يسمعه , آملاً في وصْفةٍ يخْلُص بها من ألآمه ورعبه كلَ ليلة , ففي كل ليلةٍ كان يستيقظ من نومه فزعاً على أصواتٍ نسائية , وأصواتٍ رجوليةٍ , وأصواتٍ لها فحيحٌ مخيفٌ , تناديه , يسمعها وهو مستغرقٌ في نومه , فيصحو مرعوبا , ولا يزال صوت النداهة ـ كما اسماه بعد ذلك ـ يترددُ في أذنيه  , يُدوِّّر عينيه في الغرفة , فوق تحت يمينا ويسارا , تنقبض من الخوف المثانةُ , لتفرغَ نصف مخزونها على سريره , فيسرع لإلقاء ما تبقى فيها ـ وفي طريقه يضغط على أزرار الكهرباء كلها ـ في عين الحمّام , وفي ضوء شقته المبهر , يفتش خلف الستائر وتحت الأسِرّة , ثم يدلف إلى شرفته فلا يجد سوى كرسيٍ من الخيزران يكشف عما تحته فلا يحتاج لأن يقلبه كما فعل مع جميع الكراسي والمناضد وكلَ شيء يسمح باختباء ذبابة واحدة قَلَبَهُ رأسا على عقب , يحدث ذلك كلَّ ليلة , وفي كل ليلة , يتخطى الأشياء المقلوبة , ليقتربَ من الجدران , متصنتا على ما يتخفى خلف البراويز والصور المعلقة والمرايا , لعله يجد تلك الكائنات التي تَفِحُّ بأصواتها في أذنيه , في النوم واليقظة .

    أنفاس=1=
فتح باب البراكة ، وصفقه وراءه وهو يسب ويلعن في غضب شديدين ، كان يسير وحيدا في الزقاق ، يحسب خطواته وينصت إلى وقعها المتردد، يفكر في وجهته الجديدة .أدخل يديه في جيبه بحثا عن سيجارة فلم يجد شيئا ، بصق على الأرض في سخط يلعن ويسب الظروف التي أوصلته إلى حضن تلك المدينة ، فقبل سنوات كان ذا شأن كبير ، موظف في الوكالة البنكية الوحيدة بالمنطقة ، كان حلمه أن يصل يوما إلى مرتبة مدير ، لكن موته المهني كان يوم اختلس من رواتب بعض الوكلاء ليطرد بصفة نهائية ..كان يسير وصور الماضي تقض مضجعه ، تقتله.
وصل ساحة الشهداء ، لاح له من بعيد طابور طويل أمام الشباك الأوتوماتيكي للبنك، تساءل إذا ما كان قد انقضى شهر آخر ، أشاح بوجهه نحو الجهة الأخرى ، فبدت له مقاهي السوق البلدي غاصة ، فكر في شرب فنجان قهوة ، فتذكر أن الليلة التي قضاها بالأمس في بيت حادة ، كانت جد مكلفة ، وأجهزت على كل مدخراته . ضرب  الأرض بقدمه في غضب وقال :
لماذا لا يزدحم زقاق وهران مبكرا ؟
اتجه نحو حائط مؤسسة عمومية ، وأسند ظهره إلى مخدع هاتفي عمومي في انتظار أن تنشط حركة المارة.لاح له شرطي المرور يدخن في سهو قرب المدارة ، انطلق نحوه كالسهم ، سلم عليه وعاد وهو ينط من الفرح ، التفت إلى السيجارة التي أعطاه ، وقال في نفسه مازحا " لم أكن أتصور أن الصدقة تخرج من يد الشرطي بكل سهولة " عبر الشارع بحذر وعيناه زائغتان تبحثان عن مغفل قادم لسوق المدينة ، يفتتح به يومه البائس .

أنفاسعندما زحفت النملة الأولى متسلقة إصبع قدم محمود بن عبد الله الزبيري، رنا اليها وهو مستلق تحت الشجرة. داهمته ضحكة بلهاء مسترخية وهو يرى هذا المخلوق الضئيل يتسلق جسده الضخم. باسترخاء عذب مضغ مضغة القات ثم حركها في فمه، فشعر بمتعة رجلٍ يدغدغ ثديَ امرأة.
قال محمود بن عبد الله الزبيري لنفسه: آه. كم هم مساكين أولئك المحرومون من هذه الرعشة!
كانت الشمس تتخلل من ثغرات الأغصان، باعثة مع لذّات القات نوعاً من الخدر المنعش في جسد الرجل المُلقى بين الظل والشمس، ومن مقهى مجاور انساب صوت مغنية شرقية، ماتعاً، هابطاً به نحو سكونية خالدة.
كان يمتص مضغة القات ويعتصرها بشبقٍ عندما جاءت نملة اخرى تتبعها رفيقتها، وراحتا تتسلقان الأصابع نحو الجسد المُسجى.
كان صعود النملة الثالثة يدغدغه، وإذ قرضته بفهما المتناهي في الصغر، أحسّ وكأن شوكة صغيرة تخزّه.
قال محمود بن عبد الله: يا للنمل ما أحمقه!وبحركة بطيئة ناعسة حرّك أصابعه لنفض النملة أو يسحقها، غير أن النملة كانت أذكى من حركته. زاغت من مكانها وهبطت نحو باطن قدمه.
تسرّب الجدار الى خلايا الرجل المستلقي. كان منتشياً بالشمس والقات والصوت العذب المريح لكوكب الشرق. وبعث فيه الخدر رؤى وأحلام يقظة ملونة كقوس قزح. ورأى فيما رأى أنه يطير فوق الحقول والجبال حتى يصل الى مواطن النجوم، ورأى هذه النجوم وقد تحولت أزهاراً، وراح يقطفها ثم يزرعها في عُروته ويختال بها كالطاووس. ثم رأى أن هذه النجوم قد تحولت الى كرات من الذهب، راح يبيعها في ساحة المدينة ويشتري بأثمانها بنادق وخيولاً وصقوراً وكلاباً للصيد.

أنفاسحين فاه الشيخ بجملته غير المتوقعة إطلاقا, خيل إلى المريد أنه لم يسمع جيدا, فتلعثمت ساقاه تحت الجسد ولم يقوَ على الحراك.
كانت هناك مسافة..
هي المسافة الضرورية التي كانت وسوف تكون دوما بين الآمر والصادع بالأمر..
وبدا المكان رطبا..
وبين مجمرة من نحاس مهيأة لزغردة عود القماري, وبضع مخطوطات معتقة, جلس الشيخ وضاءا ناضحا بالمهابة ..
كان قد اصطفاه من بين المريدين, وأومأ إليه أن إئتني طوعا..فأتى يسابق خواطره..
بقلب واجف وخطى مرتبكة, دخل الى مخدع الأسرار حيث يلوذ الشيخ بجمرة المعاني..
في جلسته التي تستمطر الأحوال , لا هو باليقظ ولا المبحر في السبات..جفناه يرفان بتلك الحركات السريعة الفاضحة لأطوار شريط حلمي يمر خلف واجهة الجسد, بينما الكف تغازل حبات في حجم عقلة الأصبع لمسبحة أربعينية من خشب العرعر..
- رأيت أني أعودك, فكن مريضي.
فهل سمع المريد, لكن ذهنه لم يستوعب شراهة اللغة الداعية الى السقم؟
كان يعرف أنه مقبل على أمر جلل, كما يعرف أن الرؤيا زفرة من طاقة الغيب يمن بها الله واسع القدرة على من يصطفي من عباده..
رد بشكل لا يقبل أي التباس:
- شرف لي أن أكون مريضك, شيخي الجليل.
أنارت وجه الشيخ بسمة رضية..
وتقلصت المسافة الى الحدود الدنيا..
وفي الحال..
أحس المريد بمغص شديد يلوي أمعاءه, ورغبة في الهرولة باتجاه المرحاض, حيث يدفعه إسهال ماحق إلى إفراغ ماء الداخل..
R

أنفاستتمنى الزواج مثل بقية مخلوقات الله كلها ، الزمن يتدفق مسرعا ليزيد عنوستها عنوسة ، فلم يطرق بابها عريس واحد يطلب يدها في أي يوم منذ وفاة والدها قبل ثلاث سنوات و نيف .. متوسطة الطول أقرب إلى السمرة منها إلى البياض ، جسمها منسق بإتقان فائق وملفوف كعود قصب السكر، لها وجه مشرق بض منحوت نحتا جميلا .. شعر كستنائي ناعم  معقوص من الخلف .. أنفها ناعم منمنم ظريف .. البيت صغير مرتب و نظيف ، جدرانه مطلية بلون أبيض لامع براق .
و قفت أمام النافذة منفذها الوحيد إلى العالم الخارجي المزدحم بالرجال .. رجال لا تعرف عنهم شيئا لكنها متشوقة لهم و تواقة لمعرفة عالمهم و الظفر بواحد منهم كزوج لها حتى لو كان أبله أو بنصف عقل ، في الوقت نفسه تخشاهم و تهابهم ، قلبها نصفان في صدرها نصف يحب وآخر يخاف ، الرجل هو خصمها المحبوب اللذيذ المخيف ، هذا ما ورثته عن أبيها ‘ لكن الظفر بوحش مفترس كاسر أفضل إليها من عنوسة تقتل جسدها و تزهق روحها في كل ساعة  ألف مرة ، كأن العنوسة موت من نوع آخر حي يتنفس يأكل و يمشي .. اعتمدت بكوعيها على حافة الشباك و ضمت كفيها إلى بعضهما واضعة ذقنها بينهما و قد التفا حول وجهها و أخذت ترنو ببصرها إلى بقايا قمر على شكل شريحة بطيخ تحيطه السماء و تحتضنه في صفحة الأفق .. فبدا كأنه رضيع في حجر أمه مما فتح شهيتها للأمومة و النوم في حضن رجل على سنة الله ورسوله .. ندت عنها تنهيدة طويلة عميقة محروقة محرومة كأنها بخار دمها الآخذ بالغليان منذ سنين .. أتبعتها بآهات متعددة  قصيرة مبعثرة كشظايا ملتهبة للنهدة الأولى القوية العميقة الممطوطة الساخنة .

أنفاسفي باحة البيت، استلقوا تحت مربع الشمس ساعة قبل أن يستيقظ الأب ويحملهم إلى الشاطئ. انتظروا ساعة أو أكثر حتى كاد أن يصيبهم القرف لكنهم ظلوا يتسلون بالزرقة التي تطل عليهم من فوق بكسل ريثما تتحرك عقارب النهار.
أصغرهم، والذي بالكاد تعلم النطق، سأل وهو ينظر في قلب السحب العابرة، إن كانت الغيوم أمواجا.. أوسطهم، والذي ذهب للشاطئ مرارا، أدرك أنها السماء. تساءل هو الآخر في تماه لذيذ.. إن كان الطيران عموديا يشبه سقطة من علو شاهق.. أكبرهم يدرك أن الأرض كروية الشكل. لذلك، فإن الطيران من جهة يشبه السقوط من جهة أخرى.
رأيتهم بالأمس خلف كومة البيوت الصغيرة، ينبشون في التراب المحاذي لسور المقبرة. وجدوا رصاصة فاتسعت عيونهم من الذهول.. أضرموا النار فلم تنفجر.. حفروا ثانية وبحذر أكبر وهم يشعرون بقيمة المنجم الذي اكتشفوه.. تواعدوا ألا أحد منهم سيبوح بالسر، ثم ما لبثوا أن انخرطوا في حرب وهمية وهم يختفون بين شواهد القبور، ويطلقون أصواتهم بحجم رنين الطلقات. مثل رسوم متحركة نهضوا من موتهم مرارا وأعادوا تسديد الطلقات وأعادوا النبش في التراب، ولم تكن لديهم سوى رصاصة واحدة حقيقية.. وأن تكون بحوزتهم فذلك يكفي لأن يخلق إحساسا مختلفا بأهمية الحروب.
انتهوا عند الدكان قرب البيت، حدثهم المحارب القديم عن البطولات الوهمية التي حققها، دون أن يجيبهم إن كان التراب خلف المقبرة يشكل مخزنا حقيقيا للأسلحة. لم يخبروه عن الرصاصة.. ولم يخبرهم إن كانت لديه فوهة يحتفظ بها. لذلك ناموا دون أجوبة حقيقية ليستيقظوا تحت مربع السماء.

أنفاسبيت صغير ضيق في مخيم جائع يسكنه خمسة أنفس .. أربعة منها آدمية وحمار . أب و زوجته و ابنه وابنته ، الأب يعمل عربجي .. حين تراه لا يمكن أن يخطر ببالك أبدا انه قدم من مكان آخر غير القبر أو من وسط كومة قمامة ، جسمه في غاية النحافة آيل للاندثار مغطى بجلد داكن خشن سوّده زمن اللجوء في مخيمات قطاع غزة وصدّعه .. عيناه غائرتان في رأسه كثقبين في كوخ سربله الدهر بالشحار.. شعره طويل كث متسخ بالغبار و السخام منكوش مثل القطن المنفوش غير مصفف ، رأسه كبيرة تنوء بحمله رقبة رفيعة مستديرة كالمسمار عروقها بارزة على الدوام و كأنها خيوط متقطعة في ثوب بال رث .. ظهره تقوس مثل مدخل قلعة قديمة حفظها الزمن من عبث الأيام و ويلاتها .. تلوح من وجهه نظرة مظلوم بائس في وجه دنيا غادرة فقدت الصدق و الطمأنينة والعدالة .
يستيقظ مع تهاليل صباح كل يوم .. يلف الوجود صمت كئيب مبين أفصح من الكلام و أعلى من الصراخ و اصدق من الكتب ..  يحدق في جنبات البيت المكون من فناء ضيق و غرفتين صغيرتين ومطبخ لا طعام فيه ، لها أسقف من الأسبست المليء بالثقوب كأنه يراه للمرة الأولى في حياته ، هو ضحية لخيانة امتدت خيوطها المنسوجة بإحكام منذ الماضي البعيد الذي قذفه عنوة إلى اللجوء في لحظة غدر و غفلة إلى الحاضر المكبل بحصار مجحف و أغلال محكمة التطويق لقلوب مطحونة و نفوس مكسورة .. يحدق في حماره الضعيف بإشفاق عليه من الحصار الطويل المفروض أمريكيا .. بدا لي كأنه يقول في نفسه : حماري كان سمينا جدا و قويا مثل الفيل ، ألآن أصبح ضعيفا نحيلا مثل القط ، لو أصيب حماري بسوء لا سمح الله سأموت من الجوع و بقية أسرتي ، حماري مصدر رزقي و به أعيش ، أنا لا أتقن أي عمل آخر سوى أن أكون عربجيا لهذا الحمار الغلبان المستكين الجائع ..