عدت من العمل متعبا . انتبهت إلى ما يشبه الجرس ، يرن في داخل رأسي . قلت أنا في حاجة إلى حمام ساخن . لم أتردد في النهوض و غسل أطرافي الجسدية . رأسي لا يزال كما هو .. فكرت في كتابة قصيدة من أجل النشر ."المتكلبون في مدينة القمر". قلت العنوان جميل ، غير أنه غير قوي كما أريده .ما أكثر الذين غيروا أفكارهم و سلوكياتهم و قيمهم من أجل أحلام ...أحلام اللحظة لأشخاص فرادى ، يقودون سفينة المجتمع بأكمله إلى الهاوية ..حتى و إن ظلوا محافظين على وجوههم و جلودهم الآدمية . فهم تكلبوا لكن بطريقتهم الخاصة ..أي بأسلوب عصري جذاب ..جلست إلى مكتبي .بعد تحضير فنجان قهوة سوداء.شرعت في كتابة القصيدة قبل أن تطير من ذهني ...
كتبت : تشربني الحروف سائلا أحمرا
و لن تسرقني
رياح مدينة القمر ،
التراب وطني
و الوطن كلمة يسكنها الغراب ..
و الوهن غذاب ..إن لم يركب موج البحر
و يدفئ الكوخ بشعلة صرخة
من جوف طفل
تسقط أقنعة القمر...
بدا لي المعنى غير جرئ..أي عام و يجانب إلى حد ما الفكرة التي أريد تبليغها للقارئ الكريم .وضعت القلم على الأوراق البيضاء المبعثرة على مكتبي .شربت من الكأس السوداء .و قبل أن أضع الكأس على طاولة المكتب ، رن جرس باب بيتي .تذكرت موعدي مع إسماعيل ،صديقي الفنان التشكيلي ، الذي وجد نفسه مرغما لبيع لوحاته في سوق "الخردة" .وقفت بهدوء ثم توجهت لفتح الباب .
فاجأتني إمرأة أنيقة تحمل حقيبة جلدية ، تفوح منها رائحة عطر راق ..
قالت بنوع من الأدب العفوي :
أسأل عن شاعر البلاط...؟؟
عفوا ..سيدتي ، لم يسبق لي أن سمعت بهذا الاسم ..ربما تكونين قد أخطأت في العنوان..
إنهم أشاروا لي إلى عنوان هذا البيت ..بالذات ، ها هو العنوان ( أخرجت ورقة من جيب قميصها الجلدي ، و ابتسامة عريضة تعلو محياها ...أخذت منها الورقة المكتوبة بخط عربي جيد و عليه خاتم ..و تعرفت بسرعة عن أن العنوان المكتوب فيها هو عنواني ..).
بالفعل هو عنوان بيتي ..(فكرت في أشياء كثيرة ، قبل أن أتلفظ بهذه الكلمات ..من تكون هذه السيدة .؟.و لماذا تسأل عني ..؟و من هو هذا الشاعر الذي سمته بشاعر البلاط ..؟ توجد مسافة بعيدة و بعيدة جدا ، بيني و بين شعراء البلاط ..ثم ما الداعي إلى استخدام هذا التعبير ، في هذا الوقت بالضبط ..و استخدامه ضدي شخصيا ..أنا الذي يعرف جميع القراء و متتبعي شعري و كتاباتي النقدية و الفكرية ، أنني لا أثق بتاتا في الكتابة ، مهما كان نوعها إبداعا أدبيا أو ثقافيا و فكريا ،تلك التي تنمق و تلمع الواجهات ، و تنبطح من أجل تحقيق درجة عليا من درجات سلم الذل و الرداءة و الفساد الإنسانيين ...).
العفو ..نسيت أن أدعوك أولا للدخول..(اعتذرت..ثم أعادت طرح نفس السؤال..).
هل أنت هو شاعر البلاط ..؟؟(شعرت بسؤالها هذا الأخير ، و كأنها كانت تتصنت على حديثي الداخلي ..فأرادت استفزازي ..).
لا ..و لن أكونه أبدا ..سيدتي ..يمكنك القفز إلى العصر العباسي ..و ستجدين هناك شاعرك ...معذرة مجددا ..
دخلت و أقفلت الباب ورائي .اتجهت مباشرة إلى الثلاجة ، عساني أجد فيها سائلا ملائما لحالتي في وضعية شاذة كهذه .
نظرت من النافذة إلى الحديقة . بعد قليل سمعت أذناي هدير آلة قوي ، قادم من الناحية الموالية لبيتي .لم أستسغ ما وقع .و ما الذي سيقع .تجمع بعض أطفال الحي ، حول مكان تواجد الآلة الضخمة .كانوا يتابعون حدث سيرها البطيء تجاه ناحية الحديقة .هرع بقية السكان إلى الساحة الصغرى المجاورة للحديقة . خرجت من بيتي لأعرف ما الأمر .سائق هذه الآلة المدمرة شاب وسيم .كان يتحدث في هاتفه النقال .بينما استغليت الفرصة ، و استدرجت ساكنة المنطقة نحوي ، و شددت على عدم قبول تخريب حديقتنا ، و تحويلها إلى مكان إقامة عمارة.. بعد قلبل بدت لي من بعيد سيدة تنزل من سيارة سوداء فخمة .و كان برفقتها رجلان و عسكري ...إنها السيدة التي كانت تسأل عن شاعر البلاط قبل نصف ساعة من الآن ..
محمد بقوح
الدشيرة