أنفاس انتظر عائدا من يم كان قد اشتاق إليه مند زمن غابر،في ثناياه عثر على محياه المفقود،تحسس وجهه الملتوي في أعماق ذات مازالت تتشكل عبر صيرورة الزمن. كان الوجه قد غادر صاحبه ذات ليلة بعد أن انتشت ثملة بنبيذ عنب عرصة جدته،ليلة حولت الوجود لقناعات مشروخة تعيد البدايات الأولى للجزئيات ، تنفتح على جنيالوجيا الذات المهووسة بتراكمات القطائع الراجعة في تعاليها الدائم وسموها نحو اللاتناهي ، في شظاياه ضياع الفكر وتيه العقل وجنون المنطق.. يأتيها البحر ليأخذها معه،تأسرها أمواج الريبة ليل نهار، آه من مفارقات السؤال ومن تعايش نجوم الليل مع إشراق النهار . كيف للذات أن تقبل بتساكن عداء الأضداد وتمازج الانشطار ، سواد البياض وانسداد التراخي  تمدد الانصهار المنسكب على مرايا الوجود.
تتداخل أسئلة لغة الصمت المدوي في أعماق الذات بصدد حياة الأشياء التافهة المؤثتة لفضاء الكون،هي هوامش الأشياء وأشياء الهوامش توحدا في نسيان يخلدهما..تسألني عن النسيان؟ قل هي الذاكرة الحافظة للتفاصيل والهوامش والبياض ، لكل ما هو آت يجعلها مهيمنة آسرة للذات وللأغيار،تفصح عن المسكوت المعلن على حيطان الأزقة وأسوار المدينة ،في همسات النساء،أجساد الباغيات ، ترنح المتسكعين،في كتابات سجينة على الأوراق، في هاهنا الآن واللاهنا أبدا ، في مذكرات الأسرى وأغاني المساجين و أوراق عصابية في يد دهاني يؤرخ
للذات بواقعية الفانتزم؛ ما أن تنتشي بلذة الحياة حتى تنمحي في الموت وما أن تكشف قوانين الصيرورة حتى تقذف في عبثية التفاصيل و فوضى النظام.
هو ذا النسيان. إنه الوجود الآن ، الوجود أبدا ، الممكن الوجود في جوهر العدم.

أنفاسجلست إليه في المقهى وكان الوقت أصيلا..يدنو الليل من المدينة شيئا فشيئا.. و تزحف الظلمة لتلفّ العالمين بلباس شفاف يجد منه الحالمون نعيما.. أما من قست عليهم الحياة فالليل في المدينة هاويةٌ.. الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود... غادرت الشمس إلى مخدعها  بعد عراك النهار و صار للأضواء شأن.. تنبجس من الظلمة وتلقي علينا ببريق خافت فتبدو الأجسام في مواقعها معتمة بطريقة يهتدي معها الكل إلى البغية.. يختار العشاق العتمة حتى يقضي من شاء مأربه ويروي من ظمئه.. ويبل ريقه بما يطفئ حريقه.. كنت ترى الفتاة كأنها القطة تظهر بعض مخافة ما دامت في العلن حتى إذا صارت إلى السكن سلك الطريق وسال الريق.. واحتبس الشهيق.. أما في دائرة الضوء فلا تكاد تجد سوى الرجال .. ليس لدى الرجال ما يدعو إلى الخوف أو ما يثير الريبة.. وليس في الأمر ما يمكن أن يُدبَّر بليل..بل ليس لأحد من الناس أن يدبِّر.. فقد ذهب المدبّرون جميعا وعمّ الوفاق.. واحتدم العناق..
كان جليسي أستاذي.. جلس وجلست ورحب ورحبت.. عرفته في الجامعة .. في القسم تحديدا.. لم يخف إعجابه بي.. يحتدم النقاش أحيانا بيني وبينه.. وليس لأحد من الطلبة أن يضيف إلى ما نقول شيئا..هو بعلمه وتجربته.. وباسمه.. وأنا بحماستي التي تحملني على افتراس الكتب افتراسا ما عاد لي الآن بعضه..

أنفاس..لم يهتم بالمطر ، الذي بدأ يسقط بغزارة على جسده النحيل في هذه المدينة ،التي فتن بها حتى الثمالة .. مذ صغره  .مدينة الحركة و البطالة  كما يسميها ..،المدينة التي تكبر كل يوم ، لكن هو.. يصغر كل يوم .إنها مدينة المتناقضات ،حسب تعبيره : الكبير يزداد كبرا ، و الصغير يزداد صغرا ، بل غرقا ..
ظل في مكانه ، بقامته القصيرة ، وشعره الأشعث .عدل من جلسته ، بفعل قوة المطر ،فعاد شيئا ما إلى الخلف .جلس على كرسيه الخشبي ، كما يفعل دائما ،منذ مغادرته للمدرسة بسبب مشاكل أسرته .
كان في حدود العاشرة من عمره .رغم ذلك يبدو أكبر بكثير .لكن "الشطارة "لا تقاس بالسن ، بل بالخبرة في الحياة .ليقنع نفسه في النهاية ، أنه في خارج أسوار المدرسة و في أرصفة الشوارع ،على الأقل ، يكون أقرب إلى  كسب قوت يومه ،الذي يدعم به وضعية أسرته المدعمة ..
يرتدي ثيابا رثة ،و ممزقة من بعض الجوانب .هو لا يهمه الشكل :هذا ما يقوله لرفيقه هشام دوما ،رفيقه في الحرفة .. الرصيف حيث هو قابع الآن ينتظر خال من المارة إلا من بعض الرجال  الذين يسرعون في خطواتهم ، غير مهتمين بصيحاته الخافتة أحيانا و الصارخة في الكثير من الأحيان ،من أجل أن يتوقفوا ولو لحظة لتلميع أحذيتهم .
-آسي ..أرا سباطك ..أرا تسيري ..

أنفاس-1-
لقطة أولى

الشتاء ينزل ضيفا ثقيلا على الدواوير المحيطة بالضريح,الوقت ليل ،والطريق الملتوي،المحاذي للمقبرة يبدو شبه مقفر كفؤاد أم موسى،إلا من بعض السكارى وشمامي النشوق.
من جهة البحر أتت،فتاة ذات قد قويم ،لسبب ما تركت شعرها مرسلا دون تمشيط،تتأمل الوجوه بحزن ويأس اقربين إلى التذمر,لا احد كان يجرؤ على سؤالها أو مجرد اختلاس النظر إليها...في العيون خوف مبهم.
نثرت آمنة التراب على رأسها وهي تهمس ،صباح اليوم الموالي ,لجماعة لاقطات الطحالب:"ذكرنا السمن والعسل،كانت لابسة احمر في احمر،ورجليها بحال الناقة."
ثم ثفلت فثفلت النسوة على صدورهن منصرفات إلى جمع قوت اليوم.

لقطة ثانية

أوقف دراجته بمحاذاة "مقهى تيط"،اتجه صوب جماعة لاعبي الورق،قال وهو يتجشأ:
-بنية مليحة...تايقولوا كانت سكرانة الله يجيب.
صفق العربي وهو ينادي النادل:
-أش عجبها في هاد البلاد...الله يستر.
-قالها المجذوب "هذا زمان المرارة ...ما يهنا فيه بنادم ولا شجر...طلبوا التسليم آالخوت.

أنفاسولا يمل من سرد حكاياته لكل من جالسوه , ودائما يقتحم كلَّ جمعٍ يراه , في البيت , في المقهى , في وسائل المواصلات , في المساجد , فيقصُّ حكاياتِه المؤلمة , حتى أنه كان يقصُّها على المارة .
أكسبته هذه الممارساتُ مهارة في اصطياد من يسمعه , فيحظى مرة بتعاطف بعضهم , كما أنه اعتاد ألاَّ يغضَبَ حين يستشعرُ عدم الاهتمام واللامبالاة عندما ينصرفُ البعضُ من مجلسه , فيتابعهم بابتسامته التي يتكسّر على بريقها , جبلٌ من اليقين , بأنهم كانوا منذ لحظة يجالسون واحدا من المجانين .
ظل يسردُ حكاياتِه , وكأنه يحفظُها عن ظهر قلب , فإذا انتهى منها , تتعلقُ عيناه على شفتي الذي ظل يسمعه , آملاً في وصْفةٍ يخْلُص بها من ألآمه ورعبه كلَ ليلة , ففي كل ليلةٍ كان يستيقظ من نومه فزعاً على أصواتٍ نسائية , وأصواتٍ رجوليةٍ , وأصواتٍ لها فحيحٌ مخيفٌ , تناديه , يسمعها وهو مستغرقٌ في نومه , فيصحو مرعوبا , ولا يزال صوت النداهة ـ كما اسماه بعد ذلك ـ يترددُ في أذنيه  , يُدوِّّر عينيه في الغرفة , فوق تحت يمينا ويسارا , تنقبض من الخوف المثانةُ , لتفرغَ نصف مخزونها على سريره , فيسرع لإلقاء ما تبقى فيها ـ وفي طريقه يضغط على أزرار الكهرباء كلها ـ في عين الحمّام , وفي ضوء شقته المبهر , يفتش خلف الستائر وتحت الأسِرّة , ثم يدلف إلى شرفته فلا يجد سوى كرسيٍ من الخيزران يكشف عما تحته فلا يحتاج لأن يقلبه كما فعل مع جميع الكراسي والمناضد وكلَ شيء يسمح باختباء ذبابة واحدة قَلَبَهُ رأسا على عقب , يحدث ذلك كلَّ ليلة , وفي كل ليلة , يتخطى الأشياء المقلوبة , ليقتربَ من الجدران , متصنتا على ما يتخفى خلف البراويز والصور المعلقة والمرايا , لعله يجد تلك الكائنات التي تَفِحُّ بأصواتها في أذنيه , في النوم واليقظة .

    أنفاس=1=
فتح باب البراكة ، وصفقه وراءه وهو يسب ويلعن في غضب شديدين ، كان يسير وحيدا في الزقاق ، يحسب خطواته وينصت إلى وقعها المتردد، يفكر في وجهته الجديدة .أدخل يديه في جيبه بحثا عن سيجارة فلم يجد شيئا ، بصق على الأرض في سخط يلعن ويسب الظروف التي أوصلته إلى حضن تلك المدينة ، فقبل سنوات كان ذا شأن كبير ، موظف في الوكالة البنكية الوحيدة بالمنطقة ، كان حلمه أن يصل يوما إلى مرتبة مدير ، لكن موته المهني كان يوم اختلس من رواتب بعض الوكلاء ليطرد بصفة نهائية ..كان يسير وصور الماضي تقض مضجعه ، تقتله.
وصل ساحة الشهداء ، لاح له من بعيد طابور طويل أمام الشباك الأوتوماتيكي للبنك، تساءل إذا ما كان قد انقضى شهر آخر ، أشاح بوجهه نحو الجهة الأخرى ، فبدت له مقاهي السوق البلدي غاصة ، فكر في شرب فنجان قهوة ، فتذكر أن الليلة التي قضاها بالأمس في بيت حادة ، كانت جد مكلفة ، وأجهزت على كل مدخراته . ضرب  الأرض بقدمه في غضب وقال :
لماذا لا يزدحم زقاق وهران مبكرا ؟
اتجه نحو حائط مؤسسة عمومية ، وأسند ظهره إلى مخدع هاتفي عمومي في انتظار أن تنشط حركة المارة.لاح له شرطي المرور يدخن في سهو قرب المدارة ، انطلق نحوه كالسهم ، سلم عليه وعاد وهو ينط من الفرح ، التفت إلى السيجارة التي أعطاه ، وقال في نفسه مازحا " لم أكن أتصور أن الصدقة تخرج من يد الشرطي بكل سهولة " عبر الشارع بحذر وعيناه زائغتان تبحثان عن مغفل قادم لسوق المدينة ، يفتتح به يومه البائس .

أنفاسعندما زحفت النملة الأولى متسلقة إصبع قدم محمود بن عبد الله الزبيري، رنا اليها وهو مستلق تحت الشجرة. داهمته ضحكة بلهاء مسترخية وهو يرى هذا المخلوق الضئيل يتسلق جسده الضخم. باسترخاء عذب مضغ مضغة القات ثم حركها في فمه، فشعر بمتعة رجلٍ يدغدغ ثديَ امرأة.
قال محمود بن عبد الله الزبيري لنفسه: آه. كم هم مساكين أولئك المحرومون من هذه الرعشة!
كانت الشمس تتخلل من ثغرات الأغصان، باعثة مع لذّات القات نوعاً من الخدر المنعش في جسد الرجل المُلقى بين الظل والشمس، ومن مقهى مجاور انساب صوت مغنية شرقية، ماتعاً، هابطاً به نحو سكونية خالدة.
كان يمتص مضغة القات ويعتصرها بشبقٍ عندما جاءت نملة اخرى تتبعها رفيقتها، وراحتا تتسلقان الأصابع نحو الجسد المُسجى.
كان صعود النملة الثالثة يدغدغه، وإذ قرضته بفهما المتناهي في الصغر، أحسّ وكأن شوكة صغيرة تخزّه.
قال محمود بن عبد الله: يا للنمل ما أحمقه!وبحركة بطيئة ناعسة حرّك أصابعه لنفض النملة أو يسحقها، غير أن النملة كانت أذكى من حركته. زاغت من مكانها وهبطت نحو باطن قدمه.
تسرّب الجدار الى خلايا الرجل المستلقي. كان منتشياً بالشمس والقات والصوت العذب المريح لكوكب الشرق. وبعث فيه الخدر رؤى وأحلام يقظة ملونة كقوس قزح. ورأى فيما رأى أنه يطير فوق الحقول والجبال حتى يصل الى مواطن النجوم، ورأى هذه النجوم وقد تحولت أزهاراً، وراح يقطفها ثم يزرعها في عُروته ويختال بها كالطاووس. ثم رأى أن هذه النجوم قد تحولت الى كرات من الذهب، راح يبيعها في ساحة المدينة ويشتري بأثمانها بنادق وخيولاً وصقوراً وكلاباً للصيد.

أنفاسحين فاه الشيخ بجملته غير المتوقعة إطلاقا, خيل إلى المريد أنه لم يسمع جيدا, فتلعثمت ساقاه تحت الجسد ولم يقوَ على الحراك.
كانت هناك مسافة..
هي المسافة الضرورية التي كانت وسوف تكون دوما بين الآمر والصادع بالأمر..
وبدا المكان رطبا..
وبين مجمرة من نحاس مهيأة لزغردة عود القماري, وبضع مخطوطات معتقة, جلس الشيخ وضاءا ناضحا بالمهابة ..
كان قد اصطفاه من بين المريدين, وأومأ إليه أن إئتني طوعا..فأتى يسابق خواطره..
بقلب واجف وخطى مرتبكة, دخل الى مخدع الأسرار حيث يلوذ الشيخ بجمرة المعاني..
في جلسته التي تستمطر الأحوال , لا هو باليقظ ولا المبحر في السبات..جفناه يرفان بتلك الحركات السريعة الفاضحة لأطوار شريط حلمي يمر خلف واجهة الجسد, بينما الكف تغازل حبات في حجم عقلة الأصبع لمسبحة أربعينية من خشب العرعر..
- رأيت أني أعودك, فكن مريضي.
فهل سمع المريد, لكن ذهنه لم يستوعب شراهة اللغة الداعية الى السقم؟
كان يعرف أنه مقبل على أمر جلل, كما يعرف أن الرؤيا زفرة من طاقة الغيب يمن بها الله واسع القدرة على من يصطفي من عباده..
رد بشكل لا يقبل أي التباس:
- شرف لي أن أكون مريضك, شيخي الجليل.
أنارت وجه الشيخ بسمة رضية..
وتقلصت المسافة الى الحدود الدنيا..
وفي الحال..
أحس المريد بمغص شديد يلوي أمعاءه, ورغبة في الهرولة باتجاه المرحاض, حيث يدفعه إسهال ماحق إلى إفراغ ماء الداخل..
R

مفضلات الشهر من القصص القصيرة