انفاس  ذهب بلال الدندشي إلى مدرسته كعادته في صباح كل يوم، ووصل إليها متأخرًا، ودخلها وهو يرتعد خوفًا من معلمه وتوبيخه الفظّ الساخر. ولكنه وجد التلاميذ نائمين والمعلمين نائمين، فحاول إيقاظهم، فلم يستيقظ أحد. وسئم الجلوس وحده، فتثاءب ونام، ورأى في أثناء نومه أنه نائم في مدرسة تلاميذها نائمون نومًا عميقًا غير مبالين بصيحات معلميهم الغاضبة. وأيقظته أمّه من نومه، وحثته على الإسراع حتّى لا يتأخر عن مدرسته، فهرول قاصدًا مدرسته ليجد معلميها مقتولين وتلاميذها يلعبون مرحين، ولم يلعب معهم لأن أمّه أيقظته من نومه ليذهب إلى مدرسته. فارتدى ثيابه على عجل، وغادر البيت من دون أن يأكل، وهرع إلى مدرسته وجلس في صفه بين التلاميذ متأهبًا لما سيحدث.

انفاسالغيابة الأولى:  الحليب
أحسست بطعمه في فمي وأنا أستيقظ هذا الصباح. لم أتذكر الحلم، ولكن طعم الحليب كان في فمي، وسرعان ما عادت إلى ذاكرتي رائحته الفاغمة التي عرفتها في الطفولة وهي تتصاعد مع البخار إلى الأنف، وشرشرته وهو يهبط من الإبريق الأبيض إلى الكأس المزوقة في الصينية الصفراء، حتى لقد أحسست بالشرشرة تغلف ـ بغلاف مخملي ناعم ـ ضجيج السيارات وراء زجاج النافذة المغلقة. وغمرني وأنا بين النوم واليقظة عالم الحليب الطفولي القديم.
ـ حليب الكأس المزوقة والإبريق الأبيض


ـ وقبله حليب المعزة الملتذة بالحلب وهي تجتر ساكنة مستسلمة، ورائحة الضرع المكتتر الأجرد، والخشونة الناعمة لـ (البزولتين) الدافئتين، والحليب وهو يسقط منهما في دفعات موقعة في نغمتين متواليتين: نغمة الخروج من الضرع، ونغمة السقوط في الحلاب الطيني الأحمر المغسول، المسدود فمه بنبات شوكي (لتصفية ما قد يقع في الحلاب من قذى أو غبار).

انفاساتفق أن وصل ذات يوم أحد أقاربي البعيدين إلى منصب وزير، فدبرنا معه الأمر لكي يعيّن عدداً لا بأس به من أفراد العائلة في أحد فروع مصلحة البريد بشارع (سيرّانو) لكن، والحق يقال، لم يدم بنا الأمر هناك كثيراً. قضينا يومين من الأيام الثلاثة التي بقيناها في ذلك المكتب، ونحن نقدم الخدمة للناس بسرعة فائقة، بحيث تلقينا زيارة مستغربة من أحد المفتشين من الإدارة المركزية، وظهرت في جريدة (الحق) كلمة تمتدحنا. في اليوم الثالث أصبحنا واثقين من شعبيتنا، فقد وفد علينا الناس من أحياء بعيدة ليبعثوا برسائلهم وليقوموا بتحويل مبالغ مالية إلى (بورماماركا) أو إلى جهات أخرى سخيفة مثلها. في ذلك اليوم أعطانا عمي الأكبر حرية التصرف الكاملة، فرحنا نعمل كلٌ حسب رغبته. كانت أختي الثانية، المكلفة بتخليص الرسائل وبيع الطوابع، تهدي بالوناً لكل من يمر بشباكها ويشتري طابعاً. كان البالون الأول من نصيب امرأة بدينة بقيت، عندما تسلمته، مسمّرة في مكانها، وقد أمسكت البالون بيد والطابع البريدي المبلل من فئة "بيسو" واحد، يلتف على إصبعها.

انفاس'' الكثير من الناس يضيعون نصيبهم من السعادة، ليس لأنهم لم يجدوها، ولكن لأنهم لم يتوقفوا للاستمتاع بها''.
ويليام فيذر William Feather
البوليس يطوق المكان حفاظا على الأمن العام.
باب قصر المهرجانات الضخم أغلق وفتحت بويبة صغيرة في الجدار يقف شرطي في مدخلها: يتسلم التذكرة من يد الزائر، يقطعها إلى نصفين، يحتفظ بالنصف ويعيد له النصف الثاني ثم يقتحم جسده تفتيشا وتلمسا ودلكا...
حتى إذا لم تصادف يداه وخزا معدنيا تحت لباس الزائر دفعه بقوة إلى داخل البويبة ليتفرغ للزائر الموالي في الطابور الطويل المنتظر على يسار الشرطي لولوج الحفل الذي سيبدأ بعد أربع ساعات...

انفاسيأتى فى حلته الزرقاء الداكنة.. وشعره الابيض المتطاير أسفل قبعته . عيناه تميلان الى الزرقة والعرق دائما على جبهته صباحا أو مساء
اسلاك دراجته الذهبية تدور تنتقل من الشمس الى الظل ومن الليل الى النهار . لا تشعر انه يتوقف ابدا .. يدور .. ويدور
البحر ليس كأى بحر .. ربما لأن الورود الحمراء تساقطت عليه الصيف الفائت , ربما لأن الطيور البيضاء ملأته يوما عن أخره حتى انك لا ترى شيئا غيرها .. ربما لانهم قالوا أن جنية البحر نثرت حبات الملح فوق الغرقى ثم ملأت اجسادهم بالعطر .. ربما .. ربما .

يوم ان اتى العجوز سألته عن البحر ... قال:

الموت سر والبحر سر ونجمة السماء التى لمعت على وجه الطفل الذى مات منذ قليل .. غابت ولم تعد .

انفاسحزناً و جزعاً
على موتها أغني ..
وميض خاطف يلفني ، يحاصرني ، يكاد يسقطني أرضاً ، يخنقني ، طيف لسماوات عظام يظللني ، يخطفني بعيداً و جسدي يرتشف غيوم المكان ، ضجيج يعمر الصالة التي انحني في جذعها ، جلبة نساء فاجرات تضرب جدران رأسي ، همهمة لفتيات يافعات في انتظار الرقص على تهاويم الميت ..
في صباي كنت ساذجاً كما أنا الآن ، لكنني اللحظة أشد من ذي قبل ، لم أدر كيف أفعل في هذا الحصار ؟ فلم تكن الجلبة وحدها التي تخنقني ، بل صوت أخواتي من حولي أيضاً ، و زوجتي التي تجلس بقربي هنا ، ساعة كئيبة هذه التي تزورني . اليوم بت مدركاً أنه عام الحزن و الجزع .
Read More

و على موتها أغني ..

في الصالة ازدادت حدة الهمس و الصفير ، ازداد الفزع و الخوف ، بدأ الصوت يأخذ ارتفاعاً شاهقاً كأعمدة النور باسقة ، وقفت النساء واحدة تلو الأخرى للرقص على جسدي الميت ، و عبر شقوق الألم أنتصب تائهاً ، أبكي فزعاً على موتها ، أصرخ علّني أتيه في ومضة وجهها الغجري .

انفاستوقفت مرتين على الجسر متثاقلة، قبل الوقوف الأخير في وسطه.. وبذا تكون هذه النقطة هي الأبعد عن مياه النهر فتسهل مهمتها القاسية.. والأبعد في الوقت نفسه عن الشاطئين لتضاف سهولة أخرى.. ولكن!. كيف سيواجه أشقائها عامة الناس؟.. ويواجهوا الأصدقاء؟ لا سيما أن أعداداً من سكان الديوانية قد نزحت إليها من القرى والأرياف.. ولو ـ لعنت الشيطان ـ وعادت بخفي حنين إلى المدينة، كيف ستواجه الأم التي طالما حذرتها منه؟ إذ هي على دراية أن السفر هاجسه بقصد الدراسة أو الإقامة أو ما يبرر له هذا.. عدا أن الكثير من شباب الحي يمني النفس بها، وهي لن تمني النفس إلا به، لذا لقبتها أمها ـ إكحيلة ـ عن استحقاق.

فبعد مضيها لبعض الوقت في غرفته تنهض لتضع لمساتها على جميع مقتنيات الدار ولوازمه، لم تدع صحناً أو قطعة ملابس إلا وغسلتها وتحديداً ملابس أمه.. التي أحبتها بصدق.. والحق، إنها كانت كحمامة بيضاء هادئة ووديعة.. كغزال بري في لفتاته. كثيراً ما أضافت إلى المنزل هالة رائعة بتشكيلات ملابسها وتسريحات شعرها. كان الشريط الأسود بعرض اصبعين يطوق جيدها ويضفي عليها الكثير.. كانت واثقة الخطى في المنزل.. وواثقة منه تماماً، فعما قريب ستأتي رسمياً إلى الدار، وبذا تلقم الأفواه الممطوطة الشفاه هزءاً بحجر.. فأمها حين امتثلت لإرادتها، قالت ذات صباح:ـ إنها كفيلة بإسكات أشقائها.

انفاسوسط شجيرات التين الوارفة ـ المتهللة بإشراق خضرة مبكرة عند مقتبل صيف، لتبدأ فاكهة التين تنضج رويداً رويداً ـ  ينتصب الكُتّاب ببياضه الناصع وعلَمه الأبيض المهمل كضريح قديم، ومن شق بابه الواسع تنبعث رائحة (السمق). كل صباح يقصده اثنا عشر طالباً ـ تختلف أعمارهم ـ حثيثي المشية، وفور وصولهم يقبلون رأس الفقيه بهدوء وكأنهم يتلذذون نسائم شعره، ثم يعزلون ألواحهم المركونة في الزاوية الخلفية.. وأخيراً يصطفون جلوساً على الأرض لا يفصلهم عنها سوى حصير بال قد قضمته الأرضة. وبعدها ينتظرون الإشارة من فقيههم:

ـ إيـوا تـقـرا..

فتتناسل أصواتهم لتغالب الريح وتصل أقصى ربوة في القبيلة، ولم تكن زوابع الضجيج لتقلق الفقيه، بل كانت تشعره بالزهو حتى لا يتهمه أعيان القبيلة بالكسل، ومع ذلك كان (المختار) يميز أخطاءهم وينبههم واحداً واحداً دون أن يحول نظره عن موضع الإبرة التي يخيط بها جلباب الصوف.. هذا الشاب الأنيق الذي أتاهم من قبائل دكالة، شغفهم حباً منذ البداية، فشكله محبب لديهم ولا يعنفهم كالفقيه السابق (الغياث) الذي ضُبط متلبساً في علاقة غير شرعية مع أرملة.. كما كان يصنع طلاسم الجلب للنساء، فلحقه غضب القبيلة وطرد ملعوناً من رحمتها. السيد المختار ليس كباقي من توالى على هذا الكُتاب من فقهاء، فهو يتقرب من (المحضرة) ويوزع عليهم الحلوى وكؤوس الشاي وأرغفة (المسمن)، يوزع على تلاميذه كل ما تحمله إليه نساء القبيلة. وكان كلما قدم تلميذ جديد يخربش على راحة يده اليمنى بضعة كلمات ثم يأمره ببلعها، فما أن يفعل ذلك حتى يحفظ كل يوم لوحة ويمحوها. نال المختار مكانة كبيرة في قلوب الجميع، وسحر ألباب بنات القبيلة بوسامته وعذوبة صوته الذي يتسلل كل فجر إلى الربى وهو يتغنى بآيات الرحمن. وكانت السعدية أقرب فتاة إلى الكُتاب؛ كل صباح تعد فطوراً شهياً، تضعه في قفة مصنوعة من شجر الدوم ثم تقصد الكُتاب، تدخل دون أن تستأذن، تضع الزاد، وقبل أن تغادر تختلس نظرات بريئة إلى وجه المختار وهو منهمك بمداعبة الإبرة. وظل غرامها به يكبر دون أن يسمح لها كبرياؤها بالبوح له على الرغم من أنها كانت تجده لوحده أحياناً في غياب (المحضرة). كتمت سرها في جسدها وفضلت احتراق أشواقها، مكتفية بالنظر إليه عن بعد وهو يغادر الكُتاب، أو الاستمتاع بصوته وهو يغرد كالشحرور.. ودفعها اهتمامها إلى الإكثار من أسئلتها لأخيها التلميذ عن كيفية تعامله معهم وسلوكياته، فزادها ذلك تعلقاً به. وعند تسامرها مع بنات القرية في أغانيهن الليلية ويتجاذبن أطراف الحديث عن ساحر عقولهن، تغيّر السعدية الموضوع خيفة افتضاح سرها، أو غيرة على عشقها، مما يجعلها تغادر قبل متم السهرة.