جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء التاسع عشر) - أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

منذ اسبينوزا، كنا حذرين من النزعات الأحادية (النظريات التي تؤكد أن الكل هو واحد)، لأننا نشتبه في أنها تؤدي إلى وحدة الوجود، وبالتالي إلى الإلحاد. يطمئن هيجل المنتقدين المحتملين لهذه النقطة ويتجنب الرقابة، من خلال إظهار أننا نستطيع تصور شكل من أشكال الأحادية التي تحافظ على فكرة الله؛ يكفي أن يتم تعريف الكل على أنه روح وليس مجرد جوهر:
"أحدث فهم الله باعتباره الجوهر الواحد ثورةً في القرن الذي جاء فيه هذا التعريف […]؛ كان السبب […] في غريزة أن الوعي الذاتي ما تم الحفاظ عليه فيه، ولكنه ببساطة غاص فيه".
مع ذلك، لنلاحظ أن الأمر بالنسبة إلى هيجل لا يتعلق بتعارض بين الجوهر والروح: قد نبقى في ثنائية، غير قادرين على القيام بتوليف بين مصطلحين متعارضين. على العكس من ذلك، يعرف هيغل الحقيقي، المطلق، بالطريقة التالية: "هو الجوهر الروحي".
في الواقع ، لا يدعي هيجل أنه يقوم بعمل أصيل من خلال تعريف المطلق بكونه روحا. ويؤكد أن هذه هي مساهمة المسيحية اللاتعوض، والتي تشكل حقيقة عصرها: المطلق كروح: مفهوم سام بين الجميع، والذي ينتمي حقا إلى العصر الحديث وديانته. الحقيقي ملموس كما رأينا؛ لكن الروحي هو وحده الفعال. وكل شيء آخر مجرد، وما هو إلا تحديد للعقل مفصول بالتجريد عن هذا الأخير.
نستطيع إذن إعادة تركيز تفسيرنا حول فكرة "الروح". قلنا في بداية شرحنا أن مشروع هيجل هو دراسة الأشكال المتعاقبة المختلفة التي يمكن أن تتخذها الحقيقة. يمكننا الآن إعادة صياغة ذلك بعبارات أكثر ملاءمة، قائلين إننا نبحث عن الأشكال المختلفة التي تتخذها الروح عبر التاريخ، في صيرورته الجدلية.
في الحقيقة، الأمران مرتبطان: الحقيقة هي ما يبدو كذلك للعقل. أو مرة أخرى، لا توجد حقيقة دون عقل يكتشفها. إن الحديث عن الأشكال المتعاقبة للحقيقة يعني في الواقع الحديث عن الأشكال المتعاقبة التي يتخذها العقل في بحثه عن الحقيقة. لكن بما أن الروح هي الكل، المطلق، الواحد في عبارة "الكل هو واحد"، يمكننا أن نقترح هذه الصيغة الأخيرة: نسعى هنا لوصف الأشكال المتعاقبة التي يتخذها العقل في بحثه عن حقيقة ما هو.
للقيام بذلك، يجب أن ينكشف لنفسه. وبعبارة أخرى: يجب أن يعي نفسه. ولذلك تظهر صلة أساسية بين الوعي والعقل. إن العقل، قبل كل شيء، ليس إلا "في ذاته": هو ما هو، دون أن يعرف أنه كذلك.

شيئا فشيئا، يصبح العقل واعيا بذاته: ينكشف لذاته. أولًا، هذا الوعي الذاتي غير كامل؛ ولذلك ينتقل العقل من شكل إلى شكل تال، حيث يصبح رويدا رويدا أكثر وضوحا. يسمي هيجل هذه العملية التأملية "لذاته". بالنسبة إليه، الوعي و"لذاته" مترادفان.
لكن هذا الوعي لم يرق بعد إلى مرتبة العلم. يمكننا أن ندرك ظاهرة ما دون أن نعرفها بشكل كامل. عندما نمتلك معرفة مطلقة ونسقية عن حركة الروح عبر التاريخ، نصل إلى مرحلة "في ذاته لذاته"، التي تجمع بين المرحلتين السابقتين، أي إلى لعلم:
"الروحي هو وحده الفعال. إنه الجوهر أو ما هو في ذاته […] أو مرة أخرى هو في ذاته ولذاته. لكن هذا الوجود في ذاته ولذاته، ليس كذلك أولا إلا بالنسبة إلينا… ويجب أن يكون أيضا كذلك لذاته - عليه أن يكون معرفة بالروحي ومعرفة بذاته من حيث هو روح؛ وهذا يعني أنه يجب أن يتمتع لحسابه الخاص بمكانة الموضوع، ولكن عليه كذلك أن بكون، بطريقة مباشرة، موضوعا وسيطا، أي ملغى، منعكسا على ذاته […] العقل الذي يعرف هكذا [متطورا] كروح هو العلم. إنها فعاليته والمملكة التي يشيدها لنفسه في عنصره الخاص".
لتلخيص ذلك، يجب علينا بالتالي أن نميز بين كون الشيء (في ذاته)، والوعي الذي لدينا به (لذاته)، والعلم بهذا الأخير الذي يمكن بناؤه (في ذاته لذاته). وهذا يتجاوز ويشمل اللحظتين السابقتين. ومن ثم فإن العلم يجب أن يشمل الوعي، وإلا فهو "ليس إلا في ذاته، وليس باعتباره روحا، بل جوهرا روحانيا فقط. وهذا ال في ذاته يجب أن يتجلى ويصبح لذاته. لذلك، يجب على العلم أن يفترض الوعي الذاتي باعتباره لا يشكل والعلم إلا شيئا واحدا".
نحن هنا أمام عملية طويلة، تستغرق وقتا: لإنجازها، تتخذ المعرفة أشكالًا مختلفة، ويمر العقل بأشكال مختلفة، ولهذا السبب هناك صيرورة للمعرفة. بعد ذلك ندرك مشروع العمل، ومعنى "فينومينولوجيا الروح":
"هذا هو مستقبل العلم بشكل عام، أو مستقبل المعرفة، الذي تعرضه "فينومينولوجيا الروح" الحالية [باعتبارها الجزء الأول من نسق فيلسوفنا].
نحن الآن قادرون على فهم معنى عنوان الكتاب الذي ندرسه هنا بشكل أفضل. ماذا يعني السعي إلى تأسيس "فينومينولوجيا الروح"؟
لكي ندرك ذلك، علينا بالرجوع إلى نهاية الكتاب. في الفصل الأخير المخصص للمعرفة المطلقة، يشير هيغل إلى أنه "لا شيء يكون معروفا إلا في التجربة". أو مرة أخرى: لا شيء يكون معروفا دون أن يكون قبلا حاصرا كحقيقة محسوسة".
هنا في المقدمة تم تلخيص هذه الفكرة كما يلي: "الوعي لا يعرف ولا يتصور سوى ما هو وجود في تجربته." مشروع يظهر إذن: يجب أن نسعى لوصف ما يختبره الوعي، وما يظهر له في تطوره التدريجي. هذا هو بالضبط المشروع الذي سيتبناه الفينومينولوجيون (بالمعنى التقليدي للمصطلح)، مثل هوسرل.
لكن ما يظهر، أو الظهور، يعني في الفلسفة "الظاهرة"، وهو مصطلح يأتي من الكلمة اليونانية "phainomenon" (الظهور). الدراسة، العلم (اللوغوس) بهذه الظواهر هو “الفينومينولوجيا”.
ومن ثم فإن دراسة الأشكال المتعاقبة التي تظهر بها الروح أمام ذاتها، وتختبر ذاتها، وتصبح واعية بذاتها، هذا هو فينومينولوجيا الروح.
هكذا يعرض هذا المؤلف المراحل المتعاقبة لتطور الروح إلى ما يصير إليه في حقيقته:
"تتطور الروح ويرتب لحظاته المختلفة؛ كلها تقدم نفسها كاشكال للوعي. العلم بهذا المسار هو علم بالخبرة التي يقوم بها الوعي".
نحن الآن نفهم بشكل أفضل العلاقة بين هذه العناصر المختلفة: الظاهرة، والتجربة، والوعي، والروح، ولماذا اختار هيجل هذا العنوان لعمله. لنلخص: لأن "لا شيء يكون معروفا وغير موجود في التجربة"، يجب علينا أن نقدم علما بالتجربة التي يقوم بها الوعي"، ويجب صياغة فينومينولوجيا الروح".
في ظل هذه الظروف، نرى أن الأمر لم يعد يتعلق بالتحدث مثل أنصار مذاهب النزعة الحماسية، و"المعرفة المباشرة" (الشيء في ذاته، الله، إلخ..).
في الواقع، المعرفة في مرحلتها الأولى، المعرفة كما هي أولا، العقل المباشر، ليست سوى وعي حسي. هذا "الوعي بدون روح" ليس سوى شكل غير مناسب، أدنى، لا نجد فيه إلا قليلا من الحقيقة.
على عكس النزعة الحماسية، التي "تبدأ كطلقة مسدس من المعرفة المطلقة"، يجب "أن نفهم أنه لكي تصبح معرفة بالمعنى الصحيح، […] يجب أن تقطع طريقا طويلا وشاقا".
وكما رأينا، فإن المراحل المختلفة لهذا المسار، والتي تمثل كل واحدة منها أحد أشكال الروح، هي ما تم عرضه في الفينومينولوجيا : "يجب تحمل طول هذا الطريق، لأن كل لحظة ضرورية – من ناحية أخرى، يجب الوقوف عند كل لحظة من هذه اللحظات، لأن كل واحدة منها هي في حد ذاتها شكل فردي كامل ولا يتم النظر إليه بشكل مطلق إلا بالقدر الذي تعتبر فيه تحديديته ككل أو كملموس".
ويتم ذلك على مستويين يجب التمييز بينهما بوضوح، من أجل فهم أفضل للمشروع الهيغلي. اولا، على مستوى العقل الكوني، الذي يتجاوز كل إنسان بعينه. هذه هي وجهة نظر تقدم العقل البشري في مسيرته عبر التاريخ. مثلا: اكتشاف الرياضيات. هذا ما يشير إليه هيجل عندما يقول أنه يجب علينا فحص الفرد الكوني، روح العالم في عملية تشكله.
لكن أيضا على مستوى كل فرد تتمثل مهمته أيضا في المرور لحسابه الخاص عبر المراحل المختلفة لهذا التقدم (من خلال دراسة الرياضيات، مثلا). إنه طريق أكثر سهولة: "يسافر كل فرد مخصوص […] في درجات مختلفة من ثقافة الروح الكونية، […] لكن مثل العديد من الاشكاب التي أودعتها الروح بالفعل، مثل مراحل الطريق المختطة والمسطحة قبلا".
فضلا عن ءلك، "لأن [...] روح العالم تحلت بالصبر لعبور هذه الأشكال في فترة زمنية طويلة ولأخذ على عاتقها العمل الهائل للتاريخ الكوني [...] الذي لا يمكن للفرد أن يستخدمه بجهد أقل في تصور جوهره. لكن في الوقت نفسه، منذ ذلك الحين، يواجه مشاكل أقل لأن ذلك في حد ذاته قد تم إنجازه. […] لا يجب علينا بعد الآن أن نحول الوجود، الوجود-هنا، إلى وجود في ذاته، بل فقط الوجود في ذاته إلى شكل الوجود لذاته".
لذلك يجب أن نضع في اعتبارنا أنه يمكننا قراءة "فينومينولوجيا الروح" وفقا لهذين المستويين من القراءة؛ لكن هيجل يمنح امتيازا للروح الكونية بطريقة معينة. إن تقدمها عبر التاريخ هو ما تم وصفه أولاً وقبل كل شيء؛ وكون هذا العقل الفردي أو ذاك يعيد إنتاج خط سير الرحلة لحسابه الخاص هو بالتأكيد أمر مثير للاهتمام في حد ذاته، لكنه يظل ثانويا.
هنا يعرض هيجل نفسه للاعتراض: لماذا يتم تقديم مختلف الأشكال غير الملائمة، غير المكتملة، غير الكاملة إذن المشبوهة قليلاً دائما، التي يتخذها على التوالي العقل، أي كيف يبدو ظاهراتيا لنفسه، بدلاً من أن يمنحنا حقيقة ما هو؟ يبدو أن هذا هو ما يمكن أن نتوقعه من كتاب في الفلسفة: أنه يعطينا الحقائق. وليس قائمة الأخطاء المتتالية التي قادتنا إلى اكتشاف هذا الحقائق:
"بما أن هذا النظام لتجربة الروح لا يفهم إلا ظهورها الظاهراتي، فإن التقدم الذي يؤدي من هذا النظام إلى علم الحقيقة الذي هو في صورة الحقيقة يبدو سلبيا فقط، ويمكننا أن نرغب في أن نبقى معفيين من السلبي، لأنه كاذب، ونضطر إلى الانقياد إلى الحقيقة دون مزيد من التأخير؛ ما الفائدة من الاهتمام بالكاذب؟"
هذا بالضبط ما نراه في الرياضيات: إنها الحقيقة التي يتم تسليمها إلينا، وليس الأخطاء المتتالية التي اقترفت قبل الوصول إلى الحساب الصحيح، أو البرهان الصحيح، أو مبدإ CQFD* ("ما كان يجب البرهنة عليه") الهندسي الشهير.
منذ القرن السابع عشر ، قاد هذا النموذج الرياضي الفلاسفة إلى التساؤل عن صحة نتائج تخصصهم. تبناه البعض، مثل ديكارت أو لايبنتز اللذين تساءلا عن تشكل “الرياضيات الكونية”، أو سبينوزا الذي أسس أخلاقه “ أكثر هندسية”، مثل مهندس، من البديهيات والقضايا المستنبطة من بعضها البعض.
ظل هذا النموذج سائدا في القرن التاسع عشر، عندما كتب هيجل هذه السطور. لكنه انخرط في نقد هذا النموذج، وهنا بالتحديد طور هذا الجهد لإعادة تقييم الفلسفة في مواجهة هذا التخصص الملكي الذي هو الرياضيات.
ذلك ما قاده إلى إعادة التفكير في مفهوم الحقيقة، وإعطاء المكانة الفضلى الكاملة للحقائق الفلسفية:
"إن التصريحات حول هذه النقطة تعيق بشكل خاص الوصول إلى الحقيقة. وهذا سيتيح لنا الفرصة للحديث عن المعرفة الرياضية، التي ترى في المعرفة غير الفلسفية المثل الأعلى الذي ينبغي للفلسفة أن تسعى جاهدة إلى تحقيقه، رغم أن جهودها، حتى الآن، ذهبت سدى".
إن إعادة التعريف الأساسية هذه، التي تكمن وراء هذا التحليل النقدي للرياضيات، هي ما سنتتاوله في السطور التالية.
رأى سيريل أرنو، وهو يواصل تلخيصه ل"فينومينولوجيا الروح" أنه يجب ألا نعارض الحق بالباطل باعتبارهما شيئين مختلفين تماما، دون أي صلة تربط بينهما. يجب أن نغلم بأن هيجل يقترح أنطولوجيا جديدة، من النوع الجدلي، لم تعد مبنية على مبدأ الهوية أو التناقض.
بخلاف ذلك، يؤكد أن الهوية تشمل الاختلاف، السلبي؛ أن الشيء يجب أن يصير نقيضه قبل أن يعود إلى نفسه ويجد هويته (وحدها الهوية التي يعاد تشكيلها - أو الانعكاس في الوجود الآخر في ذاته – وليس الوحدة الأصلية أو المباشرة هي الحقيقة)؛ وأننا بين مصطلحين متعارضين نجد دائما تركيبا يؤسس لعلاقتهما، ويوطن هويتهما في مصطلح جديد يتجاوزهما بضمهما.
لكن هذه الحركة الجدلية تتعلق أيضا بالحق والباطل ومعارضتهما:
"الحق والباطل جزء من هذه الأفاهيم المحددة التي نعتبرها، في غياب الحركة، ماهيات خاصة، حيث يقف دائما كل واحد منهما على الجانب المقابل للآخر، دون اجتماع معه ويلتزم يموقعه".
في مقابل ذلك، يجب أن ندرك أن الباطل يتوافق مع لحظة أساسية، لحظة الاختلاف. لا يمكن تأسيس هوية دون اختلاف، ولهذا السبب فإن الباطل هو لحظة أساسية من الحقيقة:
"عندما نقول إننا نعرف شيئا بطريقة خاطئة، فهذا يعني أن المعرفة غير متطابقة مع جوهرها. لكن هذه اللاهوية على وجه التحديد هي فعل تمايز بشكل عام، لحظة أساسية. وإنما من المؤكد أن هذا التمايز هو الذي تنحدر منه هويتها، وتكون الهوية الواردة هي الحقيقة. لكنها ليست الحقيقة بمعنى أنه يمكن التخلص من اللاهوية، كما يرمي الخبث المفصول عن المعدن الخالص، ولا كما ترمى أداة عبوة فارغة: بخلاف ذلك اللاهوية تندرج نفسها في إطار السلبي، الذات نفسها، ما تزال حاضرة مباشرة في الحقيقة.
ذلك ما لخصه هيجل على النحو التالي: "لا ينبغي (...) أن نعتبر الحق كالميت الإيجابي الذي يتكئ على جانبه".
ومع ذلك، فقد حرص على أن يوضح أنه ليس باعتباره باطلا يكون الباطل لحظة من لحظات الحقيقة". منظورا اليهما في وحدتهما، "لم يعد الصدق والكذب يعنيان ما هما خارج وحدتهما". يجب ألا نقع في الفخاخ التي تقودنا إليها اللغة: مثلما أن المؤسف في التعبير عن وحدة الذات والموضوع، المحدود واللامحدود، الوجود والفكر، إلخ..، كون الموضوع والذات، إلخ..، يعنيان ما هم خارج وحدتهما، وأننا لذلك لا نتناولهما في وحدة بالمعنى الذي يؤديه هذا التعبير، كذلك ليس باعتباره باطلاً يكون الباطل هو لحظة الحقيقة .
لكن يبقى أنه إذا كان الحق ينطوي على الباطل في ذاته (مفهومين بشكل صحيح، أي في علاقتهما الجدلية)، تكون طريقة عرض الحقيقة التي اقترحها هيجل في "فينومينولوجيا الروح" ملائمة.
الهدف هنا هو كشف الطريقة التي تنكشق بها الروح تدريجياً لذاتها. "الانكشاف" ليس ظهورا، بمعنى وهم مضلل، ولكنه يشكل لحظة أساسية من لحظات الحقيقة:
"الانكشاف ولادة أو اختفاء، لكنه يوجد في ذاته ولا يولد ولا يختفي، ويشكل فعالية وحركة حياة الحقيقة. من هنا مرة أخرى، يستمد مشروع فينومينولوجيا، علم ظاهرية (الروح لذاتها)، مشروعيته".
بعد هذا الاعتبار العام للحقيقة، يأتي هيجل ليفحص نوعا محددا من الحقيقة: الحقيقة الرياضياتية.
في الواقع، يبدو أن قضايا الرياضيات تفلت من هذه العملية الجدلية. كم يساوي 2+2؟ ما هو مربع الوتر (hypoténuse) في المثلث القائم الزاوية؟ يبدو أنه لا بد من تقديم إجابة واضحة على هذا النوع من الأسئلة، أي على أساس المفهوم الكلاسيكي للهوية، ولمبدأ التناقض، والهروب من أي جدلية. "2 + 2 = 4"، "مربع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين": لقد تم حل المشكلة، دون الحاجة إلى الرجوع إلى جدلية من أي نوع. إنه نفس الشيء بالنسبة للحقائق التاريخية (تاريخ ميلاد قيصر، وما، إلخ).
نرى أنه كان يجب على هيجل بالضرورة أن يجيب على هذه النقطة: إذا كانت الرياضيات، هذا النسق الملكي، تفلت من الجدل، ألا يضع ذلك هذا الأخير موضع تساؤل؟ إن الأنطولوجيا الهيجلية، الثورية في حداثتها، لن تنجو من هذه المواجهة.
لتوهما، زعزعت الجدلية والأنطولوجيا الجديدة التي تحملها، الحقل المعرفي. كان عليه أن يقترح تكوينا جديدا للمعرفة، ويحدد مكان وحدود كل علم، ويبين كيف يتم تجاوز هذه الحدود من خلال عملية جدلية، أو إذا لم يكن الأمر كذلك، يشرح لنا السبب.
تلك مهمة مداها لا نهائي، غنية بالوعود ولكن أيضًا بالصعوبات التي قد تبدو مستعصية على الحل: أليس مشروعا مثيرا للضحك تقديم نقد للرياضيات، في ضوء نجاحات هذا التخصص، وذلك دون أن تكون عالم رياضيات محترفًا؟
بطبيعة الحال، لا يتعلق الأمر عنده بإنكار حقيقة الرياضيات، بل بإظهار أن طبيعة حقيقة من هذا النوع تختلف عن طبيعة الحقائق الفلسفية. السؤال الذي يطرح نفسه: ما نوع الحقيقة التي تحيل إليها القضايا الرياضية؟ لمعرفة الجواب، المرجو متابعة المحطة التالية من هذه الجولة الحالية.
---------------------------------
(*) ce qu il fallait démontrer
(يتبع)
نفس المرجع

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟